جاءت الأحكام التكليفية بمقاصد شرعية غايتها مصالح العباد في الآجل والعاجل. وقد تنوعت مراتب المقاصد إلى ضرورية، وحاجية، وتحسينية. فالمقاصد الضرورية هي المقاصد التي تتوقف عليها حياة الناس، بحيث إذا فقدت اختل نظام الحياة، وذلك كالمآكل، والمشارب، والملابس، والمراكب الجوالب للأقوات، وغيرها مما تمس إليه الضروريات[1]. فهذه الضروريات. إذا لم تشبع أصاب المكلفين فساد في دينهم ودنياهم. وقد ثبت بالاستقراء أن المقاصد الضرورية خمسة: وهي حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل[2]. والمقاصد الحاجيية تحتل المرتبة الثانية في سلم المقاصد الشرعية وفيها يتم التوسعة على المكلف ورفع الضيق والحرج عنه، ولا يترتب عن فقدانها أي خلل في حياة الإنسان. فالمقاصد الحاجية تسهل الحياة للمكلف وترفع عنه مشقتها وعنتها، وذلك كالمسكن المريح واللباس الوثير والمركب الهنيء، فهي تتضمن التمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلا ومشربا وما أشبه ذلك[3]. والمقاصد الحاجية مرتبة وسطى بين الضروريات والتحسينيات، والمقاصد التحسينية، أو التكليمية تتعلق بمكارم الأخلاق. ومحاسن العادات مما هو في أعلى المراتب كالمآكل الطيبات المستلذات، والملابس الناعمات اللينات، والغرف العاليات، والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات الفارهات[4]. فاقتناء الكماليات يزيد الحياة بهجة وجمالا، ولا يترتب عن فقدانها تعطيل مصالح الدين والدنيا، أو وقوع المكلف في الحرج. فهذه المصالح "يحتاج إليها الإنسان لتحقيق إنسانيته وللتعبير عن سمو نظرته الاجتماعية في مجال السلوك كالآداب العامة"[5]، فالمقاصد من هذا المنظور تعتبر الإطار المذهبي الذي يوجه سلوك المسلم، استثمارا كان أو استهلاكا، ويربطه بالمنظومة الدينية، فتكتسي أفعاله وتصرفاته دلالتها الشرعية. فالمقاصد هي المحدد لقيمة أي نشاط اقتصادي، والسلوك إذا عري عن مقصده الشرعي فهو حظ "واستهلاك في هوى النفس"[6]. والنسق الشرعي يلتحم فيه البعد الديني بالدنيوي، وبذلك يؤسس المعاش على المعاد، وتتحرك الدوافع الاقتصادية في إطار شرعي وأخلاقي، ويقع النظر في التصرفات الاقتصادية من جهة العائد الديني الأخروي والدنيوي المادي[7]، "فلا تنازع أبدا بين المقاصد الشرعية والمقاصد الاقتصادية، فلكل رتبته وبين الرتب انسجام وتآلف"[8]، إن إدخال البعد الأخروي "الأجر والثواب"[9]، في النشاط الاقتصادي يجعل الهدف بالنسبة للمكلف مزدوجا، فالإشباع لا يعني الاهتمام بتحصيل ما تقتضيه الأوصاف الشهوانية، والهياكل الإنسانية، أي حصر مصلحة المكلف في البعد النفسي، ولكن بتقدير الضرر والنفع الشرعيين المترتبين عن هذا السلوك، والنظر إلى منفعته القبلية والبعدية فينظر إلى مصلحته من "حيث مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها"[10]. وانطلاقا من هذه المنظومة المرجعية الدينية تصبح المنفعة الحقيقية هي "ما جلب منفعة ودفع ضررا شرعيا". وليس ما جلب لذة أو دفع ألما نفسيا، ويصبح الإنتاج هو الربح + الأجر"[11]، ولذلك قد تتحد صورة الاستهلاك بالنسبة للمكلفين ويختلف معامله "ثوابه" في ميزان الشرع. فالسلوك الاستهلاكي في المنهج الإسلامي محكوم بأبعاده ومقاصده، ويترتب عن ربط الاستهلاك بالمقاصد. • أن الاستهلاك تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبا لإقامة أود الحياة، وهذه مرتبة الضروريات[12]. ويكون