يحكي التاريخ أن الحسن الثاني قام يوما "بإنقلاب أبيض" على حزب الحركة الشعبية بعدما أحس أن الحزب قد تغول "قليلا"، وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من الحصول على أغلبية داخل البرلمان. وكان يقود القطب الحركي أنذاك المحجوبي أحرضان الذي خرج في المساء من مكتبه قُطبا حركيا، ليجلس على شاشة التلفاز متفاجئا مع ملايين المواطنين المغاربة بخبر استقبال جلالته لثمانية من أقطاب الحركة الشعبية وسلمهم مقاليد الحزب تاركا المحجوبي أحرضان ورفاقه في بئر النسيان! وكم كان صادقا، القيادي في حزب الإستقلال محمد بوستة الذي قال عام 1984، أنه من المعروف، أن لا يحصل أي حزب في الإنتخابات على الأغلبية في المقاعد، وأن أحزاب الأغلبية والمعارضة يجب أن يكونوا دائما في صراع بينهم، بوستة لم يكن يُدرك أنه سيأتي اليوم الذي سيعلب فيه إخوان دربه في حزب الإستقلال بعد ثلاثين سنة من كلامه هذا الدور ويكونون بالتالي "الكومبارس" الذي يدخل ويخرج من الحكومة بمُباركة من الدولة !. إن حادثة خروج حزب الإستقلال من الحكومة المغربية ليس قرارا فرديا أو حماقة جديدة من حماقات "شباط " وإنما هو تخطيط دائم ومتعارف عليه داخل أسوار الدولة المغربية، تخطيط أخبرنا امحمد بوستة القيادي الاستقلالي ببعض من تفاصيله وخباياه. وخروج الحزب يُعيد إلى أذهاننا مسألة علاقة الدولة ودورها في التخطيط لبناء أغلبية داخل البرلمان تارة أو اللعب داخل أحزاب الحكومة أو المعارضة تارة أخرى، وتلك المسألة أصحبت أكثر خطورة بعد "اللوك" الجديد للملكية بنُسختها البرلمانية.ولذلك فإن إستمرار تحركات الدولة بنفس نهج نُسختها القديمة يُشككنا حقيقة بنُسختها الجديدة، وقد يكون ذاك "اللوك" الجديد الذي ظهرت به الدولة بعد أحداث الربيع العربي مُجرد مساحيق تجميل سُرعان ما زالت بعد تعرضه لأول أشعة شمس سياسة حارقة!. وقد كان جميع العارفين بخبايا السياسة يُدركون الطبخة الجديدة للدولة في الحكومة الجديدة، وقد تحدث وزير في حكومة التناوب في لقاء صحفي مع إحدى الجرائد المغربية في فبراير من العام الماضي عن وجود جهة غير معروفة وغير مرئية لها اليد العليا في صنع الخريطة السياسية الحالية، وإلا فكيف سنُصدق تشكيل حكومة لا تتفق فيما بينها إلا في طريقة ارتداء ربطات العنق، وقبل بالمشاركة فيها حتى هؤلاء الشيوعيون الذين كانوا يتبولون على القران الكريم في السبعينيات داخل الجامعات ووضعوا أياديهم مع رجال تتهمهم الدولة أحد رجالاتها باغتيال أحد الطلبة الشيوعيين "ايت الجعيد" !!!. وإننا لا نشك البتة في صعوبة انتقال الدولة بين نسختين في ظرف وجيز، فهذا الانتقال يتطلب وقتا وجُهدا فهو انتقال مؤسسات وكيانات قبل أن يكون انتقال أحزاب وجماعات. ولكننا نشك في حقيقة الأمر في صدق الدولة وإرادتها الإنتقال من نُسختها القديمة "الكاملة" إلى الجديدة "البرلمانية "، وما يزيد شكنا هذا ويُقويه أن أحد أصدقاء الراحل الحسن الثاني ومسشاره الأول أحمد عصمان قال يوما للملك، أن المغرب غير محكوم، وأن الحكومة يجب أن تأخذ سلطتها، وقد غضب الملك الحسن الثاني بعد نصيحة عصمان هذه وفكر في الاستغناء عنه، وقد فعل ذلك بعدها بأشهر معدودة...!. والحقيقة المؤكدة من هذا كله، أن الدولة غير صادقة في مسعاها للتحول إلى ملكية برلمانية خالصة، ولذلك فإنها من المستحيل أن تترك الأمور بيد أحزاب المعارضة، ومن المستحيل أيضا أن يحصل حزب ما على أغلبية مُطلقة، لا تحت قبة البرلمان ولا حتى داخل الميدان، ولذلك فإن تاريخ الأمم يشهد على أن جل ملوك وأمراء الأمصار لم يكن يُخيفهم ويُرعبهم إلا تجمع الناس حول عالم أو جماعة ما وغالب الأمر ما كان يتخذ هؤلاء الملوك قرار تفتيت تلك الجماعة أو سجن ذلك العالم أو حتى قتله إن ما تطلب الأمر ذلك.