رغم الاضطرابات الإقليمية، لم تتأثر أو تسقط أيّ من الأنظمة الملكية سوى ما شهدته دولة واحدة هي البحرين، من أزمة سياسية زعزعت نظامها. كيف نجت هذه الأنظمة من هزات الربيع العربي؟ الجواب تقدمه دراسة بعنوان:«ملوك لجميع الفصول: كيف اجتازت الأنظمة الملكية في الشرق الأوسط عاصفة الربيع العربي» للباحث غريغوري غوس نشرها مركز بوكينغز الأمريكي مؤخرا. ينطلق غوس من فحص التفسيرات التي أعطيت لهذا الصمود الملكي خلال السنوات الثلاث الماضية، ويقدم تفسيرا يرى أن الملكيات نجت من السقوط لأنها استطاعت خلال العقود الماضية من حكمها بناء تحالفات محلية داخلية مع فئات مما جعلها ملكيات تمثل مصالح وتحالفات إقليمية، بحيث أنشأت تضامنا ملكيا فيما بينها، ثم تحالفات دولية خاصة مع أمريكا وقوى الغرب. لكن قبل تقديم تفسيره، حاول غوس فحص التفسيرات التي قدمها باحثون آخرون، مثل تلك التي تقول إن الملكيات نجت لأنها تمثل أنظمة تتمتع بشرعية ثقافية أو دينية، أو الحجة الأخرى التي تقول إنها تتمتع بكفاءة في التدبير وتقديم الأفضل لمواطنيها، فكيف ذلك؟.
«انتظر قليلا، وسيسقطون» هذه إحدى التفسيرات التي تداولها أكاديميون وهم يدرسون دينامية الربيع العربي منذ انطلاقته العاصفة التي أطاحت بأربعة رؤساء دول، ولا زالت تهز عرش الرئيس السوري. يقول هؤلاء إن «الأنظمة الملكية تتزلج على طبقة جلدية رقيقة وأنها ستتعرض قريبا للديناميات نفسها التي أسقطت عددا من الجمهوريات المجاورة». ويمثل الأردن المثال الأول لهذه المناقشات، لأنه «يعجز عن تمويل نفسه، ويعتمد على جهات راعية أجنبية للحصول على المال لتغطية نفقاته». لكن للأردن سيرة ذاتية حية من قدرته على مواجهة الأزمات، فهو قد فقد جزءا من أراضيه عقب هزيمة 1967 على يد إسرائيل، وشهدت البلاد حربا أهلية بين العامين 1970 و1971، وكان المتأثر رقم واحد بأحداث إقليمية كبيرة جعلته ملجأ لعدد كبير من النازحين من فلسطين والعراق والآن سوريا، وفي سنة 1956 كان في وضع «ميؤوس منه» على حد تعبير سفير بريطاني، وهي أوضاع دفعت الملك حسين إلى عنونة سيرته الذاتية بعنوان «ليس سهلا أن تكون ملكا». لكن وحتى إبان الوضع الراهن، فقد برهن الأردن على قدرة فريدة في الوقوف غي وجه الأزمات. لذلك ليس غريبا أن يتساءل البعض عن مستقبل النظام الملكي في الأردن، لكن الغريب أن يمتد ذلك إلى ملكيات وإمارات الخليج الغنية بالنفط، خاصة السعودية، وتوقع كتاب غربيون أن يسيطر المتطرفون على نظام الحكم فيها، وأن يواجه الغرب مشاكل عدم استقرار هائلة. من أولئك الكتاب «كارين إليوت هاوس» التي توقعت في عام 2011، أن تسقط السعودية في يد «نظام متطرف معاد للغرب»، ثم كريستوفر دافيدسون الذي تحدث عن مرحلة ما «بعد الشيوخ: الانهيار القريب لممالك الخليج» وهو عنوان لكتاب صدر عنه بهذا العنوان تحدث فيه عن «حالة عدم استقرار في ممالك الخليج»، بل توقع أن يسقط النظام السعودي خلال السنوات القليلة المقبلة، واضعا بذلك حدا للنظام الملكي التقليدي في المنطقة. المؤشرات التي يعتمد عليها كل من هاوس ودافيدسون تتمثل في الانقسام وسط الأسر الحاكمة، وتزايد بطالة الشباب، وكلفة الحياة المتزايدة، وارتفاع النشاط السياسي وسط المواطنين، لكن الباحث يرد على ذلك بالقول إن هذه المؤشرات سبقت الربيع العربي خلال السنوات القليلة الماضية، لكنها لم تصل إلى درجة زعزعة الاستقرار في المنطقة. إن الاعتراف بالمشاكل شيء، والانتقال إلى تقديم أفكار تتنبأ بعدم الاستقرار شيء آخر، لا سيما حين تنجح ملكيات غير نفطية مثل الأردن والمغرب في