إذا لم يتمكن شخص آخر من تفادي مثل هذا الخطأ، فلا عذر له أن لا يسلك المسلك الأخلاقي الراقي الذي سلكه أبو زيد: الإقرار بالخطأ والاعتذار عنه. +++ ليس مبالغة الحديث عن "التسونامي" في التفاعلات التي عرفتها "النكتة – الخطأ" للمفكر المغربي المقرئ الإدريسي أبو زيد، حيث تجاوزت تلك التفاعلات حد النقد و مطالبته بالاعتذار إلى الوقوع في أشكال من الإرهاب والعدمية والانتهازية السياسية. فقد تطوع مجهول، كما في الأفلام الأمريكية، زعم أنه من أبناء الجالية المغربية بالخارج، بدفع هبة مالية مغرية لمن يأتيه برأس أبو زيد، وتعرض أبو زيد وأفراد عائلته لهجمة ممنهجة عبر الهاتف والأنترنيت من مجهولين تحمل كل أنواع التهديد و السب والشتم ليل نهار طيلة قرابة ثلاثة أسابيع، وطالبت جمعيات برفع الحصانة عن المقرئ وتقديمه للعدالة بدون أن تتقدم هي إلى العدالة، وطالبت نفس الجمعيات بحل "حزب العدالة والتنمية"، الذي ينتمي إليه البرلماني أبو زيد ! وتوالت البيانات التنديدية بشخص أبو زيد، وامتلأت الصفحات والمواقع الاجتماعية بالمقالات الشامتة والمحرضة... و في خضم هذا "النفخ" لم تشفع توضيحات أبو زيد وإقراره بالخطأ في شريط خاص بالنازلة، واستمر التهييج في ظل غياب اعتذار واضح، ونظمت معارضة مفلسة "تبوريدة" في مجلس المستشارين على إيقاع "طلقات بارود السياسوية"، وأعلن الناشط الأمازيغي أحمد عصيد في ختام مقال له ب"الأحداث المغربية" الخميس الماضي في "نبوءة القرن الواحد والعشرين" أن "السيد أبو زيد لن يصحح خطأه ولن يعتذر عنه وسيتمادى فيه في مستقبل الأيام"! وارتفعت أمواج "تسونامي" تغذيها رغبة مقامرين في عدم تضييع فرصة تأخر الاعتذار الواضح للإجهاز على خصم عتيد. الذين يعرفون أبو زيد استبشروا بشريط إقراره بالخطأ يوم 29 دجنبر الماضي متوقعين منه اعتذارا واضحا وصريحا كما اعتادوه في المفكر الإسلامي، ينهي التهييج والافتعال، لكن فرحتهم لم تكتمل، ليدخلوا في حالة من الذهول جراء تأخر اعتذاره. فماذا وقع؟ مقابل "الصورة التسونامية" السابقة، عاش أبو زيد معاناة أخرى بين ضغط تنفيذ قناعته الشخصية الخلقية والفكرية التي تومن بخلق الاعتذار، وبين ضغوطات ظرفاء، من سوس بالخصوص، يرون، من موقع معرفتهم بالشخص ونزاهته وحبهم له وحبه لهم، أن لا حاجة للاعتذار في ظل الاستغلال السياسوي للنكتة الخطأ، ليوفروا بذلك التأخير شرط انتعاش تلك السياسوية و مبررات استمرارها! وتوالت مقالات وبيانات التضامن، وشكلت لجن ووفود زيارة محلية ووطنية، للمؤازرة والتضامن. وتشكل من كل ذلك ضغط قوي على أبو زيد تجاوز التضامن الإنساني ليتغاضى عن قيم الاعتذار ومبادئه الضاربة جذورها في الدين والأخلاق، إلى رفض الاعتذار نفسه ! وتأخر الاعتذار عن شريط الإقرار بالخطأ! مساء الخميس 9 يناير 2014 سجل تحولا في مسار الملف، أبو زيد، المفكر والمثقف الرصين، والداعية الكبير إلى أخلاق الفكر و الحوار، والناقد الشرس للتخلف الفكري والعقدي، والمتمثل العملي لأخلاق الاختلاف و التعايش الإنساني، يعلن بشكل واضح وصريح من إداعة "راديو أصوات" أنه "إذا كان هناك من يعتقد أنني قد أسأت إليه فأنا أتقدم بكل اعتذاري، وأتقدم بكل أسفي، لكل من يعتقد أنه معني بهذه الكلمة وأنني جرحته فيها"... المتوقع ، في الحالات الطبيعية والعادية، أن ينهار "تسونامي" النكتة المعلومة على قدم الاعتذار. بل سينهار حتما لأنه مجرد صناعة سياسوية، سينهار لأن قطاعا عريضا من نشطاء الحركة