التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: المبدأ الأول في طريق التصوف: التوبة (1) وهي إقلاع الجوارح عن المعاصي والمحرمات وهجرة القلب للآثام والغفلات، قال تعالى: "وَذَرُواْ ظَاهِرَ ِالاثْمِ وَبَاطِنَهُ" [الاَنعام،121]؛ فالتوبة طهارة من الذنوب، ولابد في الطهارة من طهارة القلب والجوارح. فإذا انسلخ المرء من كل ما لا يُرضي الله، وتاب قلبه وتطهَّر من كل ما يُبعد عن الله ويحجب عنه، من: الغفلة والآثام والصفات الذميمة، تحلَّى بالإيمان وذاق حرارة القرب والمعرفة، وصار قلبه وِعاءً للتقوى، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ثلاثاً: "التقوى ههنا" ويُشير إلى صدره[1]؛ فضِدّان لا يجتمعان في قلبٍ واحد، "ومَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ" [الاَحزاب، 4]. فلا طريق للصوفية في كمال التنعم بالقرب من حضرة الله عز وجل إلا بالإقلاع عن الصفات المذمومة ظاهرا وباطنا، لذلك ابتدأ الناظم بالتوبة إشارة إلى أنها أول المبادئ والمقامات؛ إذ لا يصح مقام إلا بعد تصحيح مقام التوبة، فقال رحمه الله: وَتَوْبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ يُجْتَرَمْ *** تجِبُ فَوْراً مُطْلَقاً وَهْيَ النَّدَمْ بِشَرْطِ الإِقْلاَعِ وَنَفْيِ الإِصْرَارْ *** وَلْيَتَلاَفَ مُمْكِناً ذاَ اسْتِغْفَارْ قال ابن عطاء الله السكندري: "فأول المقامات التوبة، ولا يُقبل ما بعدها إلا بها"[2]. والتوبة واجبة من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، ظاهرها وباطنها. والتوبة من جميع الذنوب هي التوبة النصوح؛ والأصل في وجوبها قوله تعالى: "وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً اَيُّهَا الْمُومِنُونَ" [النور، 31]، وقوله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الذينَ ءامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا" [التحريم، 8]، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "إنه لَيُغَانُ على قلبي وإني لأستغفر في كل يوم سبعين مرة"[3]، وفي رواية: "فإني أتوب في اليوم مائة مرة"[4]؛ وتوبته صلى الله عليه وسلم ليست مما يُعدُّ ذنبا عندنا كما سيأتي لاحقا. وقال تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُون" [الحجرات، 11]، قال ابن عطاء الله السكندري: "مَن فعل المعاصي وتقلب في المحارم، لو انغمس في سبعة أبحر لم تطهره، حتى يعقد مع الله عقد التوبة"[5]. وإنّ من أخطر الذنوب عند القوم أحقرُها، ولرُبّما استعظم المرء الكبائر فتاب عنها، واستحقر الصغائر فلم يتب عنها؛ قال تعالى: "وَتَحْسبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ" [النور، 15]. وقال عز وجل: "وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ" [الزمر، 47]؛ لذلك شمّر القوم للتوبة عن كل صغيرة فضلا عن الكبيرة. ومن أخطر الذنوب عندهم كذلك ما بطن منها، مِن شهواتٍ خفية: كالكبر[6]، والعُجب[7]، والرياء[8]، والحسد[9]، وغير ذلك... وهي آثام مهلكة قد يَتلبَّس بها حتى العابد المُطيع، و"لَرُبّ معصية أورثت ذُلاًّ وافتقارا خيرٌ من طاعة أورثت عِزّاً واستكباراً"[10]؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، وليس العُجب والرياء والاستكبار، قال تعالى: "سَأَصْرِفُ عَنْ ايَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" [الاَعراف، 146]، لذلك كان لزاما أن يسعى المريد إلى التوبة مِن كل الآثام والأدران والأغلال التي تُصيب القلب، والتي تُميت الإيمان فتمنع أنواره وشراراته من أنْ تنقدح في القلوب؛ لأن ذنوب القلب، كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني، هي أمهات الذنوب وأصولها[11]. ولا يتم كمال التوبة عند الصوفية إلا بالانتهاء إلى التوبة عن كل ما سوى الله؛ فلمّا كان ما دون الحق حجاب عنه، وجب على المريد التائب قطع كل الحجب الظاهرة والباطنة في مسيره إلى الله عز وجل: "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى" [النجم، 41]. يُتبع.. -------------------------------------------------- 1. "مسلم بشرح النووي"، كتاب البر والصلة، دار الحديث، القاهرة، 2005م، 8/363. 2. "تاج العروس" لابن عطاء الله، دار جوامع الكلم، ص: 7. 3. صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، ح 2702. 4. أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، باقي مسند الأنصار، ح 22395. 5. "تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس"، لابن عطاء الله السكندري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2005، ص: 6. 6. قال تعالى: "إِنْ فِي صُدُورِهِم إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ" [غافر، 55]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". (صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، دار الحديث، القاهرة، 2005م، 1/366). 7. قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث مهلكات: شحُّ مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه". (الحلية لأبي نعيم، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة 3، 2007، 2/389. 8. قال صلى الله عليه وسلم: "أول من تُسعَّر بهم نار جهنم يوم القيامة المرائي بعلمه والمرائي بماله والمرائي بجهاده". (سنن الترمذي، دار الحديث، القاهرة، طبعة 2005م، 4/318-319). وسمَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم "الرياء" بالشرك الأصغر. (من حديث أحمد في "المسند"، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة 1، 2008، 9/591) 9. قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". (أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة 2، 2008، 5/266). 10. الحِكم العطائية، دار البصائر، ط1، 2004، ص: 96. 11. الغنية لطالب طريق الحق، تحقيق: عصام فارس المرستاني، دار الجيل لبنان، ط:1/1990م، 1/349.