تجاوز الأزمة والقدرة على الحفاظ على استقرارها بينما تتعرض جمهوريات بجانبها للسقوط. هذه القدرة دليل نجاح وليس دليل فشل، يقول غريغوري غوس. هناك مؤشر دال لكنه يبقى تخميني، ويتعلق بانخفاض محتمل في سعر النفط، والذي قد يؤرق ملوك الخليج، خاصة وأن ثورة في الطاقة قد تشهدها أمريكا خلال العامين المقبلين. في حالة وقع هذا، ستكون ملكيات الخليج مضطرة للمساس بأسعار النفط داخلها، وهي أسعار مدعومة محليا، وهو ما قد يتسبب في ردود فعل غير متوقعة في بلدان تعتمد على النفط في كل شيء. لكن هذه التخمينات، في نظر غوس، تتجاهل أن دول الخليج تمتلك حاليا احتياطيات مالية هائلة تراكمت منذ العقد الماضي نتيجة ارتفاع أسعار النفط. مثلا، تمتلك السعودية حوالي 700 مليار دولار على شكل أصول أجنبية تخضع لسيطرة الحكومة. وخلال سنة 2013، سيبلغ الإنفاق الحكومي السعودي 230 مليار دولار، في حين أن الإيرادات ستصل إلى 280 مليار دولار، بمعنى لو انخفضت عائدات السعودية ب 30 في المائة فهي قادرة على أن تحافظ على الإنفاق الحالي على مدى عشر سنوات قادمة. هذا يعني حسب «غوس» أن الوضع المالي لدول الخليج آمن على المدى القريب، لكنها قد تواجه أزمات اقتصادية على المدى المتوسط. إلا أن الحديث عن احتمال سقوط النظام الملكي السعودي ليس جديدا، إذ أن هذا الخطاب رائج منذ الحرب العالمية الثانية، وحدث ذلك زمن الموجة الناصرية في الخمسينات، كما حدث حين نجحت الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، ورغم ذلك استطاع ملوك السعودية في تجنب الاضطرابات وتمكنوا من الاستمرار والبقاء. السبب الرئيسي هنا أن تلك الأنظمة تمتلك مصادر إديولوجية ومادية هامة تخولها المحافظة على نفسها في ظل تحديات كبيرة عجز كثيرون عن رؤيتها.
شرعية الثقافة والدين هناك تفسيران رئيسيان لاستمرار الملكيات العربية، الأول يقول إن نجاح الملكيات في الحفاظ على الاستقرار يرجع إلى أنها تمتلك «شرعية ثقافية فريدة»، والثاني يؤكد أنها حافظت على استقرارها بسبب «أدائها في الحكومة بما في ذلك الإصلاح السياسي». تستند الحجة الأولى إلى أن النظام الملكي ينسجم مع المعايير التاريخية والثقافية العربية، فهي أنظمة شرعية. ويرى خالد الدخيل، عالم الاجتماع السعودي وأبرز المدافعين عن هذا الطرح، أن الأنظمة الملكية، باستثناء الأردن، تمتلك تاريخا طويلا على خلاف الجمهوريات حديثة العهد، وأنها أنظمة تقليدية انبثقت عن مجتمعات تقليدية، ما جعلها أكثر مصداقية من الجمهوريات، لأنها «أقرب إلى مجتمعاتها من الجمهوريات». لكن هذا الطرح يخدم ادعاءات حكام تلك الأنظمة كذلك، فهم يشددون من جهتهم على أنهم «ممثلون حقيقيون لثقافاتهم، مشددين بدرجات متفاوتة على تناغم أنظمتهم مع تاريخ دولهم، والإسلام والعادات القبلية». لذلك حذر الباحث «غوس» من حديث الشرعية هذا، لأن الشرعية مفهوم يصعب قياسه، إذ كيف يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كان الشعب يرى الشرعية في نظام معين؟. بالنسبة للحكومات الديمقراطية فهي تقِيم انتخابات دورية لدعم مطالبها بحقها الشرعي في تولي الحكم، لكن الملكيات لا تطالب بالشرعية استنادا إلى الإرادة الشعبية. من هنا يرى غوس أن الانتفاضات المتكررة ضد الملكيات يؤشر إلى مساءلة للشرعية التي تقوم عليها،. فالنظام الملكي في الأردن فشل مرارا في الاختبار بين التأكيد على شرعيته واللجوء إلى القمع لحماية نفسه من الهزات والاضطرابات. أما في المغرب، فيربط القصر وجوده بشرعية تاريخية ودينية يقول ّإنها تتناغم مع ثقافة المجتمع.. وخلال