أروع ما في هذا الوجود، أسر هي ركن لوجود الأمم وعماد لبناء هيئتها الاجتماعية، وأساس محكم لمدنيتها، ومنها يخرج من يحث ويسوق الشعوب والقبائل على التقدم لغايات النضج والكمال، والرقي إلى ذرى السعادة، ثم من هذه الأسر أرسل الله الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، للانتقال بالإنسانية من دنيا كثيرة المكاره، جديرة بأن تسمى دار الأحزان وقرار الآلام، إلى دار فسيحة الساحات خالية من المؤلمات لا تنقضي سعادتها ولا تنتهي مصداقا لقوله تعالى: "وَأَمَّا الَذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالاَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" [هود، 108]. والأسرة خير من يزرع الحب في قلوب البنين والبنات وهم أغلى ما في الحياة، بل هي الحياة في أروع صورها، كما يفهمها الإنسان ويعيشها ويعزف نغمها ذلك النغم الذي يوقظ في الأجيال الإدراك والفهم لصور الحياة، وفوق ذلك فهذه الأجيال أثمن وأغلى ما في الحياة؛ لأنها الحياة نفسها. والحق أن الأسرة المسلمة قطعت حتى الآن أشواطا بعيدة في الدفع بأبنائها وبناتها للأخذ بأسباب التقدم والنهوض والازدهار، لكنها ما زالت أبعد ما تكون عما تتمناه الصفوة البانية من رفعة شأن الأمة حتى تسامت المجتمعات الإنسانية، وإعلاء كلماتها في النوادي الإنسانية الطلائعية، والواقع يقول: إن على هذه الأسر أن تفتح أعينها على أهمية ما يقتضيه هذا النهوض؛ لأن الإبقاء على هذه العزلة مما باعد بينها وبين السابقين مسافة، وخلق بينهما هوة من السبات العميق والتأخر الشائن. ورواد الإصلاح يحصرون المشاكل المعوقة في ثلاث مشاكل أساسية: الفقر، المرض والجهل، وأنا أضيف إليها بعض العادات السيئة، وهي مشاكل ذات أثر فعال جديرة بأن يقف عندها المصلحون ويذكرها العاملون؛ لأن كل إصلاح لا يبدأ في نفس الفرد وعقله وجيبه، إصلاح أبتر، وخاطئ ومضر ذلك أن مشاكل العادات السيئة إضافة إلى ما ذكر هي حلقات في سلسلة مغلقة، وأنه لا غنى عن معالجتها ومحاولة حلها بأجمعها، أما المسكنات المؤقتة فهي ترقيع لا يكفي وهذه وصمة عار خالدة في جبين الذين يهرفون بما لا يعرفون ويقولون ما لا يفعلون وهو أمر لا يماري فيه إلا غبي أو مدخول في عقله وضميره، والتغاضي عن الواقع المزري الأليم فشل وإخفاق وخسارة. والإنسان السيد هو العاقل قل أن يجود الزمان بمثله يختار من أبنائه وبناته أهل الكفايات، ويقدمهم وهو يرجو إصلاح ما أفسده الزمن، يبذر بذرة الإيثار لتنمو بما يصادفها من تجاوب في أجواء الحياة الإنسانية العامة، هذا الإنسان المنحدر من أسرة تحفظ النوع الإنساني كاملا، وأما النسل من غير أسرة سوية لا ينمو ولا يتكامل، ولا يسير في مدارج التقدم، والأسرة التي تنحدر فيها الأخلاق الاجتماعية تنحل قواها المعنوية. والأبناء والبنات هم أس هذه الأسر في الوجود الإنساني، والناس في كل بقعة من أرض الله حطموا القيد فانفسح الطريق لسيرهم، فخطوا خطوات واسعة، بقدر ما اتسعت أفكارهم المنسرحة الطليقة، فدخلوا في عصر العلوم وعصر الفنون وعصر التعقيل، ليس شيء في الدنيا إلا تغير وهو دائم التغيير، والناس تغيروا على الزمان عيشا، وتغيروا موارد عيش، وتغيروا صناعة وأسلوب صناعة، وحق لنا نحن كذلك أن نتغير لأننا ظللنا نحن أمة الإسلام مروعين سجناء لقرون، وقام على السجن سجانون لبسوا ثياب الورع والتقوى. وإذا تساءلنا اليوم عن هذه الرياح التي تهب بنا إلى شرق أم إلى غرب؟ هل نحن على دربهم سائرون أم عنها إلى حيث الزمان أهدأ، والتغير أبطأ ناكصون؟ وإذ نبدأ نضرب الأمثال نجد عشرات الأسئلة يزاحم بعضها بعضا؛ لأن المدنية ظاهرة واحدة متصلة، وإن اختلف الناس والأجيال، فأمست مدنية عالمية، إنها مدنية إنسانية، ابتدعها الفكر الإنساني من يوم بدأ ينقش بالحجر الرخو على جدران المغارات وهي من حجر صلد، إننا سائرون في سبيل هذه المدنية العالمية شئنا أم أبينا، وإن أهل الأرض جميعا فيها سائرون. إذن فقد وجب علينا أن نسارع الخطى حتى نبلغ هذا الهدف المحتوم، بالذي فيه من خير يشتهى وشر يخاف، وظني أن خيره أكثر من شره، وظني أننا منحدرون مع العالم كله إلى هذه الغاية، كما ينحدر الماء من أعلى الجبل غصبا فهو لا يتوقف، وإن شئت فقل كليل النابغة الذبياني الذي وجه به خطابه إلى النعمان ملك الحيرة يستعطفه حينما هدده: وإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنه واسع وأما روحانياتنا هذه وجب أن نتشبث بالصالح منها كثيرا، وأن نمسك بها طويلا حتى لا تفلت من بين أيدينا وإلى أن تضعف أصابعنا عن إمساك شيء عزيز في تيار نهر جارف، وإذا فتشنا في روحنا فإننا واجدون في أعماقنا فوق ما نبحث عنه فيما أسميناه بالمادة من عجائب، ونحن أمة الإسلام ينبغي أن يكون لنا في هذا المعترك الإنساني المدني القائم نصيب، ذلك لأن جرحنا الذي أخشى ألا يندمل هو وقوفنا أمام الشامتين وأبواب اللئام الهازئين، وهذا وحده كاف لإغراقنا في بحر من الهموم والأحزان ودموع اليأس المميت الذي يسرع بنا لا قدر الله إلى النهاية. واليوم في مقدور كل أسرة مسلمة أن تتحدى كل المعيقات لتعيش أصح ما يكون، فخورة بأنه في مستطاعها وبإرادتها القوية أن تصنع المعجزة، التي عجز عنها المتقاعسون طوال عصور الانحطاط المهين، إن جسم الأمة المنهك يحمل في داخله ماردا تتجسد فيه كل مقاييس الرجولة والعظمة والإبداع، إذا مكن له لينفذ نموذجه العجيب المتمرد نحو الانطلاق لبث بذور النهضة، وعراك الحياة وهو يعجم أغصان هموم الأمة لاستجلاء مستقبل واعد بكل أسباب التنوير لترسيخ قناعاته الإنسانية، ومبادئه الإسلامية وإيمانه برسالته، وأهمتها في بناء مجتمع إنساني لإخراج الإنسان من هذا التردي الإلحادي المتواصل، علما بأن أجيال الحاضر والمستقبل تحمل في قرارة نفسها رؤية تغازل الحراكات، وانبلاج صبح جديد يجتمع حوله الجادون والساخرون. ويعلم الله أن المعاناة بمعناها الجاد، من خلالها تبدأ نقطة الحسم التي تمكن الأسر متساندة من الانتقال من الاجترار إلى الإبداع، والإنتاج والتعمير، ومن أزمة الجدل والانشطار إلى التوافق والتكامل والإقلاع، وتذليل العوائق بما يتوافق ومكانة الأمة وقيمها، والمعاناة تجعل البعض واهمين، ومعلوم أن الوهم يذهل الواهم عن نفسه، ويصرفه عن حسه ويخيل له الموجود معدوما والمعدوم موجودا. لذلك ينسى الكثيرون إلى أين المصير لأن المطلوب يقتضي اليوم عملا سريعا وحاسما لمنع استمرار التدهور أكثر ما هو عليه الآن، مع اعتبار الإنسان هو المدخل الحقيقي بل المعيار والهدف، لأي اتجاه للتفاعل مع متطلبات وقضايا العصر الذي يعيش حتى نتجنب مصيرا سيئا معاكسا. وعندما نتكلم عن بناء حضاري شامخ، يجب أن تكون جدوره في الماضي العظيم قبل هذا التدهور الشائن، وأفرعه