مفهوم الاستهلاك لغة الاستهلاك: مشتق من هلك[1]، وقد وردت هذه الكلمة مجردة ومزيدة. أولا: ثلاثي مجرد، هلك، وأشهر ومن معانيه: • "افتقاد الشيء عنك"[2]، وهو عند غيرك موجود، ومنه قول الله تعالى: "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ" [الحاقة، 29]؛ • "هلاك الشيء باستحالة وفساد"[3]، يقال: هلك الطعام، ومنه قول الله تعالى: "وَيُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْل" [البقرة، 302]؛ • "الموت"[4]، ومنه قول الله تعالى: "إنِ امْرؤٌاْ هَلَكَ" [النساء، 175]؛ • "الفناء"[5]، ومنه قول الله تعالى: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ" [القصص، 88]. ثانيا: رباعي مزيد بالهمزة، أهلك،، وهو يأتي بمعان منها: • "أنفق"، ومنه قوله تعالى: "أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً" [البلد، 6]، "أي أنفقت مالا كثيرا"[6]؛ • "باع"، يقال أهلك إبله أي باعها[7]. ثالثا: سداسي مزيد بحرفي الطلب، استهلك: يقال: استهلك المال، أي أنفقه وأنفذه[8]. ومنه قول الشاعر: تقول إذا استهلكت مالا للذة فكيهة هل بكفيك لائق[9]. وقال عنترة: وإذا سكرت فإنني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلم[10]. والمستهلك هو الذي يهلك أضراسه بشرب الماء عقب الحلواء[11]. مفهوم الاستهلاك في الاصطلاح الفقهي إن تأصيل مفهوم الاستهلاك في الفقه الإسلامي يقتضي تتبع ورود هذا اللفظ في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، واستعمالات الفقهاء القدامى، والدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة، وذلك حتى نتمكن من رسم ملامح واضحة لهذا المفهوم. أولا: مدلول مصطلح الاستهلاك في القرآن والحديث النبوي يمكن القول بادئ ذي بدء، إن القرآن الكريم لم يرد فيه لفظ الاستهلاك، وإنما ورد فيه لفظ أهلك بمعنى أنفق، وهو أحد المعاني المشتركة مع استهلك في معناها اللغوي. أما السنة فقد ورد فيها حديثان: الأول: أخرجه البيهقي في سننه عن يوسف بن ماهك[12]، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابتغوا في مال اليتيم، أو في أموال اليتامى، لا تذهبها أو لا تستهلكها الزكاة"[13]؛ والثاني: أخرجه الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ابتغوا بأموال اليتامى لا تستهلكها الزكاة"[14]. ويستفاد من هذين الحديثين أن المراد بالاستهلاك، أن تأكل النفقات رأس المال وتذهب به إذا لم يستثمر، وهذا المعنى يؤكده ويفسره الأحاديث الأخرى التي وردت في نفس الباب، وهي أحاديث تذكر لفظ تذهبها أو تأكلها بدل تستهلكها[15]. ومما يؤكد هذا المدلول أن لفظ الاستهلاك أطلق في مقابل لفظ الاتجار. فلفظ اتجروا كما ورد في الحديث، يراد به تشغيل رأس المال في النشاط الإنتاجي، وعدم تركه عاطلا. ولفظ الاستهلاك، ينصرف إلى النفقات التي يتآكل عن طريقها رأس المال ويفنى ولا ينمو ويتزايد. ثانيا: مدلول مصطلح الاستهلاك عند الصحابة ورد استعمال هذا اللفظ عن بعض أكابر الصحابة مثل عمر بن الخطاب، وهم يقصدون به نفس الدلالة التي وردت في الحديث، فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال للمرأة التي جاءت تطالب بصداقها: "ما وجدت بعينه فأنت أحق به، وما استهلك أبوك فلا دين لك على أبيك"[16]. وهذا يبين أن مصطلح الاستهلاك في قول عمر يعني النفقات التي تؤدي إلى النقص من رأس المال جزئيا، أو نفاذه كليا، مقابل الحصول على خدمات، أو إشباع حاجات.. يُتبع في العدد المقبل بحول الله تعالى.. ------------------------------------------------------- 1. معجم مقاييس اللغة لابن فارس: تحقيق محمد عبد السلام هارون، ج: 6 ص: 362 دار الفكر د-ت. الطبعة 2 – 1390 ه - 1979م الصحاح: للجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ج: 4 ص: 166 دار العلم للملايين. أساس البلاغة: للزمخشري، ص: 705 دار صادر، بيروت 1965 م. 2. معجم مفردات ألفاظ القرآن: للراغب الأصفهاني: تحقيق نديم مرعشلي، ص: 543 دار الفكر، بيروت – 1392 ه - 1972 م. 3. نفس المصدر، ص: 543. 4. نفس المصدر، ص: 543. 5. نفس المصدر، ص: 543. 6. كان أهل الجاهلية يفتخرون بإتلاف المال في غير صلاح ولا منفعة، ويعدون ذلك منقبة لصاحبه لأنه علامة على عدم اكتراثه به، التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، ج: 30 ص: 352 الدار التونسية 1984. 7. لسان العرب لابن منظور، ج: 10 ص: 507 دار صادر، بيروت، د-ت. 8. نفس المصدر. ج: 10 ص: 507. 9. نفس المصدر. ج: 10 ص: 507. 10. الشعر والشعراء لابن قتيبة، ج: 1 ص: 174 دار الثقافة، بيروت، د-ت. 11. آداب المواكلة: بدر الدين أبو البركات محمد الغزي، تحقيق عمر موسى باشا، ص:42 دار ابن كثير، دمشق1407ه. 12. هذا الحديث مرسل لأن يوسف بن ماهك تابعي، إلا أن الشافعي رحمه الله أكد هذا الحديث بعموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة، وبما رواه عن الصحابة في ذلك، وقد روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، المجموع للنووي ج: 5 ص: 329 دار الفكر/ د- ت. 13. السنن الكبرى للبيهقي: تحقيق محمد عبد القادر عطا: كتاب الزكاة، باب من تجب عليه الصدقة، ج: 4 ص: 179 حديث رقم: 7338 دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1414ه - 1994م. 14. سنن الدارقطني: كتاب الزكاة، باب استقراض الوصي من مال اليتيم، ج: 2 ص: 111 وقال النووي، ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفا عليه، وقال إسناده صحيح، المجموع، ج: 5 ص: 329. 15. الزكاة للقرضاوي، ج: 1 ص: 110 مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الثانية 1393ه - 1973م. 16. عن بكر بن عبد الله المزني أن رجلا من أهل البادية زوج ابنة له فساق مهرها وحازه، فلما مات الأب جاءت تخاصم بمهرها، وجاء إخوتها فقال الإخوة: حازه أبونا في حياته، وقالت المرأة: صداقي، فقال: عمر ما وجدت بعينه فأنت أحق به، وما استهلك أبوك فلا دين لك على أبيك، المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن الهمام الصنعاني، تحقيق حبيب الله الأعظمي: كتاب النكاح، باب أخذ مهر الأب مهر ابنته، ج: 6 ص: 221 المكتب الإسلامي بيروت الطبعة الأولى 1392ه - 1972م.