لا أدري ما الذي شدني إلى الكتابة عن الأسرة والمجتمع، مما جعل الكلمات تتدفق كالسيل الهادر، وتجمع من الأمور ما تفرق، وتضم ما اختلف. ولكن الفضل يرجع في ذلك إلى عصر التطور المتسارع في المعرفة وفي التقنية، إذ لا سبيل سوى أن تصبح أمتنا طرفا فاعلا في تيار المعرفة والمهارة والخبرة، رغم الأنواء والأعاصير التي تعصف بالعالم الإسلامي من كل حدب وصوب، وغالب ظني أن نظرة واحدة على هذه المعرفة التي يغلب على طبع أصحابها سمت العلماء، ويغلب عليها طبع الأدباء، وتفتح الفقهاء الذين هم حماة الشريعة السمحة الأمناء، وجسر التواصل بين الشرق والغرب، وأنت تتأمل إلى إنجازات هذا العصر في مثل ظروفنا الحاضرة ما يدل على فطنة ودقة وحسن تمييز وتدبير، ورصف المعلومات وانتقائها، وصدق الشاعر وهو يقول: سبحان من قسم الحظو ظَ فلا عتاب ولا ملامة والأسرة المسلمة ربان ماهر لسفينة الأجيال الجديدة وضعت قدميها على أول درجات السلم الإنساني والعلمي والمعرفي وصعدتها درجة درجة بالعزيمة والموهبة والقلم الصادق، والحب للمغرب والعروبة والإسلام؛ لأنها علمت أنها تحمل في قلبها حكمة الحكماء، وتسعد بقراءة حكمة السنين تسير بالأجيال في بحر عاصف، والفكر الإنساني اليوم كله في بحر عاصف، يشق طريقه في مناكب الحياة، بل هي وحدها جيل مجيد، وهي رمز التجديد، والتجديد سنة الحياة ورمز أساتذة أجيال. والتجديد في تاريخ المغرب أنجب أسرا هي ريحانة الأطلس وشجرة سهوله ووديانه، تنجب الخير ويستظل بأفيائها الوارفة من شاء السير في ركب المجد والتطور، وشق طريق الإعمار والتشييد في مناكب الحياة الزاهية الزاهرة، والأسرة المعاصرة عندنا اليوم عندها شعور دقيق جدا بالمسؤولية، تعتبر نفسها أن تربية الأولاد مسؤولية مباشرة بالنسبة لها ولهم، وهذه التربية واجب لا مجال للتخلي عنه، ولهذا فالآباء والأمهات يمارسون مسؤولياتهم التربوية ممارسة فعالة وحقيقية؛ لأن التقاليد المتوارثة علمت الكل أن التربية أساس النجاح في الحياة. وكل أسرة عندنا في المغرب تحرص أن يكون أبناؤها وبناتها مراعين لأقدار الناس محترمين لمشاعر الغير، وقادرين على القيام بها، والحمد لله فكل أسرة تلقن أجيالها قواعد السلوك والذوق واللياقة والأدب، ومراعاة الجيران، والحرص على نظافة البيت، ومع ذلك فالمجتمع تظهر على سطحه بين فينة وأخرى بعض السلبيات الأسرية التي أصبحت عند البعض تركيبة مصالح، انفلت من يدها الزمام، وذهبت الأخلاق مع الأمس الدابر، ولم يبق إلا هذا الطراز من الأسر التي تجاهد لتكوين الأجيال في البيت، ووضع أقدامهم على الدرج الأول من سلم الثقافة والتكوين الإنساني. والخير باق في هذه الأمة ما بقي للخلد علم وفكر، وحب وسماحة وعطاء، وبما يمثل عمق المعرفة والموهبة الخصبة والتجربة النيرة، والأجيال اللامعة في ظل أسر واعية تستند إلى جدار عال وقوي، وتعيش مستضيئة بنجم فكر ساطع، وبما يدفع القوة في عروقها للواقع والمستقبل والعالم المعاصر، ونجاح الأسر هو نجاح للأمة والإنسانية، وإذا تضافرت على تحقيق هذا النجاح عزمات الشباب وحكمة الكبار، ويقظة العلماء والمفكرين، وهو في نفس الوقت مسؤوليات وشرف تضطلع به الهمم العالية، تجمع بين القوة والعلم والأخلاق، وهذه الأقطاب الثلاثة هم ضمير الأمة، إذا تابعوا المسيرة مؤمنين