اسعيد بنيس – أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط كيف تتابع الجدل حول لغة التدريس؟ اقترن الجدل حول لغة التدريس بعدة قنوات، منها ما يحيل على التاريخ، ومنها ما يرتبط بالإيديولوجيا، ومنها ما له صلة بالقوانين المحددة لمنظومة التربية، ومنها ما ينهل من المرجعية الدينية، ومنها، كذلك، ما يركز على المقتضيات الدستورية التي تحدد المسألة اللغوية بالمغرب. فمجموع هذه القنوات في النقاش العمومي كانت رهينة تمثلات اجتماعية للغة المدرسة. يمكن ترتيب هذه التمثلات في مصفوفتين، الأولى ترتبط بطبيعة الوعي اللغوي لدى المغاربة، والذي يتغذى من دينامية اجتماعية رسخت صفة «اللغة الراقية» واللغة المعيارية كلغة للمدرسة، أما ما سواهما فلا يمكن أن يلج أسوار المدرسة. والثانية، تندرج في خانة تطلعات نخبوية تعتبر أن لغة المدرسة يتوجب أن تكون لغة متداولة ومستعملة في المعيش اليومي لكي لا تشكل لغة المدرسة حاجزا في التعلم والتحصيل واكتشاف العالم. اعتمادا على هذه المنطلقات، وارتكازا على التجارب الدولية لا يمكن للدارجة في الحالة المغربية أن تلعب دور لغة المدرسة لأنها ليست لغة معيارية، بمعنى أنها لغة شفوية ولا تنضبط لقواعد اللغة المكتوبة، بل إن تجلياتها اللفظية والمعجمية المعتمدة في الكتاب المدرسي تحيل على تنويعة لغوية بعينها وتترك جانبا التمظهرات الترابية للتنويعات الأخرى، التي ترتبط بمجال من المجالات الثقافية المغربية، من قبيل المجال «العروبي» أو المجال المديني أو المجال الجبلي أو المجال الحساني…. لهذا، فولوجها المدرسة مستقبلا كلغة تدريس يتوجب إعمال وتفعيل آليات التهيئة والتخطيط اللغوي من قبيل التقنين والتقعيد والمعيرة. فهذه الآليات لا يمكن الشروع فيها والخوض في تداعياتها إلا بعد مراجعة دستورية تلحق صفة من الصفات الاعتبارية بالدارجة، كما هو الشأن فيما يتعلق باللغة الأمازيغية واللغة العربية. ما هي تداعيات وخلفيات الجدل حول اللغة والهوية؟ قبل الخوض في تداعيات وخلفيات الجدل حول اللغة والهوية يجب التمييز فيما يتعلق باللغة بين لغة ذات حقينة هوياتية، ولغة ذات حقينة وظيفية. من هذه الزاوية وفي الحالة المغربية يمكن أن تشكل العربية وتنويعاتها المغربية (الدارجة) والأمازيغية وتنويعاتها المغربية (تشلحيت وتريفيت وتمزيغت…) منظومات لغوية هوياتية تحيل على الانتماء والعيش المشترك. أما وظيفيا، بمعنى أن اللغة تضطلع بدور ووظيفة لغة المدرسة ولغة التمثيلية الدولية، فلا يمكن للتنويعات العربية أو الدارجة والتنويعات الأمازيغية أن تلعب هذا الدور، لا سيما أن هذا الدور منوط بلغات ذات صفات اعتبارية بعينها وذات شرعية مؤسساتية، أي أن تكون اللغة معترف بها دستوريا، وأن تكون إما لغة رسمية أو لغة وطنية أو لغة جهوية أو لغة أقليات. من هذا المنطلق، وفي الحالة المغربية لا يمكن لتداعيات وخلفيات الجدل حول اللغة والهوية إلا أن ترسو على اللغتين العربية والأمازيغية في صيغتهما المعيارية وبصفتهما الرسمية للوصول إلى اللتمكين الهوياتي للمغاربة في علاقته بالعمق الترابي للثقافة واللغة والقيم والدين. فجميع الدعوات المطالبة بإدراج الدارجة في الجدل حول اللغة والهوية تعدو أن تكون إقصاء مباشرا، ليس للعربية في صيغتها المعيارية الرسمية، على اعتبار أن الدارجة هي مجموع التنويعات الترابية للغة العربية، ولكن للغة الأمازيغية التي هي لغة رسمية. فهذه الأخيرة أضحت خارج التداول حول تمفصلات الهوية واللغة. ففي هذا السياق، يمكن أن نستشرف استقالة العربية والأمازيغية وأن الدارجة ستتحول إلى لغة هوياتية ووظيفية تمثل جميع المغاربة (متكلمي الأمازيغية ومتكلمي العربية) وتتعايش في المدرسة وفي الفضاء العمومي مع اللغات الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية). كيف توظف السلطة والأحزاب مسألة الهوية واللغة في الصراع ؟ يمكن في هذا الصدد أن نتساءل إذا كان هذا السيناريو الأخير (تعويض العربية والأمازيغية بالدارجة)، فيما يخص مسألة اللغة والهوية يخدم مصلحة السلطة والأحزاب. بالطبع لا، وذلك لأنه في الراهن السياسي المغربي لغتا المدرسة دستوريا هما العربية والأمازيغية في صيغتهما المعيارية، مع خيار الانفتاح على اللغات الأجنبية بحسب الأهداف الوظيفية والتنموية والحفاظ وحماية التعبيرات الثقافية والتنويعات اللغوية المحلية (كموروث لا مادي) عبر إحداث المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، كما يوضحه منطوق الفصل الخامس من دستور 2011 . فارتكازا على منطوق هذا الفصل فصفة لغة رسمية تمت إلى العربية والأمازيغية في صيغتهما المعيارية، أما الدارجة من خلال تنويعاتها المحلية فتندرج تحت مسمى ما يعرف في أدبيات اللسانيات الاجتماعية بلغة التداول المجتمعي، التي تمكن المجموعات الناطقة بلغات مختلفة أن تتفاعل وتتواصل فيما بينها في تراب معين، أي إنه في الحالة المغربية تمكن وتسهل التواصل بين الناطقين بالعربية فيما بينهم، والناطقين بالأمازيغية فيما بينهم، وكذلك بين متكلمي الأمازيغية ومتكلمي العربية. فاعتماد الدارجة لغة هوياتية ولغة للتدريس كسيناريو محتمل، وليس فقط توارد مفردات بعينها في الكتاب المدرسي للإحالة على ما هو محلي وثقافي، وهو ما يدخل من زاوية نظر اللهجيات في ما يسمى بالاقتراض المعجمي، سيشكل خرقا دستوريا وتراجعا مؤسساتيا وسياسيا، لا سيما إذا تمت مقارنته بوضعية الأمازيغية، اللغة الرسمية. لذا، يمكن أن يؤدي سيناريو إقحام الدارجة كلغة تدريس ولغة هوياتية وإقصاء الأمازيغية التي نص الدستور على أن تلعب وتضطلع بهذا الدور، إلى تفشي سلوك العصيان والنفور من كل ما هو مؤسساتي وحزبي، وتجدر التمثلات الاجتماعية السلبية إزاء المدرسة العمومية، واختلال منظومة العيش المشترك والرابط الهوياتي وتقويض منظومة السلم الاجتماعي بالمغرب. لماذا لم يحسم المغرب مسألة اللغة؟ أعتبر أن المغرب حسم في مسألة اللغة من خلال الانتقال السياسي من دولة الأحادية اللغوية إلى دولة الثنائية اللغوية. انطلاقا من مقتضيات دستور 2011 انتقل المغرب من دولة لغتها واحدة (العربية) في ارتباطها بعنصر بشري واحد (العرب)، إلى دولة ثنائية اللغة (اللغة العربية واللغة الأمازيغية) ترتبط بمجموعتين بشريتين الأمازيغ والعرب. فهذا الانتقال له تداعياته الجيوسياسية حيث أصبح المغرب، بحسب منطوق الدستور، لا ينتمي إلى «المغرب العربي»، بل إلى «المغرب الكبير»، بمعنى أن المحدد الأساس في الانتماء ليس العنصر العربي واللغة العربية وحدهما، بل هناك عناصر مزيجة أخرى منها.. لا للحصر العنصر واللغة الأمازيغية. في هذا السياق، يمكن اعتبار المغرب والعراق نماذج يُحتذى بها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا للدول التي تحولت من دول الأحادية اللغوية الرسمية (العربية)، إلى دول الثنائية اللغوية الرسمية (العربية والكردية في الحالة الأولى، والعربية والأمازيغية في الحالة الثانية). وفي هذا الخضم يمكن سرد أمثلة دولة الجزائر التي اعترفت ب «تمازيغت» لغة رسمية في 2016 إلى جانب العربية، وليبيا التي أقرت في مسودة دستورها الأمازيغية لغة وطنية إلى جانب العربية لغة رسمية . فالحسم في المسألة اللغوية حوّل المغرب من انتماء رمزي هوياتي ولغوي: «المغرب العربي»، إلى انتماء مادي جغرافي ترابي: «المغرب الكبير».