الربيع العربي تجاوز النظام الملكي في البحرين انتفاضة قوية هزت أركانه من خلال إستراتيجية القمع. كما أن السعودية فعلت نفس الأمر مع المعارضة في الداخل، ومع الانتفاضة التي تشهدها من حين لآخر في المنطقة الشرقية(الشيعية)، وفي منطقة القصيم(السنية) كذلك. لهذا، ومع ثورات الربيع العربي، بات الزعم بأن الأنظمة الملكية أكثر شرعية من الأنظمة الأخرى، مجرد حلقة مفرغة وغير مقنعة تماما. أما بخصوص التفوق الوظيفي في الإصلاح، فهي حجة قابلة للنقاش كذلك، يرى «غوس» أن هذه الحجة تقوم على عنصرين: الأول يؤكد أن الأنظمة الملكية تقدم خدمات أفضل لمواطنيها، فيما يبرز الثاني أنها أكثر قدرة على الإصلاح بفعالية أكبر من الجمهوريات. تكمن المشكلة في هذا الطرح في «فصل ثروة ملوك النفط الكبيرة عن مسألة الأداء»، إذ من الطبيعي أن يشعر سكان الخليج بالفرق في الدخل القومي مقارنة مع شعوب الدول غير النفطية، كما أنه يفصل بين الاستقرار السياسي واستقرار النظام، والاختبار الصعب لهذه الأطروحة أيضا هي أن الأنظمة الملكية غير النفطية قدمت خدمات أفضل لمواطنيها من الملكيات النفطية. أما الشق الثاني الذي يقول بالتفوق الوظيفي في مواجهة التحدي السياسي، وبالتالي القدرة على نزع فتيل المطالب المنادية بتغيير النظام، هذا طرح سبق الربيع العربي وتم الترويج له حتى بعد موجة الاستقلال الوطني، بالقول إن «النظام الملكي يناسب وظيفيا بناء الدولة». لكنها حجة لا تصدُق على كل الملكيات، ففي الملكيات الفردية مثل المغرب والأردن بدا أن ملوكها قادرون على اتخاذ خطوات إصلاحية، لكن في أنظمة الخليج حيث تحكم عائلات ممتدة، لم يحصل هناك أي ردّ فعل أو خطوة جدية نحو الإصلاح. ففي السعودية يصعب على الملك أن يُغيّر رئيس الوزراء لأنه قد يكون أحد أعمامه أو هو نفسه، وهذا لأن ثلث المناصب الحكومية يتولاها أفراد العائلة الحاكمة.
سر البقاء اتبعت الملكيات استراتيجيات مختلفة، أحدث الملوك الفرديين ثغرات في نظامهم السياسي، في حين اعتمد ملوك الخليج على النفط والقمع. لكن ليس هذا هو السبب الرئيسي بحسب الباحث «غوس»، الذي يرى أن العامل الرئيسي في تفسير قدرة هذه الملكيات على الحفاظ على استقرارها يرجع إلى التحالفات التي أنشأتها لدعم نفسها. يرأس الملوك مجتمعات متعددة الهوية تجعل الملك فوق الجميع، فلا يكون عضوا ضمن أي من المجموعات المتنافسة، هذا يمنحهم القدرة على وضع أنفسهم على مسافة رمزية ومؤسسية من الصراع السياسي. لكن هذا التفسير يلتقي مع الصورة التي يرغب الملوك في تسويقها عن أنفسهم. ف«الملوك ليسوا حكاما محايدين بين أحزاب متنافسة، بل ممثلين لمصالح فئات معينة، ويربطون استمرار النظام الملكي باستمرار مصالح تلك الفئات». وعند الأزمات يعتمد الملوك على تلك الفئات للحصول على الدعم. في هذا السياق يجب فهم علاقة الثروة النفطية باستمرار الأنظمة، فالنفط لا يضمن الاستقرار في حد ذاته، ولا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار كذلك، الحقيقة أن الثروة النفطية تمكن الأنظمة التي «تستخدمها بحكمة من توسيع تحالفاتها التي تقدم لها الدعم واضعة حدا لمظاهر الصراع السياسي المحتدم». بناء التحالفات على المستوى الداخلي بين النظام الملكي الذي يستخدم الثروة والسلطة لتوسيع تحالفاته، لا تقتصر على ذلك، بل أنشأت الملكيات فيما بينها تحالفات وشبكة فعالة من الدعم المتبادل في أوقات الأزمات تقوم على التضامن الملكي الذي يزيد من مواردها الفردية عن الحاجة. أما على الصعيد الدولي، تقيم كل الملكيات العربية تحالفات