في سياق التحليل السابق للإمام الشاطبي في بحث مقاصد الشريعة، تحدث عن الضروريات والحاجيات والتحسينات في أربعة ميادين، وهذه الميادين الأربعة هي ميادين العلم والعمل في الحياة، وهي: العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، فلا يوجد للإنسان معاملة خارج هذه الأربعة مجالات، وكان الحديث عن الجنايات في جانب تعليم ما يضر الإنسان وما يجب أن يفارقه، فالجنايات إنما تهدف إلى إبطال الضرر أو الفاحشة أو السرقة أو ما شابهها قبل أن تقع، وذلك بفرض القصاص والديات للنفس والحد للعقل، وتضمين قيم الأموال للنسل والقطع والتضمين للمال وما أشبه ذلك. وهذا التعليم للجنايات، أي لماهية الجنايات مرتبط بالعقوبات الشرعية، فالعقوبات هي جزاء على الجنايات إذا ارتكبت، وتنفيذ العقوبات في الإسلام ليس ضروريا، وإنما هو تكميلي[1]، بمعنى أن من لا يرتكب الجناية العامة فلا عقوبة عليه، ولو جاز أن نشبهها بما في الحياة المعاصرة، فهي أشبه بقوانين السير، فالسائق الملتزم بقوانين السير، لا يؤثر عليه قانون المخالفات في هذا القانون؛ لأنه يقصد بالتزامه قوانين السير سلامته ونجاة غيره في الأصل، وليس عدم تعرضه للعقوبة، فالأصل في الشرع تعليم ما يقيم الأركان، أي مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عن المقاصد الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، أي مراعاتها من جانب العدم، وعدم وقوعها حتى لا يترتب عليها عقوبة. والعقوبات التي تشرع للإنسان هذه الأركان لا توصف بالقسوة ولا الهمجية؛ لأنها ليست غاية شرعية أصلاً، أي إن تنفيذ العقوبة ليس غاية شرعية، بل إن الشارع احرص على درأ تطبيق العقوبة من تطبيقها، ولذلك جاء في الحديث الشريف "ادرؤوا الحدود بالشبهات"[2]. وجاء في صحيح البخاري: حدثني عبد القدوس بن محمد حدثني عروة بن عاصم الكلابي حدثنا همام بن يحيى حدثنا إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي. قال ولم يسأله عنه، قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، قام إليه رجل، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم فيَّ كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا". قال: نعم، قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك أو قال حدك"[3]. لذا فإن العقوبات ليست إشكالية في حياة المسلمين، ولا تؤرقهم، ولا يشكون منها، لا من باب قبولهم للشرع الإسلامي بحكم إلهيته فحسب، بل بسبب عدالتها وتكاملها مع أصول الشريعة ومقاصدها، واستقرار النفوس والمجتمعات الإسلامية التي تؤمن بهذه العقوبات، وإن لم تجد أسباب تطبيقها، بسبب ندرة وقوعها[4]، فالشخصية الفردية المسلمة الممتلئة بالثقافة الإسلامية، وبالقناعة العقلية بالقيم الإسلامية التي تصدقها وتتخلق بها، لا تفكر بالعقوبات ولا بالجنايات، ما دام المسلم آمناً في نفسه وأسرته وحارته وقريته ومدينته ومجتمعه ودولته، أي بفضل هذا النظام الشامل والمتكامل لكل الناس أفراداً ومجتمعات ودول إنصافاً وعدالة. فالعقوبات "موانع قبل الفعل زواجر بعده، أي أن العلم بشرعيتها يمنع الإقدام على الفعل وإيقاعها بعده يمنع العودة إليه"[5]، ولكن الحديث عن مخالفتها لحقوق الإنسان، أو عن وحشية وهمجية الشريعة الإسلامية جاءت من الغرب[6]، بل