لم يكن يعتقد أن نشوة ساعات في جلسة خمرية مع أصدقائه ستكون سببا في تدمير حياته، وتحوله من شاب له طموحات وأحلام إلى مدمن، همه الوحيد هو الحصول على لفافة "هروين". البداية كانت بحب الاكتشاف والفضول فقط، مقررا أنه لا يمكن أن يدمن، وأنه يستطيع التحكم في نفسه، وفي جرعات المخدر، لكنه بعد شهور من التعاطي المتقطع وجد نفسه عبدا لمخدر الهروين. لكل مدمن قصته، لكن خيوطها تؤدي إلى النتيجة نفسها، حياة مسلوبة ومنبوذة، عبودية تامة للمخدرات، فضلا عن الوحدة، وفي النهاية السقوط في مستنقع الإجرام والانحراف. محمد، طالب لازال في مقتبل العمر، وجد نفسه فجأة مدمنا على "الهروين". يحكي بدايات تعاطيه قائلا: "في البدء كنت أجرب للاكتشاف فقط، بعد إلحاح من طرف أصدقائي، لكن مع مرور الوقت وجدتني في حاجة دائمة إلى تلك الجرعة، تعاطيت في بداية إدماني ل"لكوكايين"، وبعدها جربت "الهروين" نظرا إلى ثمنه المنخفض مقارنه مع المخدر الأبيض"، يصمت لبرهة يتأمل الشارع وهو يعيد شريط الأحداث المليء بالألم والحسرة، ثم يضيف: "كنت طالبا في كلية الحقوق بمدينة طنجة، إدماني لم يكن مخططا له. في البداية كان المال الذي يرسله لي والداي يكفيني، لكن مع ارتفاع الجرعة التي كنت أتعاطها كان ينتهي مصروفي في بداية الشهر، مما كان يجعلني أؤلف القصص كي يبعث لي والدي مالا إضافيا، لكن مع مرور الوقت وجدتني أبحث عن مورد مالي آخر، فعملت على توزيع المخدرات". الإدمان قاد محمد من حياة العلم والمعرفة ليدخله إلى عالم الاتجار بالمخدرات وبعدها إلى عالم الإجرام، "ابتعدت عن زملائي وعن عائلتي وعن الجامعة، كنت دائما في حاجة إلى أن أكون وحيدا أو رفقة من يتعاطون المخدرات مثلي، رغم أن إدماني صار أمرا واقعا، لكن لم أكن أتقبل الأمر، كان دائما الطالب الطموح يصحو بداخلي، لكن مع مرور الوقت أقبرته، خصوصا بعد ما وجدتني أقف أمام المحكمة أواجه تهمة الاتجار في المخدرات". سِجنُ هذا الأخير شكل صدمة لعائلته وله، إذ بعد نطق القاضي بالحكم، القاضي بسنتين سجنا نافدا، أُسدل الستار على حياة الطالب لتبدأ مرحلة المدمن، الذي يبيع كل شيء من أجل الحصول على جرعة مخدر. قصة أخرى لا تختلف عن قصة محمد، إذ يحكي سعيد، البالغ من العمر 34 سنة والقاطن بمدينة مارتيل، أن رحلة إدمانه بدأت بتشجيع أحد أصدقائه له على تناول مخدر "الهيروين"، غير أنه بعد تكرار تلك العملية لمرات بدأ هو الآخر يبحث عن تلك النشوة والإحساس الذي ينتابه بعد تناول جرعة من المخدر، إلى أن صار مدمنا يحتاج إلى أربع جرعات في اليوم، مما جعله يخسر كل ممتلكاته ويبيع سيارته وحتى ملابسه لاقتناء "الهروين"، وبعد سنة من إدمانه وجد نفسه في الشارع بعدما طرده والده من البيت. سعيد يبدي رغبته في العلاج، لكنه لم يصله الدور بعد، حيث كشف في حديثه ل"أخبار اليوم" أنه قرر الإقلاع عن "الهروين" والعلاج الذاتي من خلال أخذ جرعات "الميثادون" التي يقتنيها من المدمنين الذين يتعالجون بمركز علاج