كل واحد يكره يوما من الأيام أو شهرا من الشهور، بسبب قصة سيئة معه أو من دون سبب أحيانا. شخصيا، لا أحب يوليوز، واعتبره "أقسى الشهور"، مع الاعتذار لعشاق "الأرض الخراب" على الاقتباس المتعسف. والِدي مات في يوليوز، ومازالت عيناي تدمعان كلما قرأت قصيدة "أبي" لنزار قباني، خصوصا بيتها الأخير: "فتحنا لتموز أبوابنا/ ففي الصيف لا بد يأتي أبي"… كثير ممن أحبهم رحلوا في هذا الشهر النذل، الذي يخطف كل مرة شخصا عزيزا ويمضي، كأي لص بلا ضمير. أحد هؤلاء الكاتب الاستثنائي محمد لفتح، الذي غادرنا على عجل في العشرين من يوليوز 2008، دون سابق إنذار… أجل، الأيام تجري بسرعة يا محمد حمودان. عشر سنوات مرت على رحيل صديقنا لفتح، صاحب القلب الأبيض مثل الحليب والقلم الحاد مثل شفرة الحلاقة. اللعنة… عشر سنوات! الكاتب الصاخب انسحب من الحياة بلا ضوضاء، تاركا وراءه مؤلفات غزيرة معظمها على شكل مخطوطات، نشرت بعضها دار "لاديفيرانس" الفرنسية، قبل أن تنتقل بدورها إلى دار البقاء. طوال حياته القصيرة، ظل صاحب "المعركة الأخيرة للقبطان نعمت" يأتي من جهات غير متوقعة، لذلك لم يكن غريبا أن يغادر من مكان غير متوقع: القاهرة، حيث عاش سنواته الأخيرة في بيت أخته، وحيث يرقد الآن إلى الأبد، غير بعيد عن نجيب محفوظ وطه حسين وتوفيق الحكيم والأمير محمد بعبدالكريم الخطابي. أحد نقاد الأدب، قال ذات يوم: "بعض الكتاب الكبار يحتاجون إلى موت مزدوج كي نتعرف عليهم: موتهم الشخصي وموت العصر الذي عاشوا فيه"، ولعل الحياة الحقيقية لمؤلف «طفل الرخام» بدأت بعد رحيله، في انتظار أن تكتشفه الأجيال اللاحقة، مثل كل الكتاب الكبار الذين يُطلق عليهم عادة «الشعراء الملاعين». لغته الحادة مثل قطعة زجاج، تذكرنا بمحمد خير الدين وأحمد البوعناني، صاحب «المستشفى»، وجرأته لا يضاهيه فيها إلا محمد شكري، في سجل الأدب المغربي. لفتح كان واحدا من أولئك الذين يصعب الفصل بين حياتهم وبين أدبهم، عاش حياته بالعرض وحوّلها إلى قصيدة مليئة بالدهشة والأشياء غير المتوقعة، وظل يفاجئ العالم بكتاباته وشغبه حتى النهاية. تعرفت لأول مرة على لفتح بفضل صديقي الكاتب المغربي المقيم في باريس سليم الجاي، الذي قاده حسه النقدي إلى منح كتبه حياة ثانية. عام 2003، كان الجاي يهيئ «معجم الكتاب المغاربة»، وهو عبارة عن أنطولوجيا فريدة للكتاب المغاربة بمختلف اللغات، بما فيها الهولندية والأمازيغية. بمجرد ما قرأ «آنسات نوميديا»، أول روايات لفتح الصادرة عن دار «لوب» الباريسية، قصد الناشر كي يطلب منه عنوان الكاتب الذي ألف «جوهرة» الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، كما ظل الجاي يصف الرواية. لكن الناشر أخبره ببرود، أن مؤلف الرواية قد مات… فيما بعد، اكتشفنا أنها كانت مجرد حيلة من الناشر كي يتخلص من كاتب مزعج ومشاغب، عانى معه الأمرين، لذلك فضل أن «يقتله» كي يرتاح! وعرفنا أن الكاتب تعرض لنكسة في حياته، جعلته يختار العزلة في القاهرة عند أخته. عام 2005، كنت مسؤولا عن البرامج الثقافية في القناة الثانية، عندما كان الزميل عمر سليم يهيئ الحلقة الأولى من برنامجه «Arts & Lettres» حول الرواية المغربية، واقترحت عليه أن يستضيف سليم الجاي، وكانت المرة الأولى التي يعود فيها سليم إلى المغرب بعد غياب ناهز ثلاثين سنة. طوال البرنامج، لم يكف سليم الجاي عن الحديث عن لفتح ووصف «آنسات نوميديا» بأجمل ما كتب في الأدب المغربي بالفرنسية، نكاية بالكتاب المكرسين. الصدف الماكرة شاءت أن يشاهد لفتح البرنامج من القاهرة حيث كان يقيم، على فضائية القناة الثانية، ويطلب من ابنته التي تسكن في ضواحي باريس أن تتصل بالجاي، كي تعطيه مجموعة مخطوطات مكدسة لديه… بمجرد ما استلمها سليم حملها الجاي إلى المرحوم جواكيم فيتال، صاحب «لاديفيرانس»، الذي لم يتردد في أن يجعل من لفتح أحد أهم كتاب الدار. هكذا عاد الكاتب من موته الأول، ونشر كتبا جديدة ستجعله يعيش طويلا، نكاية بموته الثاني.