في المستقبل النابض الواعد، بالنشاط الإنساني الذاتي المتجدد المتفاعل مع الموجات الحضارية العالمية، وقديما قيل عندما تعثر على أسرة من النوع الحي، لا تملك سوى أن تحتفي بها؛ لأنها مؤشر التغيير والخروج من سجن الماضي حتى نستطيع بسرعة التمييز بين الإيجابي والسلبي، ومثل هذه الأسر هي التي يتخرج على أيديها الأجيال الشابة التي يقع عبء التغيير فوق أكتافها، مع الحفاظ على كل ما هو جميل وأصيل، والاندماج مع أسر الآخرين لتظل الحقيقة منتصرة بكل المقاييس، والحياة معركة لا تنتهي والله من علينا بنعمة العقل والحواس كي نحارب الأوهام؛ لأنها سراب خادع لا ينجو من يجري وراءه ويلهث وصدق الله العظيم إذ يقول: "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْأنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ" [النور، 38]. وكثيرا ما تساءلت أخي القارئ الكريم قائلا: متى يعود الزمن السعيد؟ لأن هناك خلل في كل اتجاه، والأغلب أن موطن الخلل هي هذه الأزمة في تراجع الجمال وانحساره واختلال مقاييسه، ونحن نشاهد الأعداء والأصدقاء يسخرون منا فتقطر قلوبنا دماء ومرارة تغص بها حلوقنا، وهم يقولون: العالم الإسلامي عملاق كسيح بلا أقدام، يا إلهي ماذا صنعوا بنا؟ أليس منكم رجل رشيد يخرجنا من هذا الظلام الأبدي؟ ومع ذلك فنحن لا نتكل على الأماني فهي بضائع الموتى، والدهر لا يخفض أحدا ولا يرفعه فمصير الإنسان بين يديه، وهناك فجوة تحول بيننا واللحاق بالعصر وردم الهوة ليس بالأمر الهين لأن قدرا كبيرا من مشكلاتنا إنما يعود إلى الحواجز التي أقيمت ذات أخطار متعددة، ولا يتأتى إزالتها إلا بالوعي المستنير، والحزم والعزم وحسن التدبير واغتنام الفرص المواتية، وأعجز الناس آخذهم بالهوينى، وأقلهم نظرا في مستقبل الأمور، ومن ترك اليأس يدخل قلبه فلا أمل له في الحياة، والواجب وضع الأقدام على الطريق رغم الصخر والأشواك ومخالطة الألم. علينا أن نرى النور مع تكاثف الظلمة من حولنا، لنؤدي حق الحياة بقداسة العمل التي يلتقي عندها العلم والدين والتقدم، والدين على الخصوص يمنح الناس الاحترام المفقود ويدفعهم إلى روح نضالية والتقدم سعادة واقتراب من أسرار الوجود وجماله وخالقه جل وعلا. بهذا تتكون عندنا قاعدة عملية جديدة مؤمنة، تستطيع أن تستقطب الكثير من طاقات الأجيال الحاضرة إلى ما هو أجدى، دون أن تنحرف بالدين أو تنحرف عنه، ويكون لأسرنا المسلمة هذا الصبر الطويل على العمل والتواصل الحميد بين الأجيال، والتعاون الذي يختصر الطريق ويقترب به الهدف البعيد، وبذلك يتضح أن حياة الإنسان قيمة وثمن، وكما يكون الغرس يكون الثمر والعالم اليوم يتخبط في فتن كأنها قطع الليل البهيم، والإلحاد يتقدم للأسف الشديد على جميع الجبهات، إن قرابة نصف البشر ينكرون وجود الله وقرابة نصف العالم يعترفون بالله ولكن يأبون عليه أن يطاع في شؤون الحياة من أخلاق واقتصاد وتشريع واجتماع وقيم جماعية أو فردية. وفي هذا المجال لابد للأسر المسلمة أن تصبر على البلاء إذا كانت ترجو حسن المكافأة في الدنيا والآخرة، لأن الحق حق ولو خالفه الجميع، والباطل باطل ولو قدسه الجميع قال تعالى: "وَإِنْ تُطِعْ اَكْثَرَ مَنْ فِي الاَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" [الاَنعام، 117]. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.