شخصية هذه الحلقة عالم فاضل ابن فاضل، ساهم بحظ وافر في ازدهار العلم بفاس والمغرب برمته، وامتاز بجمع فريد من نوعه بين التأليف النظري والتأليف التطبيقي، إنه صاحب "العمل الفاسي" و"الأقنوم"؛ يتعلق الأمر بعبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي.. هو أبو زيد عبد الرحمن بن عبد القادر بن علي بن أبي المحاسن يوسف الفاسي الفهري. ولد بفاس في 17 جمادى الثانية عام 1040ه "21 يناير 1631" بمنزل والده في العيون من عدوة فاس القرويين، ونشأ في حجره وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وإذا كنا نجهل الكثير عن الأطوار التعليمية الأولى لحياته، فمن المؤكد أن تكون النشأة المألوفة التي تتمثل إضافة إلى ما ذكر من حفظ القرآن، في تعلم القراءة والكتابة، وحفظ بعض النصوص الفقهية، وبعض المبادئ من العلوم الإسلامية لكي يتهيأ للدراسة العلمية العليا... قرأ عبد الرحمن الفاسي على كثير من علماء فاس في وقته، على رأسهم والده سيدي عبد القادر الفاسي، وعبد الرحمان ابن القاضي، ابن عم المؤرخ الشهير أحمد ابن القاضي، ولد بفاس سنة 999/1509، وكان عالما مشاركا، وكانت له دراية كبيرة بعلم القراءات الذي كان يدرسه في جامع القرويين المبارك، توفي بفاس سنة 1082/1672، ودفن بضريح سيدي علي الصنهاجي.. ومن شيوخ عبد الرحمن الفاسي نذكر أيضا أحمد الزموري؛ فقيه نحوي، ولد بفاس عام 1012ه/1603، تولى بفاس خطتي القضاء والتدريس، وتوفي بداره بحي المعادي من عدوة فاس القرويين سنة 1057/1647، وحمدون الآبار، صاحب "حاشية على مختصر خليل وفتاوي كثيرة. وكان قد تقلد خطة الخطابة بجامع الأندلس بفاس عام 1071/1660، ومحمد ميارة صاحب الشرحين على المرشد المعين على الضروري من علوم الدين لابن عاشر، وشرح لامية الزقاق، وشرح تحفة ابن عاصم في الأحكام، توفي بفاس سنة 1072/1664، ودفن بداره التي صارت ضريحا وقبره معروف اليوم بدرب الطويل من عدوة فاس القرويين.. لم يذكر مترجمو سيدي عبد الرحمن الفاسي هل أدى فريضة الحج أم لا، لكنه ترك مؤلفات تربو على مائتي كتاب في العقائد والفقه المالكي، والقضاء، والطب والتنجيم، والتراجم والتاريخ. وقد ذكر العلامة ليفي بروفنصال في "مؤرخو الشرفاء" قائمة بأشهر مؤلفات عبد الرحمن الفاسي في المادتين الأخيرتين، وقد استفاض الدكتور محمد الأخضر في كتابه "الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية "دار الرشاد الحديثة، ط1، 1977" في ذكر كتب فقهية وأدبية للعلامة عبد الرحمن الفاسي مع التأكيد على "دائرة معارفه" المسماة ب "الأقنوم في مبادئ العلوم". لعبد الرحمن الفاسي ديوان شعر جمعه ابنه محمد، وأدمجه في الجزء الخامس من كتاب "اللؤلؤ والمرجان" الذي وضعه للتعريف بوالده، وقد كان هذا الديوان في ملك المهدي الفاسي قاضي برشيد. وله أيضا "العجب في علم الأدب"، و "معارضة قصيدة أبي الشق"، وله "تآليف في صناعة الشعر"، "والجرومية في التغزل"، وله "بائية في مدح صلحاء