غالبا ما نغفل، خلال حديثنا عن مأساة شباب تطوان ضحايا الإدمان عن المخدرات القوية كالهيروين، التطرق إلى المعاناة الكبيرة لعائلات هؤلاء، خصوصا الأمهات مع فلذات أكبادهن. فثقل الإدمان على الهيروين، أو الطاعون الأبيض، الذي ينخر في صمت صحة وحياة هؤلاء، ينزل على كاهل الآباء والإخوة والأمهات، اللائي يحاولن قدر الإمكان توفير ثمن لفافات الهيروين لأبنائهن وبناتهن، حتى يبقوا في منأى عن التعاطي للإجرام أو الدعارة لكسب ثمن الجرعة. في هذا الربورتاج دخلت «المساء» شقق هؤلاء، واستمعت إلى معاناة الأسر مع هذه الآفة، كما رصدت الحياة اليومية لأفراد أزيد من 10 عائلات، منهم سيدة باعت كل أملاكها وأرضها في الريف، التي ناهز ثمنها 300 مليون سنتيم، صرفتها على عشر سنوات من إدمان ابنيها وعلى توفير ثمن اللفافات اليومية لهما. «صرفت أكثر من 300 مليون سنتيم من أملاكي ب»باب برد» على إدمان ابني محمد على الهيروين وأخيه المدمن كذلك، الذي يقضي حاليا عقوبة سجنية». بهذه العبارة استقبلتنا نزيهة ببيتها وهي في حالة شديدة من الغضب. فالأم التي ورثت أرضا وأملاكا في الريف خسرت كل ما تملك على إدمان ابنيها. أحدهما بدأ يتعاطى الهيروين منذ 14 سنة. وتضيف نزيهة، بحسرة بالغة، أن أحد أبنائها، البالغ من العمر حاليا 31 سنة، لم يكن في أي لحظة منحرفا أو مدمنا. وأضافت بأنه من عائلة محترمة وجده كان برلمانيا سابقا. لكن شاءت الصدف الماكرة أن يجرب تدخين لفافة يوما ما، فتحول ذلك إلى إدمان فظيع، مازالت كل يوم تحاول فيه علاجه منه، حيث أجرت له العديد من الكشوفات الطبية وأخضعته للعلاج النفسي، بمواردها المالية الخاصة، دون جدوى. غير بعيد عن منزل نزيهة، تستقبلنا سيدة أخرى تدعى سعيدة. تحكي بنفس المرارة والألم عن معاناة الأسرة مع ابنيها المدمنين على الهيروين. فالأب الذي يشتغل بالمنطقة الصناعية بتطوان لا يستطيع توفير ثمن لفافات ولديه. «لقد أصبت حاليا بمرض الأعصاب الذي أنهك صحتي، والأب يعيش عذابا يوميا»، تقول سعيدة، مضيفة بأن لها ثلاثة أبناء آخرين من بينهم فتاة، وأن عليها تدبير أحوالهم العائلية. وتقول بألم إنها اضطرت في إحدى المرات إلى إيداع ابنها بضريح «بويا عمر» عله يشفى من الإدمان، لكن دون جدوى. «أبنائي يريدون العلاج، لكن يبدو أن هذه الفئة من المواطنين أصبحوا لا يثيرون اهتمام الدولة ولا وزارة الصحة «، تندد سعيدة، قبل أن تغادرنا إلى بيتها. في شارع عبد الله بن الزبير توجد العديد من الأسر تتقاسم فيما بينها معاناة إدمان أبنائها على الهيروين. فلم نكد نطرق باب فاطمة المودن، حتى فاجأتنا بما حدث لها في صباح نفس اليوم. لقد سرق ابنها المدمن قنينة الغاز الوحيدة التي كانت في المطبخ، وباعها لأحد الأشخاص من أجل توفير مبلغ 20 درهما، الذي يعادل ثمن لفافة الهيروين. وتسرد الأم، التي تعمل خادمة لدى إحدى الأسر بحي سفير، محنتها التي لا تنتهي مع إدمان ابنيها (عادل من مواليد 1984 ومحمد البالغ من العمر30 سنة). تدخل الأم إلى غرفتها البسيطة، وتنفض الغبار عن صورة تعود إلى ابنها قبل الإدمان. «شوف آبني كيف كان عادل.. زهرة في ريعان شبابه.. انظر إلى ملابسه، لم أكن أبخل عليه بشيء»، تقول فاطمة، قبل أن ترينا صورة أخيرة له، حيث أصبح مجرد هيكل عظمي. ونحن في خضم الحديث مع الأم، يدلف باب المنزل ابنها وعلى وجه ابتسامة صفراء. نهرته الأم وهي في حالة من الغضب على سرقته قنينة الغاز الوحيدة وبيعها، لكن الابن كان هادئا وفي حالة من النشوة بعدما أخذ جرعته. لم تفارق