لا حديث للإخباريين والنمامين والبصاصين والناس العاديين وغير العاديين سوى عن المسيح الجديد.. عن يسوع الزودياكي.. عن المخلص القادم من وراء البحار، لينقل المتعبين والحيارى والمستضعفين من ضيق الجنوب إلى فسحة الشمال، ومن ظلم المخزن نحو عدل بني الأشقر، ومن قطران “البلاد” نحو عسل المستعمر السابق.. ولا أحد يعرف هوية هذا المنقذ من “الضلال”، فحتى تهمة الاتجار في المخدرات التي ألصقت به من طرف التبريريين الجدد، قوضها العائد من تلك الرحلة العجيبة، التي سيتداول أخبارها خلف عن سلف في السنين المقبلة، والذي حكى لموقع محلي بطنجة، أن “الروبن هوديين” لم يكن بحوزتهم مخدرات، ولم يطلبوا منهم مالا ولا مقابلا. طبعا، فيما وقع ويقع، وخلف الفيديوهات المتناسلة عن الهجرة العلنية نحو الضفة الأخرى ثمة “إن” و”كيف” “ولماذا”، ثمة علامات استفهام تنتصب كإشارات ضوئية، لتقول: أشياء ما تنقصنا، لا شيء واحد. وككل مرة، وعند حدوث ما يعكر صفو الرتابة التي تسوقها السلطات دليل استقرار، ولا تقرأ فيها السكون الذي يسبق العاصفة، تتناسل تحليلات شعب “الفيسبوك”، بموازاة مع تلويح وزارة الداخلية بورقة التهديد بمتابعة من روج لخبر زائف، رغم أن الأخبار الزائفة الكاذبة هي التي تقصفنا به تصريحات المسؤولين يوميا عبر تلفزة الازدهار المفترى عليه، وهذه المرة أضافت عبقرية الحكومة بلاغا يهدد كل من يشجع الهجرة السرية التي نضجت فأصبحت علنية، دون الانتباه أن الحكومة وأفرادها وأقوالهم وأفعالهم من الأسباب “الموجبة” لموجة النزوح هذه، فالهجرة لمن استطاع إليها سبيلا توثقها كاميرات الهواتف التي “ستحرك” بدورها، لتقوم بمهمة التوثيق التاريخي، لنوع جديد من المعارضة للكيفية التي يحكم بها البلد، وكما المعارضة الجذرية انتقلت من العمل السري نحو العمل العلني، فكذلك تحولت الهجرة السرية إلى هجرة علنية، وأضحت أشبه بالقطاع غير المهيكل. يقول البعض إن الاتحاد الأوروبي متواطئ مع المغرب، والهدف إفراغ شمال المغرب (وبالخصوص الريف) من شبابه تنفيسا للمخزن واحتياطا من مستقبل قد يعيد عقارب الساعة إلى زمن توترات لا تنتهي إلا لتبدأ، وهو تحليل يعوزه الكثير لكي يستقيم، فأوروبا أضحت خائفة من هجرات غير متحكم فيها، وحكومات اليسار واليمين لن تقدم على تقديم هدايا مجانية لليمين القومي المتطرف، والاتحاد الأوروبي له من الوسائل ما يجعله يستقبل مهاجرين بطريقة غير الهجرة السرية تؤمن له التحكم في الأعداد والأشخاص بما يحفظ أمن بلدانه من تسرب المتطرفين والمافيوزيين.. قد نتفق أن هناك شيئا مريبا يقع في شمال المغرب، فمع الصرامة في ترحيل المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء نحو وجهات داخلية (خصوصا تزنيت)، صرامة لحقت حتى القاصرين الذين يحاولون الحريك، والذين يعتبرون مصدر شكاوى الأوروبيين من تهاون المغرب في مراقبة حدوده، يقع بالموازاة شبه تغاض عن القوارب التي تنطلق بشكل شبه يومي في الشريط الممتد من العرائش لغاية الناضور، هل يتعلق الأمر بتطور أساليب مافيات التهجير السري/ العلني؟ أم هو تغاض مقصود ومخطط له لغايات لا يعلمها سوى المتغاضون في “الفوق”؟ إحدى الصديقات علقت على تدوينة لي، بإشارة إلى الوجوه المبتسمة والضاحكة في عملية العبور هذه، فعلى عكس زمن قوارب الموت في التسعينيات، حيث كل شيء كان يتم تحت جنح الظلام، وكان الخوف هو سيد اللحظة: الخوف من مداهمة الأمنيين، والخوف من البحر، والحزن على فراق الأهل والبلد، نطالع في الفيديوهات شبابا غير خائف من مداهمة حرس الشواطئ، ومهاجرا في ساعات النهار الأولى، والأهم والموجع أنه غير متحسر ولا حزين لمفارقة البلد، فتكاد تلك القوارب تنطبق عليها آية: “ومن أحياها، فكأنما أحيى الناس جميعا”. بين هتافات الشباب في مرتيل: “الشعب يريد الحريك فابور”، وهتافات مواطنين بعين السبع: “الشعب يريد إسقاط الجنسية”، لا نملك سوى خوف على البلد، وخوف من حاكمي البلد، وخوف من صمت نخب البلد.. فالضغط هذه المرة قد لا يولد انفجارا، بل كفرا بالبلد ووالد وما ولد.