الأمازيغية ومجتمعها المدني، لم ينخرطوا في النفخ في موجة "التسونامي" تلك، والتزموا بأخلاق التدافع القيمي الحضاري، معلنين انتقاداتهم لنكتة أبو زيد مطالبينه بالاعتذار برصانة الفاعل المجتمعي الواعي بخصوصية المرحلة، والتي تتطلب مقاربة ملف الأمازيغية مقاربة بيداغوجية كبيرة تجعلها قضية كل المغاربة، و تزاوج فيها بين النقد البناء للأخطاء والاختلالات، كيفما كان نوعها ومن أي كانت، وتجنب الوقوع في المزايدات السياسوية والأديلوجية المضرة بملف الأمازيغية. غير أن نكتة أبو زيد وإقراره بالخطأ واعتذاره لكل من تضرر منها وخاصة من أهل سوس، تقدم درسا كبيرا في مجال تدبير التعدد والتنوع في الشأن المجتمعي في بعده الهوياتي والثقافي والتاريخي، و يمكن أن نستخلص منه عبرا كثيرة نكتفي هنا بعبرتين كبيرتين. العبرة الأولى، تتعلق بالأمراض التي تعاني منها ثقافتنا في المغرب، والتي تتطلب جهودا كبيرة للمعالجة، وهذه الأمراض الثقافية تمس جوانب كثيرة من هويتنا ومقوماتنا ومكوناتنا المجتمعية المختلفة. ثقافة مريضة تمس الأمازيغية لغة وثقافة هوية، وتمس الدين ورموزه، وتمس العرب و العربية، وتمس المرأة، وتمس اليهود، وتمس السود، ... والنكتة هي في نفس الوقت الداء و الفاعل الخطير في تغذية تلك الأمراض ونشرها. و الواقعة التي نحن بصددها، تبين أن النكتة يمكن أن تكون عامل تهديد وفتنة في المجتمع، وعامل تغذية النزعات العنصرية، وعامل نشر الكراهية في المجتمع، مما يفرض على المفكرين والمثقفين والدعاة والإعلاميين والسياسيين وغيرهم، امتلاك "مصفاة فكرية" تنقي رصيدهم من تلك النكت، كما تفرض عملا تربويا وإعلاميا وثقافيا كبيرا يعبئ المجتمع المدني وكل الفاعلين في التنشئة الاجتماعية لمعالجة تلك الأمراض الثقافية وفق قيم الدين التي تحرم أذية الغير، وقيم حقوق الإنسان التي تجرم كل أشكال التحقير والتنقيص في أي شكل كانت. العبرة الثانية، تتعلق بضرورة اعتماد مقاربة بيداغوجية استيعابية في التعامل مع ما يمكن أن يقع من الأخطاء، مما له علاقة بأمراض الثقافة المغربية، المشار إليها آنفا. وهذه المقاربة تستبعد بشكل كلي أي توظيف سياسوي لتلك الأخطاء، كما تستبعد منطق الكيل بمكيالين من جهة المتضررين أفرادا وهيئات، وتدعو إلى اعتمادا منهج النقد الصريح والبناء الذي لا يفضي إلى المس بحرمات المخطئين وأمنهم. وتفرض هذه المقاربة أيضا المسارعة إلى الاعتذار الأخلاقي والفكري من طرف أي شخص وقع في مثل تلك الأخطاء. وفي هذا السياق يمكن التذكير بالخطأ المشابه لخطأ أبو زيد الذي وقع فيه عبد اللطيف وهبي قبل قرابة سنة، وأثار احتجاجات وبيانات تنديد، وطولب بالاعتذار، لكنه أصر على عدم الاعتذار، بحجة أن أصوله أمازيغية! وكأن الاعتذار عن الخطأ في حق الأمازيغية يجب فقط على غير الأمازيغ. و تم غض الطرف عنه نهائيا! الذي نخشاه في هذه النازلة أن نكون قد ضيعنا فرصة فتح نقاش عمومي يخلص إلى قواعد أخلاقية في تدبير الشأن الثقافي المثقل بالأمراض. وقد نضيع، لنفس الأسباب السياسية والأديلوجية المشار إليها سابقا، فرصة استخلاص العبر من خطأ أبو زيد واعتذاره. لقد كانت النكتة خطأ و امتحانا في الآن نفسه، وكان الإقرار بالخطأ تصحيحا، و الاعتذار تعويضا معنويا عن الضرر، و جوابا أخلاقيا راقيا وموفقا. وإذا لم يتمكن شخص آخر من تفادي مثل هذا الخطأ، فلا عذر له أن لا يسلك المسك الأخلاقي الراقي الذي سلكه أبو زيد: الإقرار بالخطأ والاعتذار عنه.