الابتسامة محياه وهو يسألنا: متى سيفتح مركز محاربة الإدمان بتطوان، قبل أن يغادر البيت. حسب ما وقفنا عليه، فإن جل الأسر تعاني نفس المعاناة، أم تعمل خادمة في البيوت أو حاملة للسلع بمعبر باب سبتة، والأب مياوم بسيط، ما عدا أسرة واحدة، رفضت أن نكشف عن اسمها، إذ أن الأب هو رجل أمن متقاعد والأم موظفة، وهما يحاولان منذ سنوات علاج ابنهما من الإدمان على الهيروين، دون جدوى، ليبقي الحل الوحيد لديهما هو منحه ثمن اللفافات حتى لا يقوم بجنح أو سرقات لتوفير ثمن جرعاته. شبان فقدوا حياتهم بسبب الهيروين لدى طرق الجريدة باب أسرة مدمن على الهيروين، بحي «باريو مالقة» أطلت علينا من نافذة البيت سيدة في السبعين من عمرها، اعتذرت عن نزول سلالم المنزل لكونها تتكئ على عكازيها. لكن بمجرد أن سألناها عن ابنها أخبرتنا بأنه «مشى عند الله، بسبب الإدمان. «لقد ارتاح وأراحنا»، تقول الأم وهي في حالة من الأسى والحزن. شباب المدينة يسقطون تباعا بسبب الإدمان على الهيروين وغياب مركز للعلاج، بعضهم لقي مصرعه داخل غرفته سبب جرعة فاسدة، وآخرون خلال تناولهم جرعات زائدة من نفس المخدر. فمازالت تطوان تتربع على عرش المدن التي تضم أكبر عدد من المدمنين على المخدرات القوية، بعدما أضحت حالة الإدمان على الهيروين في المدينة «كارثية»، حيث يأخذ أكثر من 30 في المائة من المدمنين على الهيروين جرعاتهم عبر الوريد، ويتبادلونها فيما بينهم. أما ولاية تطوان لوحدها فتؤوي الآلاف من المستهلكين للهيروين والكوكايين، حسب مصدر طبي. فيما زحف أغلب المدمنين إلى الشوارع العامة في تطوان، محتلين مواقف السيارات، علهم يظفرون ببعض الدراهم لاقتناء جرعاتهم من الهيروين. ورغم بعض الحملات التي تشنها فرقة مكافحة المخدرات القوية في مدينة تطوان، فإنها تبقى غير كافية، حيث لا تطال سوى بعض المزودين الصغار في «السخرة»، وهي العبارة التي تطلق على المخدرات في المدينة. في تقرير صادر السنة الماضية عن وزارة الصحة، بتعاون مع الصندوق العالمي لمكافحة السيدا والسل، يوجد بولاية تطوان حوالي 3645 مستهلكا للهيروين، و2110 مستهلكين للكوكايين، و580 مدمنا على مخدر الكراك، و563 يحقنون أنفسهم بمخدرات مختلطة. فيما قال مسؤول أمني ل»المساء» إنه تجنبا لهذا المصير فإن «تحصين المؤسسات التعليمية بالمدينة مسؤولية كل الفعاليات»، وأكد على وجود «تصور أمني مضبوط يتولى العناية والاهتمام بالمؤسسات التعليمية حماية لها من الجريمة والانحراف عن طريق تأمين الفضاءات وتجهيز وحدة أمنية متحركة لمحاربة الأنشطة غير المشروعة داخل المؤسسات التعليمية، وكذلك حصر النقط السوداء، وإيقاف مروجي المخدرات بالمؤسسات التعليمية»، وهو التصور الذي يعتبره بعض الآباء ب»غير الكافي»، نظرا لما تعرفه أبواب بعض المؤسسات التعليمية من وجود مروجي المخدرات. استغاثة أمهات المدمنين لم يعد المدمنون يخفون هوياتهم أو ملامحهم خوفا من التعرف عليهم، بل تسلحوا بالشجاعة والرغبة في الشفاء، حيث لا يتوانون في الإدلاء بتصريحات صادمة تم توثيق بعضها من طرف بعض النشطاء والحقوقيين عبر شرائط فيديو قبل بثها على موقع «اليوتوب» العالمي، في محاولة منهم للتحسيس بالمأساة التي يكابدونها يوميا جراء إدمانهم. شباب في مقتبل العمر، بعضهم يستجدي ليلا سائقي السيارات بإشارات الضوء الأحمر، وآخرون فرضوا أنفسهم عنوة كحراس للسيارات ببعض المواقف العمومية، دون توفرهم على أي ترخيص قانوني بذلك، حيث يوجهون نداءات استغاثة إلى وزارة الصحة والمسؤولين عن ولاية تطوان، لعلاجهم