بتوفيق الله ومتوكلين عليه، سنشهد مجتمعا راشدا ويومها ستسير سفينة البشرية المتأرجحة بعون الله بين العواصف والصخور واثقة من تماسكها وصدق الله العظيم إذ يقول: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا" [الاِسراء، 34]. وخير لنا أن نتعلم شرف الثبات في معية الله وقوة الصمود وكرامة الإيمان، مهما تهاوت على الأمة مطارق المحن والمعاناة، نعم ما أحوجنا في الظروف الصعبة أن نأخذ منهج الصبر، ومواجهة الواقع بعزيمة لا تلين وإرادة لا تقهر ولا تستكين، إن حسم الانتصار لصالحنا مرهون بنا قبل غيرنا، والحسم يكون برجال ونساء يعودون بالإسلام إلى ينابيعه الصافية النقية، والذي في ظله قامت أمة قادت الدنيا بالدين، علينا أن نتعرف على الطريق الذي سلكه الآباء والأجداد؛ لأنهم كانوا ربانيين في العقيدة والسلوك وعصاميين في العمل والتشييد قال تعالى: "واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" [النحل، 127-128]. ولا ننسى أن الحياة عمل وقوة وعلم ومعرفة وأخلاق، ولقد دارت الأيام وتغير الحال وتبدل، كنا أمة حضارة، ورفعنا راية العلم والمعرفة وحملناها معنا ونحن نعبر الحدود إلى عالم جديد، تأثر بنا ونقل عنا أكثر مما نقلنا نحن عنه، كنا في الماضي نعطي أكثر مما نأخذ لقد كان فوق أرضنا المسلمة أساطن العلماء ودهاة التخطيط والتفكير، ولكن قبل أن نمضي في الحديث لابد أن نسأل أنفسنا، هل نحن قانعون بدورنا الحالي في هذا العالم المتطور الذي خطى بسرعة في خضم القرن الواحد والعشرين، واليوم فلا سبيل إلى اللحاق بالقوافل المنطلقة إلا بالعلم وبدون العلم هراء وسراب، والبدء يكون من المغرب علينا أن نتغذى بما تثمر العلوم، علينا أن نصل إلى القرى والمداشر والأحياء الدقيقة في الحواضر وأن ننشر روح العلم والتهذيب لما للعلم في المجتمعات من أهمية في التفاعل وربط الأجيال بركب العلم الذي هو مصدر القوة، حتى لا نبقى معزولين عن بناء الحياة وإن كنا من الشاهدين، لمستقبل أكثر إشراقا يمكن الأمة من القيام بدورها الإنساني المرتقب، من أجل حياة أفضل للأجيال القادمة التي ستتمكن من حمل لواء النهضة العلمية والفكرية، وهكذا تزدهر الحضارات، ولا سيما باكتشاف وسائل خلاقة، ولا يخالجني شك بأن الإبداع والمعرفة والخيال عناصرها متوفرة الآن. ومن ثم لابد أن نعطي لذي كل حق حقه على الجهود المضنية التي تبذلها الأسر مكملة مؤازرة ومنخرطة لكل الأسر الإنسانية الساعية إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، والتي نرجو لها أن تتواصل وتتكامل من الجانبين لتخطي صعاب الحاضر، بصلابة وإرادة وحكمة، وأن يواصل الجميع الإبحار إلى آفاق أرحب وأوسع، كدليل على التعاون الإنساني الصادق المخلص، إننا نود أن تتحول الأسر إلى أسلاك إنقاذ يأوي إليها من يتحرق إلى ما يحقق إنسانية الإنسان ويعيد كرامته، إننا إن فعلنا ذلك نكون ضمنا لمجتمعاتنا الإنسانية النهوض والتعارف والتقارب والتعاون، وما يعمق الوعي بالأخوة الإنسانية التي دعا إليها الإسلام، هذا الإسلام الذي يقول عنه الشاعر: فبالإسلام نقتعد الثريا وبالإسلام نفترش السحابا وبالإسلام نبني كل مجد ونصبح أمة غضت إهابا ومن يطلب سوى الإسلام نهجا فقد جعل السراب له شرابا ومن لم يتخذ لله عهدا فقد تخذ الضلال له ركابا