كل التهم التي يدافع عنها علماء المسلمون في العصر الحديث مصدرها الغزو الفكري بالدرجة الأولى، "الغزو الفكري الذي هبت علينا ريحه فتغلل في كل أسرة، ودخل في كل بيت، ولم يسلم منه كل فرد حتى من أخذوا بحظ من الثقافة والعلم، وقد أخذوا يكيدون أعداء الإسلام من المستشرقين له -للإسلام- بطرق شتى متلونة، ليخرجوه في صورة مشوهة يحتقرها معتنقوه، ومتبعوه، ومن يريد الدخول فيه، فيلقون الشبه والترهات، في مدى صلاحية هذا الدين، وموافقته لهذا العصر"[7]. فالقضية ليست قضية عدالة العقوبات في الشريعة الإسلامية وموافقتها لحقوق الإنسان، أو مدى مخالفتها له، بقدر ما هي نوع من المواجهة الفكرية والحضارية. فالعقوبات الدنيوية العاجلة جاءت لتقويم طبيعة الإنسان غير السوي، الذي تحكم الرغبات والشهوات سلوكه الاجتماعي وليس سلوكه الفردي فقط، فالعقوبة في الإسلام، مرتبطة بأثرها وموقعها من النظام الاجتماعي الإسلامي ولم "يفطن الفكر الإنساني الوضعي للصلة الوثيقة بين الجريمة والحالة الاجتماعية إلا منذ زمن قريب، ولكن الشريعة الإسلامية -صنع الله- جهرت بالصلة الوثيقة بين الجريمة والحالة الاجتماعية"[8]. إن من واجب علماء المسلمين وبالأخص الحقوقيين منهم، أن يقدموا للعالم وبكل ثقة وجهة النظر الإسلامية، وحماية حقوق الإنسان في إطار العدالة الجنائية في الإسلام[9]، فنظام الإسلام يشمل في مفهومه العام حياة الإنسان ديناً ودنياً، وفهم الإسلام بصورة كلية غير مجزئة، هو الذي يعطي كل موقف منه مكانه الصحيح في الشريعة الإسلامية، فلا يكفي أن ينظر إلى نظام العقوبات فيه دون النظر لكل الأنظمة الإسلامية الأخرى، المعرفية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. ---------------------------------------------- 1. الموافقات للإمام الشاطبي، 2/8. 2. سنن الترمذي، ح: 1424، والموافقات للشاطبي،1/272، وكتاب العقوبة في الفقه الإسلامي، الدكتور أحمد بهنسي، ص: 125. 3. صحيح البخاري، ح: 6437، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب التفسير، قوله تعالى "إن الحسنات يذهبن السيئات"، رقم: 2764. 4. ندوات علمية في الرياض وباريس والفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي في جنيف والمجلس الأوروبي في ستراسبورغ حول الشريعة الإسلامية وحقوق الإنسان في الإسلام، مصدر سابق، ص: 20. 5. العقوبة في الفقه الإسلامي، الدكتور أحمد فتحي بهنسي، مصدر سابق، 13، وعزاه لفتح القدير، للشوكاني، 4/112. 6. القانون الإسلامي وطرق تنفيذه، أبو الأعلى المودودي، ص: 45. 7. العقوبات التفويضية وأهدافها في ضوء الكتاب والسنة، الدكتور مطيع الله دخيل الله سليمان الصرهيد اللهيبي، دار تهامة، جدة، الطبعة الأولى، 1404ه/1983م، ص: 23. 8. العقوبات الشرعية وموقفها من النظام الاجتماعي الإسلامي، السيد الصادق المهدي، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولى، 1407ه-1987م، ص: 169. وكتاب: العقوبة في الفقه الإسلامي، الدكتور أحمد بهنسي، ص: 23. 9. حقوق الإنسان، "دراسة تطبيقية عن العالم العربي"، الدكتور محمود شريف بسيوني، والدكتور محمد السعيد الدقاق، والدكتور عبد العظيم وزير، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الأولى، تشرين الثاني 1989م، 3/17.