من الإدمان، الذي فتك بأجسادهم النحيلة وبمستقبلهم، وعرض أسرهم للتشرد. وتحمل العديد من الأسر وعائلات المدمنين على الهيروين لمركز سيدي طلحة لعلاج المدمنين على المخدرات القوية، مسؤولية الفشل في تقديم علاج حقيقي لأبنائها. فالمركز، الذي تبلغ مساحته 50 مترا مربعا، ويفتقر إلى موارد بشرية، يحاول توفير الميتادون (Methadone) كبديل للهيروين أو كمهدئ للآلام المزمنة ل 50 مدمنا ممن حالفهم الحظ وتم قبولهم. وقد أوفدت منظمة الصحة العالمية، سابقا، خبيرا دوليا عنها إلى تطوان، في محاولة لإحصاء أعداد المدمنين على المخدرات القوية بتطوان، الذين أصبح عددهم يقلق المنظمة التابعة لمنظمة الأممالمتحدة. لكن مصادرنا تقول إن ما قام به الخبير الدولي بتطوان يبقى دون جدوى، حيث تم إحصاء المدمنين المترددين على مركز «سيدي طلحة» من أجل التزود بالإبر لحقن المخدر عبر الوريد، بينما الآلاف من هؤلاء لا يترددون على المركز، وبالتالي فإن عملية الإحصاء والتكوين تبقى غير ذات أهمية، دون الحديث عن المتعاطين لمخدر الهيروين بطرق أخرى. وجاءت زيارة الخبير الدولي إلى تطوان تخوفا من انتقال داء «السيدا» بسبب أخذ أكثر من 30 بالمائة من نسبة المدمنين على الهيروين لجرعاتهم عبر الوريد، وتبادلها فيما بينهم. مركز التكفل بضحايا الإدمان مقفل حاولت الجريدة كشف الأسباب الحقيقية وراء عدم فتح مركز التكفل بالشباب ضحايا الإدمان، رغم اكتماله، بعدما وضع الملك حجره الأساس قبل ثلاث سنوات. لكن لا أحد من المسؤولين رد على استفسارها، وهو نفس التساؤل الذي تطرحه عائلات المدمنين من الذين التقينا بهم. فالمركز المغلق منذ أكثر من سنة تم تشييده بتعليمات ملكية، في إطار البرنامج الوطني الذي تنجزه مؤسسة محمد الخامس للتضامن، بشراكة مع وزارتي الصحة والداخلية، بهدف التصدي لتعاطي الشباب بالخصوص للمخدرات بكل أنواعها. كما يسعى، حسب المشرفين عليه، إلى القيام بأنشطة تهم التحسيس والوقاية من مخاطر تعاطي المخدرات وإشراك الأسر في مختلف الأنشطة الخاصة بالوقاية، والتكفل الطبي والاجتماعي بالأشخاص ضحايا الإدمان. مثلما يتوخى إعادة الإدماج الاجتماعي للأشخاص المستهدفين، وتأطير وتكوين الجمعيات النشيطة في مجال الوقاية من أضرار المخدرات، لاسيما من خلال تنفيذ وتطوير أنشطة للقرب بالنسبة للشباب والمدمنين الشباب والشباب في وضعية الخطر. وقد تم تشييد المركز على أرض تابعة للأملاك المخزنية مساحتها 4230 مترا مربعا، منها 880 مترا مربعا مغطاة. وهو يضم قطبا للمواكبة الاجتماعية والوقاية من أضرار المخدرات (يشمل بهوا للاستقبال وفضاء حميميا للقاء وقاعة لعرض الأشرطة وقاعة للعلاج الوظيفي وقاعة للمعلوميات وورشة للفنون التشكيلية والتعبير المسرحي وقاعة للاجتماعات ومكتبا للجمعيات ومكتبا للوحدة المتنقلة وآخر خاصا بالإدارة). كما يضم قطبا طبيا (يشمل مكاتب للفحص في الطب العام وعلوم علاج الإدمان ومكاتب للعلاج والتحليل النفسي وقاعة لمستعملي مادة الميتادون وعيادة للتمريض وقاعة للمراقبة). وبلغ الغلاف المخصص لبناء مركز التكفل بالشباب ضحايا الإدمان نحو خمسة ملايين درهم، بتمويل من مؤسسة محمد الخامس للتضامن وبدعم مالي من وزارة الداخلية، لكن المركز مازال مغلقا لحد الآن في وجه شباب تطوان من المدمنين على هذا الطاعون الأبيض، في وقت تعاني أسرهم المحن والتشرد، وبعض هذه الأسر عرفت حالات الانفصال، بسبب عدم استطاعة أحد الأبوين الاستمرار في العيش وسط هيجان الأبناء بسبب عدم توفر ثمن لفافة الهيروين.