الإدمان في تطوان، لكن عددا من الأطباء حذروه من هذه العملية لأنه وارد جدا أن يموت نتيجة الجرعة الزائدة من هذا الدواء البديل، لكنه يقول إنه يفضل الموت بجرعة زائدة من دواء "الميثادون"، على أن يموت بجرعة "الهروين". طقوس خاصة هناك طقوس خاصة للمدمنين على الهيروين. إذ تجعلهم يبتعدون عن أعين الناس، ويختبئون في أماكن مهجورة، إذ إن أول ما يقوم به المدمن بعد استيقاظه من النوم، هو البحث عن بائع المخدرات لاقتناء لفافات المخدر، بعض المدمنين يدخنون تلك اللفائف، والبعض الآخر يحولها إلى سائل قابل للحقن من خلال حرق تلك الجرعة فوق ورق الألمنيوم، حيث يجلسون القرفصاء في شكل حلقات ويشرعون في تناول تلك الجرعات كل بطريقته. يحكي أحد المتخصصين في علاج المدمنين، أن الألم الذي يشعر به مدمن الهروين بعد استهلاك جسمه للمخدر، الذي حقنه به، يوازي ألم المخاض والولادة بالنسبة إلى امرأة أربع مرات، إذ إنه في حاجة دائمة إلى تزويد جسمه به لتسكين الألم ولو لمدة قصيرة، وهو ما يجعل المدمنين يبيعون كل ممتلكاتهم وأغراضهم، وفي بعض الأحيان بيع أنفسهم من أجل الحصول على جرعة واحدة. أحد الشباب، الذي التقينا به صدفة أمام مركز طب الإدمان بمدينة تطوان، روى ل"أخبار اليوم" كيف يتعرض المراهقون المدمنون للاستغلال الجنسي من أجل الحصول على المخدر، وكيف تستغلهم شبكات الاتجار في المخدرات أمام المدارس، وفي الأحياء مقابل توفير جرعة الاستهلاك الفردي. مخدر الهروين يتم جلبه من مدينة سبتةالمحتلة، إذ يوجه لمدينة تطوان ونواحيها التي توجد فيها أكبر نسبة مدمنين بمنطقة الشمال، والمقدرة بأزيد من 10 آلاف مدمن، وذلك وفق المعلومات التي حصلنا عليها من جمعية الوقاية من أضرار المخدرات فرع تطوان، وهي الجمعية التي ترافق المدمنين من الناحية النفسية والاجتماعية في رحلة العلاج، حيث تشكل الفئة العمرية المتراوحة ما بين 23 إلى 40 أزيد من 50 في المائة من المتعاطين، فيما تنحصر فئة المراهقين في 20 في المائة. وتختلف ظروف وأسباب السقوط في شراك الإدمان من شخص لآخر، فمنهم من تعرف على عالم المخدرات أمام باب الثانوية، فكان لقمة سهلة في فم المروجين، ومنهم من دفعته ظروفه الاجتماعية الصعبة إلى ولوج هذا العالم من باب التجارة، طمعا في اغتناء سريع، وآخرون دفعتهم المشاكل الأسرية وانفصال الوالدين إلى الخروج للشارع للسقوط بسرعة في شباك الإدمان، بالإضافة إلى أن منطقة الشمال تعتبر سوقا نشيطة لترويج المخدرات نظرا إلى قربها من المصدر، وأيضا تعتبر من أكثر المناطق إنتاجا للحشيش. حلم العلاج من الإدمان يبدو مبنى مركز طب الإدمان بمدينة تطوان، منذ الوهلة الأولى، عاديا وليس خاصا لمعالجة الإدمان، إذ يوجد في مكان معزول في مدخل مدينة تطوان، على بابه يجلس حارس ببذلة تميل إلى لون رمادي، بالقرب من المبنى يجلس ثلاثة شبان يدخنون مادة الحشيش، يتحدثون بصوت مرتفع عن الإدمان، وعن رغبتهم في العلاج، لكنهم لا يجدون مكانا في المركز. عند دخولنا المركز دلف إلى الفناء الداخلي في الطابق الأول المخصص لجمعية الوقاية من أضرار المخدرات، شاب يبدو في عقده الثالث، حيث قصد رئيس الجمعية، وعلامات التأثر بادية عليه، اقترب منه وعانقه وهو يردد: "أستاذ أريد أن أتعالج، لا أريد أن أموت وأنا على هذه الحال، عفاك عاوني بغيت حتى أنا ندير مستقبلي ونتزوج وندير وليدات ونقطع هاذ السم". من جهته، حاول رئيس المركز احتواء الوضع والتحدث بهدوء إلى الشاب ومحاولة إقناعه أن العلاج ليس بيد الجمعية، لكن بيد القطب الطبي هو من يحدد من سيستفيد من العلاج وأن مهمة الجمعية هي الترافع عن ملفه لقبوله فقط. الشاب قال إنه منذ سنة 2015 وهو مسجل في لائحة الراغبين في علاج الإدمان عن طريق الدواء البديل "الميثادون"، لكن لم يصله الدور بعد. الشاب الذي بدا غير مقتنع بحديث رئيس الجمعية، عاد ليؤكد أنه أتبث للمشرفين على المركز أنه فعلا يريد الإقلاع عن المخدر، وبدأ العلاج من خلال مشاركته في الأنشطة المنظمة وتطبيق تعليمات الجمعية فيما يخص الوقاية، وأن هدفه هو بداية حياة جديدة خالية من المخدرات والإدمان وأن يعود إلى حالته الطبيعية. لائحة الانتظار في المركز، وفق المعطيات التي حصلنا عليها، تجاوزت 2000 مدمن، في حين يستفيد من العلاج ما يفوق 380 شخصا. جواد الدهري، رئيس الجمعية، قال في حديثه ل"أخبار اليوم" إن المركز يعالج مئات المدمنين الذين يحتاجون إلى رحلة علاج قد تستمر لأزيد من ثلاث سنوات، وفي بعض الحالات العمر كله، موضحا أنه يتوافد على الجمعية مئات من المدمنين الراغبين في الإقلاع عن هذه السموم، وبعضهم يرغب في المساعدة للتعاطي بشكل آمن، وهو ما تقوم به الجمعية من خلال مصاحبتهم على المستوى النفسي والاجتماعي خلال وقبل بداية العلاج، وأثناء التعاطي، مشيرا إلى أنه لا توجد أرقام معلنة دقيقة تخص مدمني هذا المخدر، حيث إن خريطة استهلاك وتعاطي "لهيروين" تعرف تناميا يوما بعد آخر، وهناك عشرات من المتعاطين غير معروفة أماكنهم. وحسب الدهري، فإن نسبة كبيرة من المدنين مصابون بأمراض خطيرة، مثل داء فقدان المناعة المكتسبة "السيدا"، أو التهاب "الفيروس الكبدي سي"، خاصة المدمنين الذين يتعاطون عن طريق تبادل الحقن بشكل جماعي، إذ تحاول الجمعية التقليل من هذه الأضرار من خلال تمكينهم من طرق التعاطي الآمنة، عبر توفير حقن والأدوات المستعملة في التعاطي. كما تعمل الجمعية على تقديم المساعدة للمدمنين غير المستعدين بعد للتخلي عن عالم المخدرات، من أجل تفادي الآثار السلبية، وذلك بتزويدهم بالعوازل الطبية والحقن بغية الحيلولة دون انتقال هذه الأمراض. ورغم أن الخاضعين للعلاج ب"الميثادون" يمكن أن يقلعوا عن الإدمان، لكن حسب رئيس الجمعية، فإن عددا كبيرا من المرضى يتعرضون للانتكاس، حيث إن الإقلاع النهائي ومن الوهلة الأولى يعتبر استثناءً، موضحا أن الإقلاع الفوري والنهائي لا يتأتى حدوثه إلا بعد شهور، وفي أحايين أخرى يحتاج إلى سنوات من بدء العلاج.