مندوبا وهذه مرتبة الحاجيات، ويكون مباحا، وهذه مرتبة التحسينات. أما الحرام فهو يشمل منطقة الإسراف والترف والتنعم، في حين يكون مكروها إذا اقترب من منطقة الإسراف ولم يبلغها؛ • أن سلم درجات الاستهلاك يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة الأحوال والنوازل[13]. وهذا الاختلاف راجع إلى المستوي الحضاري الذي تصل إليه الأمم وإلى الاختلاف في العوائد والأعراف؛ • أن هذه المقاصد تخضع لأولويات، فلا يجوز للمسلم أن يستهلك السلع الكمالية، وهو لم يشبع ضرورياته أو حاجياته[14]. إن الاستهلاك مرتبط بالوظيفة الاجتماعية، فلا يجوز للمسلم أن ينفق على كمالياته وفي المجتمع من يفتقد الضروريات. • إن القاعدة الدينية -مبدأ الحلال والحرام- والأخلاقية ينبغي أن تراعى في جميع هذه المستويات الثلاث -الضروريات والحاجيات، والتحسينات– إذا "الشريعة كلها إنما هي تخلق بمكارم الأخلاق"[15]؛ • إن ترتيب المقاصد الضرورية يمتاز بالتجانس، فهي تشكل نسقا منسجما يحتل فيه الدين أعلى الهرم، وهذا يدل على أن الضروريات الأخرى -وإن بدت مستقلة- لا يمكن أن تخرج عن القاعدة الدينية، ثم تأتي النفس في الدرجة الثانية، وهذا يعكس أهمية الاستهلاك باعتبار أن الإنسان مأمور "بحفظ نفسه قياما بضرورة حياته"[16]. ويأتي المال في مؤخرة الهرم باعتباره ممولا للاستهلاك، وهذه الحقيقة تدل على أن المال وسيلة لخدمة هذه الضروريات الأربعة التي يشكل منها الإنسان في كل أبعاده[17]، إذ "كل مكلف في نفسه فهو مأمور بحفظ دينه اعتقادا وعملا، وبحفظ نفسه قياما بضرورة حياته، وبحفظ عقله حفظا لمورد الخطاب من ربه إليه، وبحفظ نسله التفاتا إلى بقاء عوضه في عمارة هذه الدار وراعيا له عن وضعه في مضيعة اختلاط الأنساب العاطفة بالرحمة على المخلوق من مائة، وبحفظ ماله استعانة على إقامة تلك الأوجه الأربعة"[18]. فالإنفاق الاستهلاكي في الإسلام خادم لهذه الضروريات الشرعية ولذاك فترتيبها يشكل نسقا داخل المنظومة الشرعية، ويحقق توازنا وانسجاما في المنهج الاقتصادي الإسلامي، وإن إبعاد أي عنصر من هذه العناصر يحدث خللا داخل هذا النسق. ولعل هذا ما جعل الأنساق الفكرية الاقتصادية الغربية مبتورة ومشوهة، فالفكر الماركسي اهتم بحفظ المال وحفظ النفس، والفكر الليبرالي اهتم بحفظ المال مما جعل الإنسان، "متغيرا تابعا أداة إنتاج أو عضو استهلاك"[19]. والنتيجة أنه تم استبعاد المتغيرات الدينية، والأخلاقية من التحليل الاقتصادي؛ لأنها لا تخضع للقياس الكمي وللصياغة الرياضية[20]. إن الضرورات الشرعية تعكس اهتمام الإسلام بوحدة الإنسان في كافة أبعاده، وإن هذه الأبعاد ينبغي أن يسود بينها التوازن وليس الاختزال، وهو ما وقع في التنظيمات الاقتصادية الغربية التي اختزلت الإنسان في بعد اقتصادي[21]. يتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ------------------------- 1. الموافقات للشاطبي، تعليق محمد الخضر حسين، ج: 2، ص: 4 دار الفكر بدون طبعة -قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام، ج: 2 ص: 60 دار المعرفة بيروت، بدون تاريخ - محاضرات في الفكر السياسي والاقتصادي في الإسلام لأستاذنا الدكتور محمد فاروق النبهان، ص: 114 منشورات عكاط، 1987م. 2. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 4. 3. قواعد الأحكام للعز ابن عبد السلام، ج: 2، ص: 60 -مقاصد الشريعة الإسلامية: الطاهر بن عاشور، ص:82، الشركة التونسية للتوزيع، بدون تاريخ. 