فاس"، مطلعها: ألا مل إلى فاس فتلك مني القلب وحدث بها عمن ثوى باطن الترب وقد عارض بها سينية ابن باديس في مدح الشيخ عبد القادر الجيلاني: ألا مل إلى بغداد فهي مني النفس وحدث بها عمن ثوى ساكن الرمس ولعبد الرحمن الفاسي مؤلفات فقهية مفيدة نذكر منها: "العمل الفاسي"، و "السكينة في تحديث أهل المدينة"، و" مفتاح الشفاء" (أي شفاء القاضي عياض)، وله "استطابة التحديث بمصطلح الحديث"؛ كتب الأستاذ خالد الصقلي مقالا مفيدا بعنوان: "سيوطي زمنه عبد الرحمان عبد القادر الفاسي الفهري (1040-1096ه) "أسرته، حياته، ومؤلفاته" مجلة الدوحة المغربية العدد3، ص: 109-138، الرباط 1418-1419ه/1997-1998" قال فيه: "كان المرحوم الأستاذ محمد الفاسي قد أمدني بقائمة مخطوطة في 7 صفحات، حول أسماء مؤلفات عبد الرحمان الفاسي منقولة من كتاب "اللؤلؤ والمرجان في مناقب الشيخ عبد الرحمان" الذي هو من تأليف محمد بن عبد الرحمان الفاسي، وهي تحتوي على أسماء 178 كتاب. والملاحظ أن المتبقي من أجزاء هذا الكتاب هو الجزء الخامس المخطوط في الخزانة الحسنية تحت رقم 597. ولقد اطلع عليه خالد الصقلي ولم يجد به الحديث عن هاته القائمة. وهذا الجزء خاص بالقصائد التي نظمها عبد الرحمان الفاسي. وفي نفس الإطار كان محمد الفاسي قد نشر بمجلة المناهل (المغربية) العدد: 35، ص: (55-80) السنة 13 دجنبر 1986 مقالا حول مؤلفات عبد الرحمان الفاسي وجعلها: 207 كتابا. وقد ذكر خالد الصقلي في مقاله أسماء 223 كتابا.. وقد هدف خالد الصقلي من مقاله على الخصوص إلى جعل الباحثين يعرفون المطبوع من كتب عبد الرحمان الفاسي، والمخطوط منها، وأماكن وجوده، وكذلك معرفة كتبه الضائعة، والملاحظ أن هذه الكتب متعلقة بعدة علوم كالحديث والفقه والطب والفلك والتصوف والتاريخ والأدب والأنساب.. ونظرا لأهميتها العلمية، فالأمل كبيرا أن يقوم بتحقيق المخطوط المتبقى منها الباحثون كل في مجال تخصه.. ومن بين الكتب المخطوطة للعلامة عبد الرحمن الفاسي والتي تدل على موسوعيته وعلو همته نذكر: ابتهاج الأرواح بنظم كتاب الاقتراح للسيوطي "يجهل مصيره"، و "ابتهاج البصائر فيمن قرأ على الشيخ عبد القادر" يجهل مصيره، وابتهاج القلوب بخير الشيخ أبي المحاسن وشيخه المجذوب مخطوط بعدة خزائن، منها نسخة بالخزانة الحسنية تحت رقم 2627. وبخصوص هذا المخطوط فقد قامت بتحقيقه الباحثة حفيظة الدازي، وناقشته في إطار دبلوم الدراسات العليا في كلية الآداب بالرباط يوم 17/12/1992. "والإتحاف في اختصار الأرداف" يجهل مصيره، و "الأحكام في علم الكلام" يجهل مصيره"، و "اختصار أرجوزة ابن سينا في الطب" يجهل مصيره، و "اختصار السلك في المنطق" يجهل مصيره، و "أزهار البستان في مناقب الشيخ أبي محمد عبد الرحمان"، مخطوط بالخزانة العامة تحت رقم: د. 2074/1، ترجم فيه لأخ جده الثاني أبي المحاسن يوسف، وله: "الاصطلاح في علاج العرض الهام" يجهل مصيره، وله: "الانتخاب في عمل الأسطرلاب"، وله: "برقات