المراد عندي بحفّاظ مقاصد الشريعة: كل ما يصونها، أو ييسّر نيلها، أو يساعد على بقائها... وممن أثار هذا المَلْحَظ المفيد الطاهر بن عاشور (ت 1394ه) في كتابه الموسوم "مقاصد الشريعة الإسلامية" حيث جعل الجبلّة الإنسانية، والوازع الديني، والوازع السلطاني، مسالك موصلة للتّمكين لإقامة مصالح الخلق في هذه الدار، ثم أقامها حراسا عليها. وقد سلك ابن عاشور في تقرير ذلك مسلك الإيجاز، وأنا أتبع ذلك بنوع من البيان، فأقول وبالله التوفيق: • الجبلة الإنسانية فإن الإنسان مجبول بفطرته على الإقرار بوجود خالقه، والتسليم بوحدانيته، والاعتراف بفضله وكرمه، وضرورة الخضوع لحاكميّته... وهذه أمهات مصالح الدين والدنيا عند التّحقيق. ولعظيم أهمية هذه المصالح رَكَزَهَا الخالق سبحانه في طبائع خلقه، فقال سبحانه وتعالى: "ولكن الله حبب إليكم الاِيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان" [الحجرات، 7]. وقال سبحانه في شأن الإنسان: "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ" [العاديات، 8]. وقال فيه أيضا: "وهديناه النجدين" [البلد، 10]. ويؤكد هذه المعاني ما رواه أبو أمامة الباهلي[1] رضي الله عنه قال: "إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مهٍ مهٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادْنُهْ، فَدَنَا منه قريبا، قال: اجلسْ، فجلس، قال: أتحبّه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"[2]. فقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم لإقناع هذا الشاب –فضلا عن أسلوب الدعاء- أسلوبا عقليا منطقيا، قوامه الاحتكام إلى إنسانية الإنسان، إنها فطرتة النقية وجبلّته الأصلية؛ • الوازع الديني: فإذا كان الإنسان بمجرد فطرته النقيّة يهتدي إلى أصول المصالح الضرورية؛ فإنه بمجرّدها يعجز عن درْك فروعها ودقيق أحوالها. ولأجل ذلك منّ الله تعالى على الإنسان فأمدّه بالشرائع ليتمّ له ذلك على أحسن حال، وليخرجه من حيرة التفكير وضلالة المسير، إلى ما مواطن الهدى وسواء السبيل. وتتجلى علاقة الوازع (الديني) بنظيره (الجبلّي) في أنّ قوة الشّهْوة قد تغلب نورَ الفطرة فتنكسها، أو لربما بالمرّة تطمسها، فلا يوقد سراجها من جديد إلا الوازع الديني، وذلك بذكرى الموت والآخرة، واستشعار أمانة التكليف ورسالة الاستخلاف وأن المرء مُراقبٌ فمُحاسبٌ، فمُجازى أو مُعاقب. الوازع الديني إذن حصانةٌ شرعيةٌ للنفس تمتنع بها عن الإقدام على الفواحش المنكرات، وتتهيأ بها لنهج طريق الطاعات وسائر الخيرات، والأولى هي المعبّر عنها بالمفاسد، والثانية هي المعبّر عنها بالمصالح؛ • الوازع السلطاني فإذا تمرّد الإنسان على فطرته وإنسانيّته، وأصرّ على عصيان خالقه ومخالفة دينه، كان أبعد الخلائق عن تحصيل أيّ صالح، وأقربهم إلى الاغتراف من كل فاسد، قال تعالى: "وَمَنْ اَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِئايَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا اَبَدًا" [الكهف، 57]. ومن أجل اتقاء شرّ الأمرين -قدر الإمكان- وجب إمساك الظالمين عن ظلمهم، وردع المعتدين لتعطيل اعتدائهم، ولا يكون ذلك إلا بقوة السلطان، وقد روي عن عثمان بن عفان موقوفا: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"[3]. ----------------------------------------------- 1. هو صُدَيّ بن عجلان بن وهب أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، غلبت عليه كنيته، صحابي جليل، كان مع علي في "صفين"، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة ومعاذ وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم، وروى عنه أبو سلام الأسود ومحمد بن زياد وخالد بن معدان وغيرهم، توفي في أرض حمص سنة 81ه، وهو آخر من مات من الصحابة في الشام، له في الصحيحين 250 حديثا. (انظر الإصابة 2/ 182، والاستيعاب 2/ 736، وطبقات ابن سعد 7/ 411). 2. أخرجه أحمد في مسنده، من حديث أبي أمامة الباهلي، رقم: 21708. 3. الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث للعامري: 1/60.