4. الموافقات، للشاطبي ج: 2، ص: 127. 5. الخصائص الحضارية للفكر الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان، دراسة منشورة بمجلة الاقتصاد الإسلامي التي يصدرها بنك دبي الإسلامي بالإمارات العربية المتحدة، ص: 67، العدد: 179، السنة الخامسة عشر شوال/1416 ه، فبراير –مارس/1996. 6. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 137 7. قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج: 1، ص: 36. - الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص:21. 8. أصول الاقتصاد الإسلامي، رفيق يونس المصري، ص: 12، دار القلم بيروت الطبعة الأولى، 1409 ه/1989م. 9. صيانة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك، محمد أنس الزرقاء، دراسة منشورة في قراءات في الاقتصاد الإسلامي، ص: 166، إعداد مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز كلية الاقتصاد والإدارة، جدة، الطبعة الأولى، 1407ه /1987م. 10. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 15. 11. التوجيه الإسلامي لعلم الاقتصاد, محمد صحري، دراسة منشورة بمجلة الاقتصاد الإسلامي التي يصدرها بنك دبي الإسلامي بالإمارات العربية الإسلامية، ص19، العدد: 171، السنة الخامسة عشر، صفر/1416ه/ يونيو/1995م. 12. ولذلك جاز للإمام استسلاف الصدقة قبل حولها وتوظيف ضريبة في أموال الأغنياء حتى يمول استهلاك الفقراء للضروريات، فقد استسلف النبي صلى الله عليه وسلم صدقة عمه العباس سنتين، راجع السنن الكبرى للبيهقي، ج: 4، ص: 11- الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي للماوردي، تحقيق علي محمد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، ج: 3، ص: 159، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى، 1414ه/1995م. 13. يقول الشاطبي: "إن المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية (نسبية) لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية أنها منافع أو مضار في حال دون حال وبالنسبة إلى شخص دون شخص أو وقت دون وقت.. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 16. 14. الخصائص الحضارية للفكر الاقتصادي الإسلامي، محمد فاروق النبهان، ص: 67. 15. الموافقات للشاطبي، ج:2، ص: 51- أنظر أيضا تجديد المنهج في تقويم التراث, طه عبد الرحمان، ص: 113، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1994. 16. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص:121. 17. التوجيه الإسلامي لعلم الاقتصاد، محمد صحري، ص: 20. 18. الموافقات للشاطبي، ج: 2، ص: 121. 19. التوجيه الإسلامي لعلم الاقتصاد، محمد صحري، ص: 20. 20. المسلم في علم الاقتصاد، مالك ابن نبي، ص: 107 دار الشروق، 1972م -الاقتصاد في القرآن والسنة، عيسى عبده، ص: 38، دار المعارف، 1396ه/1976م- التوجيه الإسلامي لعم الاقتصاد، محمد صحري، ص: 20. 21. ولعل هذا ما تؤكده نظرية سيادة المستهلك التي تقوم على أساس أن كل إنسان هو خير حكم على ما هو مفيد له من السلع والخدمات، مما ولد زيادة مستمرة في منحى الاستهلاك. وهذه الحالة المرضية تعكس اختزال الإنسان في بعد اقتصادي-انظر المبادئ الاقتصادية في الإسلام: علي عبد الرسول، ص: 184، دار الفكر العربي، لبنان، الطبعة الثانية، 1980م.