قوية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى الغربية. بالنسبة للمغرب تمثل فرنساوأمريكا خير حليف للنظام الملكي الحاكم، ولطالما «كانت مساعدة الغرب أساسية للملوك الذين واجهوا مخاطر دولية أو اضطرابات داخلية مسلحة». لكن أمريكا والقوى الغربية تبقى أقل فائدة حين تواجه هذه الأنظمة احتجاجات شعبية ضخمة، لكن التحالفات التي تنشئها الملكيات مع مختلف الأحزاب والفئات في المجتمع والدولة تساعدها على المرور من أوقات الأزمات بفعالية أكبر. لكن تبقى قدرة الأنظمة الملكية على مواجهة آثار الربيع العربي محدودة في الزمن، هناك تحديات قادمة أهمها التغيير الإيديولوجي. وخلال السنوات الثلاثين، يبدو أن موجة الديمقراطية العالمية وصلت إلى العالم العربي، ومن المستحيل أن تتجنب الدول التي شهدت اضطرابات تنظيم انتخابات لتدبير الصراع على السلطة. فالديمقراطيات الناشئة في بعض الدول العربية سيكون لها تأثير إقليمي قوي سيؤدي إلى الديمقراطية في بقية البلدان. خصوصا وأن ثمة شعورا متزايدا بعدم وجود بديل صالح للسياسة التي تشهد تزايدا في وثيرة الديمقراطية كأساس لشرعية النظام والاستقرار في العالم العربي.
بين الملكيات الفردية والملكيات الممتدة مراقبة سلوك الأنظمة الملكية إزاء تحديات الربيع العربي كشف بجلاء عن هذا الفارق المهم بين الملكيات التي يحكم فيها الملك كفرد، ونظيرتها الخليجية التي يحكم فيها الملك مع عائلته الممتدة. في المغرب أو الأردن، لم يستجب النظام الملكي فيهما إلى كل المطالب تلبية للاحتجاجات، بل حافظ كل منهما على معظم سلطاته التنفيذية. وفي نفس الوقت تمكنا(الملك محمد السادس والملك عبد الله) من القيام بخطوات «لتحقيق قوة برلمانية أكبر وإصلاح ديمقراطي نتيجة الضغط الشعبي، ما ساعدهما على الحفاظ على عرشهما». في المغرب، تحرك الملك محمد السادس سريعا استجابة للاحتجاجات، ووعد بتغيير دستوري، كما وعد بتعيين رئيس الحزب الأول في الانتخابات رئيسا للحكومة. وحظي الدستور بتصويت إيجابي. النتيجة أن «الإصلاح السريع» الذي قام به الملك «أفقد احتجاجات الشارع المغربي زخمها». ثم ركز العمل السياسي على الانتخابات، لكن نسبة التصويت التي بلغت 45% «لم تكن تأييدا مدويا للإصلاحات الجديدة». وخلال عام ونصب من أداء حكومة بنكيران تأكد أن «تغييرات دستور العام 2011 لم تأت بأي تغيير مهم في السلطة الحقيقية» إذ «لم يتحدَّ رئيسُ الوزراء الملكَ في المسائل المهمة»، و»استمر موظفو القصر في التدخل في مسائل الدولة التي تعتبر في الأنظمة الملكية الدستورية الأوربية حكرا على الحكومة». وبالتالي «قوّض الملك محمد السادس الاحتجاجات، لكن بقي مسيطرا على سلطات الملك الأساسية». أما الملكيات السلالية في الخليج، فقد نجت من اضطرابات الربيع العربي بإتباع استراتيجيات مختلفة عن المغرب والأردن، فهي لم تكن قادرة على أن تلعب «لعبة الإصلاح السياسي»، لأن أي تغييرات على هذا المستوى تعني انتزاع سلطات من الأسر الحاكمة، في السعودية مثلا أقال الملك عبد الله أربعة وزراء لكن لم يكن بإمكانه أن يقيل رئيس الوزراء لأنه هو نفسه. أما في البحرين فالأمر يعني إقالة الملك لعمه، وفي قطر يعني إقالة الملك لابن عمه، وفي الكويت يعني طرد الملك لابن أخيه. وفي حين تمكن الملك محمد السادس من تعيين رئيس وزراء إسلامي من عامة الشعب، يبدو ذلك غير ممكن في الملكيات السلالية الخليجية. لذلك لجأ ملوك الخليج إلى تعبئة الشرطة، والتضييق على المعارضة السياسية. وفي حين أحدث المغرب والأردن ثغرات في نظامهما السياسي، اتبع الخليجيون أسلوبا معاكسا.