ما انفك المفكر والمرحوم محمد عابد الجابري يطرح إشكالية الانتقال إلى الديمقراطية في الوطن العربي، وذلك من خلال إصدارته ومقالته، ويعزي ذلك إلى مجموعة من المسوغات والأسباب من بينها الخوف من السير مع العملية الديمقراطية من لدن الأجيال التي تعاقبت على مسرح التاريخ العربي المعاصر، وغيرها من الأسباب التي سيتم الوقوف عنها بإسهاب. قبلا وقبل الخوض في الإشكالات المرتبطة بعملية الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، لا بد من تأصيل مفاهيمي وعلى وجه التحديد مفهوم الديمقراطية حسب منظور الجابري. وإذا قمنا بتمحيص واستجلاء تعريف الديمقراطية لدى المرحوم نجده يشدد على ان مسألة الديمقراطية في الوطن العربي لا يمكن طرحها طرحا و بناءا إلا من خلال النظر إليها في ضوء الواقع كما هو في ضوء التجارب والمحاولات والمعطيات التي يزخر بها، بمعنى أخر تحديد معنى الديمقراطية من المنظور الواقعي الذي يستلهم الممارسة الديمقراطية كما هي في العصر الحاضر. إنها بالتالي نظام سياسي واجتماعي واقتصادي يقوم على ثلاثة أركان: * حقوق الإنسان في الحرية والمساواة وما يتفرع عنهما كالحق في الحريات الديمقراطية والحق في الشغل و تكافؤ الفرص…الخ * دولة المؤسسات و هي الدولة التي يقوم كيانها على مؤسسات سياسية و مدنية تعلو على الأفراد هما كانت مراتبهم و انتماءاتهم العرقية والدينية والحزبية. * تدول السلطة داخل هذه المؤسسات بين القوى السياسية المتعددة وذلك على أساس حكم الأغلبية مع حفظ حقوق الأقلية. بعد التطرق إلى مفهوم الديمقراطية من وجهة نظر المرحوم، نذهب إلى لب الموضوع وهو إشكاليات الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، وفي هذا الصدد فان مفهوم الانتقال لديه و أياً كان هذا الانتقال فانه يطرح ثلاثة أسئلة محورية وجوهرية وهي من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ هذه الأسئلة هي المحدد الرئيس التي تعرفنا على مشكل وعسر الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي حسب المرحوم. و لنبدأ بالإجابة عليها لمعرفة كنه المشكل. سؤال من أين؟ لدى الجابري فهذا هو المسكوت عنه غالبا، باعتبار أن الانتقال يكون من الوضعية التي نحن فيها والتي من المفروض أنها معروفة ولكن السكوت محتمل بل غير ممكن عندما يطرح السؤال الثالث كيف الانتقال؟ إذ كيف يمكن تحديد كيفية الانتقال دون معرفة دقيقة وصحيحة للوضع الذي يكون منه هذا الانتقال. وتزاد المسالة تعقيدا عندما تكون المسافة بين الوضع الذي يراد الانتقال إليه والوضع الذي يراد الانتقال منه تفتقد إلى عناصر اتصال التي تقيم جسورا بين الوضعين مما يجعل من الانتقال إشكالية نظرية وعملية وليس مجرد مشكل. إن سؤال من أين؟ أي من دولة لا تحترم فيها حقوق الإنسان بمعناها الواسع ولا دولة تحترم فيها المؤسسات ولا تعلو هاته الأخيرة على الأفراد والجماعات ولا يتم تداول السلطة على أساس الأغلبية السياسية. يتم الانتقال إذن من نظام مستبد لا ديمقراطي. لكن يبقى السؤال كيف سيتم هذا الانتقال؟ ولشرح الإشكالية بعمق يرجع بنا الجابري قليلا إلى الوراء وبالتحديد إلى الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عندما كان المطلب الأساسي الانتقال إلى الاشتراكية. لكن كانت الإشكالية المطروحة هاهنا كيف يمكن تحقيق الاشتراكية في بلد متخلف؟ فكان الجواب هو الثورة، لكن بقي السؤال قائما حول من سيقوم بها هل الطبقة العاملة والفلاحين كما وقع روسيا، أم الطبقة العاملة الصناعية المهيمنة كما كان ينتظر أن يحدث ذلك في أوروبا؟ لقد كان الجواب العملي هو الجيش باعتباره القوة المنظمة الوحيدة في مجموعة من البلدان العربية،والذي يبدأ بالإجهاز على ما كان قائما من مظاهر الديمقراطية ليختبئ بصورة أو أخرى وراء حزبه الوحيد، كما حدث في سورية ومصر والسودان. وبما ان هذا المطلب أي مطلب الاشتراكية أمسى في طي النسيان وحل محله مطلب الديمقراطية، مرة أخرى حسب الجابري نجد أنفسنا مع نفس الإشكال، كيف يمكن الانتقال إلى الديمقراطية في بلد متخلف أو تأدبا في العالم الثالث السائر في طريق النمو؟ وباعتبار أن الديمقراطية الغربية الحديثة قامت نتيجة ثورة الطبقة الوسطى، فهل الطبقة الوسطى في بلدان العالم الثالث مهيأة للقيام بهذه المهمة وتنحية دولة العسكر والاستبداد والحزب الواحد. ومنه يخلص الجابري أن سؤال من أين سننتقل ذو أوجه متعددة، فهناك أقطار عاشت في الستينيات إشكالية الانتقال إلى الاشتراكية كمصر وسورية والعراق والجزائر، وبالتالي فالجواب فيها عن السؤال من أين يطرح تصفية الوضع القائم اليوم والمنحدر من ثورة العسكر الذي نصب نفسه فيها كطبقة عليا دائمة. بالنسبة لسؤال الثالث إلى أين؟ فالإجابة عنه إجابة واضحة، الانتقال من وضع يقوم على أسس غير ديمقراطية إلى وضع تسود فيه أركان تعريف الديمقراطية المومأ إليها في البداية. ورغم وضوح الإجابة فإن الانتقال إلى الديمقراطية يطرح مشكلة عملية يمكن التعبير عنها حسب الجابري كما يلي: إن الانتقال من الحكم اللاديمقراطي إلى الحكم الديمقراطي يفترض إما ان يتولى الحكام أنفسهم القيام بعملية الانتقال هذه، و في هذه الحالة سيكون عليهم أن يتنازلوا عن سلطاتهم عن طيب خاطر وهذا إذا حدث مرة أو مرتين فهو استثناء وليس القاعدة. وإما إجبارهم بوسيلة من الوسائل على التنازل وهذا يتطلب وجود قوات ديمقراطية في المجتمع قادرة على فرض الديمقراطية في الدولة وقادرة على الحفاظ عليها والحيلولة دون قيام نوع أخر من الحكم اللاديمقراطي. وبعبارة أخرى فان الانتقال إلى الديمقراطية يطرح خيارين: إما فسح المجال للقوى الديمقراطية في المجتمع لتنمو وتترسخ وتهيمن و القيام من جهة أخرى بدمقرطة الدولة بالانتقال بها إلى دولة مؤسسات تمثيلية حقيقية، وإما بنهج طرق أخرى وهي حمل الحاكم على التنازل تحت ضغط القوى الديمقراطية وإما بإزاحته من لدن هذه الأخيرة. وهذا الاختيار الأخير أي الإزاحة حسب المرحوم يطرح مشكل حيث إن القوى الديمقراطية لا تتمكن عادة من إسقاط الحكم إلا إذا تحولت إلى قوى منظمة تنظيما سريا ثوريا (عسكري الطابع) أو إلى قوى هائجة عائمة غير منظمة في صورة تحرك جماهيري واسع وعصيان مدني …الخ وحوصلة ما تقدم أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية لدى الجابري تتسم بنوع من التعقيد والعسر. ويكمن هذا التعقيد على مستوى الجهل بالوضع الذي تعيشه البلدان العربية التي تريد الانتقال منه، وهذا يشكل عرقلة في الانتقال إذ لابد من معرفة و توصيف الداء بدقة لمعرفة الدواء الأصح، فتحديد الوضع الذي نريد الانتقال منه أمر في غاية الأهمية لان الوضع المعاش اللاديمقراطي متعدد فهناك حكم العسكر وحكم الأقلية وحكم الحزب الوحيد وما إلى ذلك. وأكثر من ذلك لابد من تشكل المسألة الديمقراطي على مستوى الوعي إذ يؤكد الجابري على أن الديمقراطية ما زالت تحتاج إلى تأسيس في الوعي العربي المعاصر من قضية تحيط بها الشكوك الى قناعة لا تتزعزع كقناعة العقل بالضروريات و البديهية، مقابل ذلك يرفض القول القائل بأن الديمقراطية تحتاج إلى نضج الشعب حتى لا تنقلب إلى الفوضى وانه بالتالي وجب تأجيلها إلى أن يتحقق النضج فيردف الجابري قائلا أن هذا القول ينسى ويتناسى بان نضج الشعب للديمقراطية لا يمكن تحقيقه إلا من خلال ممارسة الديمقراطية تماما مثل أن الطفل لا يتعلم المشي إلا من خلال ممارسة المشي نفسه. ويكمن كذلك الإشكال في الطبقة المؤهلة لقيادة هذا الانتقال هل الطبقة الوسطى محاكاة مع ما حدث في أوروبا أم الجيش الذي سرعان ما ينقلب على الوضع ويستأثر بالسلطة ويؤسس لنفسه الحاكم الوحيد كما بينت لنا مجموعة من التجارب كالسودان ومصر مثلا. أم أن الطبقة العاملة لديها ما يكفي من التنظيم للزعزعة الأركان الغير الديمقراطية. لكن وبناء على ما تم بسطه ودبجه، هل إذا كان الجابري حي يرزق بيننا اليوم وعاش ما حدث غداة الربيع العربي الذي سرعان ما تحول إلى خريف تتهاوى أوراقه، من هزات شعبية التي عصفت بجذور الديكتاتورية الضاربة جذورها في أعماق الأرض. هل سيعد إنتاج نفس الخطاب ويطرح نفس الإشكاليات وخصوصا بعد مرور أربع سنوات من هذه التحولات في الأقطار العربية. مراجع معتمدة: محمد عابد الجابري، " الديمقراطية و حقوق الإنسان"، منشور في كتاب في جريدة عدد يوليوز 2006. محمد عابد الجابري، " الوضع غير الديمقراطي في العالم العربي وضع متعدد" سلسة مواقف رقم 40 الطبعة الأولى يونيو 2005. محمد عابد الجابري ،" الانتقال الى الديمقراطية: أسئلة وأفاق" منشورات كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالرباط سلسلة: ندوات و مناظرات رقم 86.