المعاني في أوقات الأيام والليالي" يجهل مصيره، و "تحفة الطلاب في عمل الأسطرلاب"، وله: "تفسير الأعشاب" يجهل مصيره، وله: "تقييد في التعريف بالشيخ محمد فتحا بن عبد الله معن". سماه عبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى1/236 ب "عوارف المنة في مناقب أبي عبد الله محمد فتحا بن عبد الله معن محيي السنة"، وله: "التلميح في التشريح" يجهل مصيره، و "تمهيد السلاسة في علم الساسة" يجهل مصيره، و "تهذيب المقاصد في الطب من نصبة الموالد" يجهل مصيره، وله: "توجيز المسهوم من آداب النجوم" يجهل مصيره، وله: و "توسط الكواكب مع درج البروج" انظر خالد الصقلي، المرجع السابق. ولعل العمل الفاسي هو أشهر ما أبدع فيه العلامة عبد الرحمن الفاسي، وهو مؤلف جامع مفيد في "علم القضاء المغربي"، وهو دراسة وافية في الأقضية والأحكام التي صدرت عن قضاة فاس، نظمه المؤلف في سبعة عشر وأربعمائة بيت من بحر الرجز ملخصا فيه سلسلة من الصيغ القضائية؛ ولأنه كتاب مختصر، فقد وضعت له شروح متعددة، منها شرح الناظم نفسه إلا أنه لم يكمله، وهناك شرح العلامة الخطير أبي القاسم بن سعيد العميري "المتوفى عام 1178ه" سماه: "الأمليات الفاشية من شرح العمليات الفاسية"، ونذكر أيضا شرح محمد بن أبي القاسم السجلماسي الرباطي "المتوفى سنة 1214ه" "طبع في على الحجر بفاس مرارا أولها عام 1874ه".ويفيدنا محمد الأخضر في كتابه سابق الذكر بوجود كتاب في "العمل المطلق" وهو رجز من نظم العلامة السجلماسي سابق الذكر.. وقد استدل محمد الأخضر في كتابه بشهادة الباحث لوبينياك في دراسته عن "الفصل المتعلق بالشفعة من العمل الفاسي "هسبريس جزء 26: 1939، ص: 193-239" التي يقول فيها: "يقدم كتاب العمل الفاسي المشهور في الفصل المتعلق بالشفعة مصلحة حقيقية، بما يأتي به من تجديد وتنوع في العمل الفقهي، ويعطي أمثلة متعددة لهذا التطور في الفقه الإيجابي المغربي، الذي يكون أحد ملامحه الأكثر جاذبية لبعض العقول الغربية، فالعمل الموضوع أمام الضرورات والحالات الجديدة، التي لم تكن معروفة عند المؤلفين القدماء، لم يتردد في أن يكيف لها القواعد ويلينها ويدخل الفروق الضرورية ليضمنه للمتقاضين حقا أكثر إنسانية وملائمة لمطامحهم وحاجياتهم، دون أن يتعارض مع القواعد الأساسية للفقه الأصلي؛ وهكذا يبدو، من حين لآخر، أن المبدأ القديم لثبات الفقه الإسلامي، ينبغي أن يراجع بعزم وإقدام". إنها شهادة حول إيجابية وإنسانية التنظير الفقهي المغربي عبر ما كتبه عبد الرحمن الفاسي، مما يدل على قضية تستشف عبر هذه الشهادة بتحليل موضوعي وهي حياة الأمة وتحويلها الفكرة الدينية الراسخة إلى خبرات علمية تنفع الناس وتساهم في ازدهار المدينة الإسلامية بفضل من الله.. وأريد أن أقف وقفة مع عمل موسوعي آخر من أعمال سيدي عبد الرحمن الفاسي هو: "الأقنوم في مبادئ العلوم"، والحق يقال أن هذا العمل الجبار لا يقل أهمية عن مشروع العمل الفاسي، والأقنوم رجز تعليمي طويل