ولذلك فإن الدولة لا تثق كثيرا في المعارضة الداخلية وقد كتب أحد الصحفيين الفرنسيين والذين عاشروا ملكية الحسن الثاني جيدا وهو بيرنار كوبيرنافون في كتابه "الأسلوب السياسي المغربي": "فبالنسبة للملك، فإن المعارضة الديمقراطية، إنما هي مجرد واجهة للمؤامرات المتوالية، وخلايا سربة تجمع شرذمة من المستعدين للجوء إلى العنف "... !. وعليه، فقد كان الكاتب الفرنسي صادقا في قوله هذا، وتلك في الحقيقة هي رؤية الدولة لأحزاب المعارضة، لا على أنهم مواطنون يُريدون خيرا لهذا البلد أكثر حقيقة ألف مرة من هؤلاء الذين "يُصدعون" رؤوسنا كل مرة تحت قبة البرلمان بالخطابات الوطنية التي لا تُجاوز ألسنتهم، وإنما على أنهم أي هؤلاء المعارضون أنهم مجرد شرذمة من الناس الذين قد يحملون السلاح في أي وقت!!!، ولذلك فقبول الدولة بحزب له أغلبية في الميدان أو تحت قبة البرلمان، وتُسلم له الجمل بما حمل، فإن ذلك هو بداية نهايتها بلا شك، والدولة لا تُريد أن تكون لها نهاية بالتأكيد، فليست هي من ستقول كما قال معاوية بن أبي سفيان لما طال حُكمه في أول العهد الأموي ووصل إلى قرابة العشرين سنة " قد طالت إمرتي عليكم حتى مللتكم ومللتموني وتمنيت فراقكم وتمنيت فراقي" !... ولذلك غالبا ما كانت الدولة لا تُحبذ أن يكون هنالك قرار فوق قرارها، أو أن يأخذ أحذ فضلا غيرها، ويحكي التاريخ القديم أن الحسن الثاني غضب غاية الغضب من أول رئيس حكومة للمملكة المغربية سنة 1959 وهو عبد الله ابراهيم رحمه الله حين أصدر الأخير قرارا بطرد أزيد من 300 من المسؤولين الامنيين الفرنسيين الذين كانوا يتدخلون في الغرف التجارية بكل من الرباط والدار البيضاء، وقد كتم الملك الراحل الحسن الثاني هذا الغضب حتى تفجر بعدها بشهور معدودة وحصل ما لم يكن في الحُسبان، فقد دخل الملك الراحل الحسن الثاني بدباباته داخل القصر الملكي بالمشور لتهديد والده بضرورة إقالة رئيس الحكومة عبد الله إبراهيم، وبعد ثمانية وأربعين ساعة بالضبط أي يوم الجمعة 20 مايو 1960 كان الديوان الملكي وبناءا على طلب الملك الراحل محمد الخامس قد أصدر بيانا يُعلن فيه عن تعليق مهمة عبد الله إبراهيم كرئيس للحكومة المغربية !. تلك إذن هي الدولة المغربية في نسختها القديمة ولا نخالها قد تغيرت كثيرا في نسختها الجديدة، فقد أرسلت الدولة رسالة سرية إلى مراكز القرار بواشنطن نشرتها ويكيليكس فيما بعد تُحذرهم فيه بمعارضيها الداخليين، وتصفهم بأنهم جميعهم إرهابيون يُعادون الولاياتالمتحدةالأمريكية، حتى أولئك الذين يرتدون ربطات العنق، والغريب في الأمر أن الذين أرسلوا الرسالة قد نسوا أو تناسوا أن هؤلاء الأمريكيين أنفسهم قد أشرفوا على عملية الانقلاب على الراحل الحسن الثاني في غشت عام 1972. ورُبما تناسوا أيضا أن المستشار الأمريكي "روكيول" قال يوما للمستشار عصمان، أنه إن لم تكن هنالك مؤسسة سياسية مستقلة عن القصر تُسير البلاد فإنه يجب خلقها !!!... إننا في الحقيقة نُريد ملكية برلمانية حقيقية، قريبة من هموم الشعب، تسمح لمؤسسة سياسية حزبية مستقلة ووطنية بتسيير البلاد والعباد إلى ما فيه خير لهذا الوطن، مؤسسة ليست من تلك الأحزاب الثلاثين التي رضعت من ثدي المخزن، ولا من تلك التي لا تحتوي على أطر وقيادات تستطيع النهوض بهذه البلاد سياسيا واقتصاديا وعلميا. ولعي أختم برسالة وجهها العالم الرباني المغربي الحسن ليوسي وما أحوجنا إلى علماء مثله ندروا في زماننا هذا أرسلها إلى السلطان المولى إسماعيل وهذا مُقتطف منها: "ليعلم سيدنا، أن الأرض وما فيها، ملك لله تعالى لا شريك له، والناس عبيد الله سبحانه، وسيدنا واحد منهم، فإن قام عليهم بالعدل والحركة والإنصاف والإصلاح فهو خليفة لله في أرضه، وإن قام بالجور والعنف والكبرياء، والطغيان، والإفساد، فهو متجاسر على مولاه، ومتسلط ومتكبر في الأرض بغير حق.فلينظر سيدنا. فإن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على الرعية فأكلوا اللحم وشربوا الدم، وامتصوا العظم، ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا".