قال الله تباركت أسماؤه: "وإنك لعلى خلق عظيم" [سورة القلم، الآية: 4]. النبوة إشراق نوراني سماوي على الإنسانية ليقوِّم سيرها، ويرشد خطاها، ويجذبها نحو الكمال.. لقد كان الأنبياء هم البداية، ولابد لكل نبأ من مستقر، ولكل بداية من تكملة؛ ورسول الله عليه الصلاة والسلام هو مسك الختام، وبدر الكمال، ولبنة التمام. وإن الإحاطة بجوانب الكمال في شخصيته صلى الله عليه وسلم مما حاوله البشر في القديم والحديث، فعجزوا وتحيروا على نحو قول القائل: حار فكري لست أدري ما أقول... أي طهر ضمه قلب الرسول... أي نور قد تجلى للعقول... وقديما قال البوصيري رحمه الله: فإن فضل رسول الله ليس له حد فيُعرب عنه ناطق بفم فهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيبا بارئ النَسَمِ ومن أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن أهم قواعد رسالته ومقاصد نبوته، العمل على تكميل أخلاق النوع الإنساني، والترقي بالقيم الإنسانية إلى أسمى درجاتها ومقاماتها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه قالت: "كان خلقه القرآن"؛ وهي كلمة جامعة يؤول معناها إلى أنك إذا عرضت أي آية من آي القرآن الداعية إلى أمر بمعروف، أو عمل صالح، أو خلق حسن، وقارنتها بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجدت السلوك النبوي مطابقا لما تضمنه القرآن، ودعا إليه. فكتاب الله، هو دستور مكارم الأخلاق وجامعها، والنبي هو مُظْهِر الأخلاق القرآنية والمترجِمُ عنها، ولذلك أُمرنا بالاقتداء به قال سبحانه: "لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجواْ الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" [سورة الاَحزاب، الآية: 21]، روى الترمذي في كتابه الشمائل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدًا، قُلْتُ: صِفْ لِي مَنْطِقهُ، فَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُتَوَاصِلَ الأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرِ، لَيْسَتْ لَهُ رَاحَةٌ، لا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، طَوِيلَ السَّكْتِ، يَفْتَحُ الْكَلامَ وَيَخْتِمُهُ بِأَشْدَاقِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَصْلا لا فُضُولَ فِيهِ، وَلا تُقْصِيرَ، دَمِثٌ لَيْسَ بِالْجَافِي، وَلا بِالْمَهِينِ، يُعَظِّمُ النِّعْمَةَ وَإِنْ دَقَّتْ، وَلا يَذُمُّ مِنْهَا شَيْئًا، لا تُغْضِبُهُ الدُّنْيَا وَمَا كَانَ لَهَا، فَإِذَا تُعُوطِيَ الْحَقَّ لَمْ يَعْرِفُهْ أَحَدٌ وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ، إِذَا أَشَارَ أَشَارَ بِكَفِّهِ كُلِّهَا، وَإِذَا تَعَجَّبَ قَلَبَهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ اتَّصَلَ بِهَا، يَضْرِبُ بِرَاحَتِهِ الْيُمْنَى بَاطِنَ إِبْهَامِهِ الْيُسْرَى". وفي الشمائل أيضا عن علي بن أبي طالب وهو يصف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام في جلسائه: "كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عياب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يوئس منه راجيه، ولا يُخَيّبُ فيه أي لا يخيب الراجيَ فيه. قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، ومالا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يَذُمُّ أحداً ولا يعيبه، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يَفْرُغَ". ومن نافلة القول: إن كل ما أوتيت هذه الأمة من الخصائص والفضائل مستمد من خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كما قال البوصيري: بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركنا غير منهدمِ لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الخلق كنا أكرم الأمم وهذه الكرامة العظمى، والمزية الفضلى التي خُصّتْ بها هذه الأمة، تنبيه لها إلى ما ينبغي أن تكون عليه من الهمة في السمو بنفسها إلى مراقي الفضل، والعدل، والإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر حتى لا تكون مُخِلّة بما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم من فضيلة، ولذلكم قال عليه الصلاة والسلام: "إني فَرَطُكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم، فلا تُسوّدوا وجهي"، يعني إني أستحيي من ربي حين تعرض علي سيئات أعمال هذه أمتي، وقال في مرض موته: "ولسوف تجدون أثرة من بعدي، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"، وقال: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ"، وقال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". ومن ثم لا غرو أن اشتهر الإسلام بكونه آمراً بمكارم الأخلاق، ومؤثرا في أخلاق أتباعه تهذيبا وتحسينا وتوكيدا من أول يوم؛ ومن شواهد ذلك ما جاء في حديث هرقل قيصر الروم عندما سأل أبا سفيان عن محمد وما يأمر به أصحابه فقال: "يأمر بالصدق والعفاف والصّلة"، فقال هرقل إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. وسأل النجاشي من عنده من المسلمين ما يدعوهم إليه رسول الله، فقال جعفر بن أبي طالب: "أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم وقول الزور". فإذن، لا يكاد ينتظم أمر المجتمع كمال انتظامه، ولن ترى الأمة عقدها مأمونا من انفراطه، ما لم تكن مكارم الأخلاق غالبة على جمهورها، وسائدة في معظم مرافقها ومؤسساتها، إذ غاية القيم والأخلاق إبلاغ النفس الإنسانية إلى أرقى ما خلقت له؛ فأودع الله فيها العقل لأجل بلوغ ذلكم الارتقاء... وهذه الغاية العالية هي إبعاد تصرف الإنسان وسلوكه عن حالة الهمجية... أو نقلُ السلوك الإنساني من حالة الغريزة إلى حالة العقل، ولذلك لما ذم الله تعالى الذين لم يتخلقوا بخُلُق الإنسان قال عز من قائل: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" [سورة الأعراف، الآية: 179] وقال جل وعلا في آية أخرى: "أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" [سورة الفرقان، الآية: 44]؛ فكونهم كالأنعام ظاهر فيما يصدر عنهم من المساوئ، وكونهم "أضل سبيلا" يتجلى في كونهم يستطيعون ارتكاب مساوئ وفضائع لا يبلغ إليها الحيوان... وفي الختام، اذكروا أيها الإخوة أن الاتصاف بمكارم الأخلاق هو مكَوِّن عظمة هذه الأمة، وآية رسالتها، وانتشار سمعتها، وتحديق عيون الأمم إلى الاقتداء بها والانتماء إليها.. وإن معيار التحلي بمكارم الأخلاق ومصداقه هو تصرف المرء في أفعاله ومعاملته الناس. وإلى لقاء قريب والسلام.