النفس، وهذا ناطق بهم رجل فاضل محب للدين والوطن والإنسان. لقد كان عبد الرحمن الفاسي بن سيدي عبد القادر مدركا أن كرامة الوطن وسمعته لن تتحقق إلا عبر علم مسدد بالعمل؛ وقد دلت شهادة لوبينياك التي ركزت على "الفقه الإيجابي المغربي"، عن إنتاج مغربي لصالح العمران البشري في أبعاده الكونية مع مراعاة الخصوصية الثقافية المغربية، ولقد كان للتنظير المنهجي للمسألة العلمية مكانها الطبيعي ضمن هذه الجدلية المباركة بين العلم والعمران؛ أعتقد أنه ضمن هذه الرؤية يتأطر الأقنوم في مبادئ العلوم". تناول عبد الرحمن الفاسي في "الأقنوم" 281 علما كانت معروفة في عصر المؤلف "محمد الأخضر، مرجع سابق: ص: 119"، وقد أصر على جمعها في رجز نفيس جاء بمثابة بيان من أجل العلم والحث عليه وإثبات ضرورته في النهوض المغربي في دنيا الإسلام. تحدث الفاسي عن العقائد والتفسير وأصول الفقه والنحو والمعاني والعلوم العقلية والتطبيقية.. قال عبد الرحمن الفاسي في الأقنوم: جمعت منها الموجز القريبا لكي يرى في جعه عجيبا من كل مدخل إلى علوم ونظمه أسميه بالأقنوم شبه النقاية ولكي أزيد علما، ومنظوم لكي أفيد جئت به في قصدها تتميما كيما يكون جامع عظيما وذاك لما رأيت الأعتنا بما على ما قل منها ودنا وددت لو لم تخل من فنون تزيد والحديث ذو شجون وفي الفصل السادس والعشرون المتعلق بالأدب يقول سيدي عبد الرحمن الفاسي: علم بكيفية إيجاد الكلام مع البلاغة بنثر أو نظام لابد من دراسة الأخبار فيه وعلم سالف الأعصار ولينتخ من كلها صحيحة مع جودة العقول والقريحة فيدخل الأحسن في كلامه بطريق تليق في مقامه إلى أن يقول: وليعط أرفع الكلام للرفيع من المخاطب ويخفى للوضيع وليسلك الإيجاز في محله كل مقام مفرد بقوله إذ ليس الاختصار بالمحمود في كل ما يرام من مقصود وفيما يتعلق بالأسلوب يقول الفاسي ببراعة وقصد عميق: وهو عبارة عن المنوال لنسج ما ركب من مثال بصورة صارت لدى الخيال بالذهن كالقالب والمنوال انتزعت بالذهن من أعيان تراكب صحت بها معاني يرصها في قالب كالبنا أنواعها تخص فنا فنا وفي حديثه عن الذوق يقول الناظم: والذوق وجداني لدى الكلام في اللسن مثل الذوق في الطعام إذ بممارسة أسلوب العرب حصلت الملكة التي تحب صاحبها يسمع غير المعتاد له يراه عن لسانه حد فذلك الذوق يمجه به لكونه خرج عن أسلوبه كانت وفاة عبد الرحمان الفاسي بفاس يوم 16 جمادى الأولى عام 1096ه/الموافق 20 أبريل 1685م. ودفن بزاوية والده عبد القادر في حي القلقليين التي كان يدرس بها، وقبره معروف هناك اليوم... ولقد قام برثائه مجموعة من العلماء، من بينهم أبو سالم العياشي الذي يقول في مطلع قصيدته الرثائية: ما في البسيطة طرا يباريكا يا أطيب المنتمى سبحان باريكا ويقول عبد الملك التجموعتي في مطلع قصيدته الرثائية: رحمك يا عبد الرحمان وحماك لولاك ما لذ لي القريض لولاك رحم الله سيدي عبد الرحمن الفاسي وجازاه عن الإنسانية خيرا، والله الموفق للخير والمعين عليه.