نستأنف الكلام عن الوكالات التربوية ودورها الفعال في تربية الأبناء، وهذه المرة على أهم وكالة بعد "الأسرة" التي تحدثنا عن بعض أدوارها في الأعداد السابقة ألا وهي "المدرسة" تلك المؤسسة التي تضطلع بالتنشئة للأبناء في مختلف الأطوار والأعمار، وفي شتى الأبعاد: المعرفية والنفسية والاجتماعية والمهارية... ولكن حديثنا لن يكون اجترارا للمقولات المتداولة على صعيد القضايا والمفاهيم، ولن يكون حديثا سطحيا لا يسبر الأغوار. إنه حديث يتناول بالتحليل والنقد -عبر سلسلة من المقالات – الدور التربوي الطلائعي لمؤسسة المدرسة، ونجاحاتها وإخفاقاتها، وصفا وتحليلا ونقدا، خاصة فيما يتعلق بأسباب هذه النتائج المتباينة وغير المرضية في أغلب الأحيان. ولعل من أكبر عوامل الإخفاق للمدرسة، في عالمنا العربي خاصة، مسألة "التربية على القيم" التي يعد التساهل فيها وعدم العناية بها مظهرا من مظاهر العجز عن تجميع عوامل النجاح. وهذا ما يفسر الإخفاق في سلسلة الإصلاحات المتوالية منذ عقود، والتي لم تتمكن من تحقيق أهدافها وترجمتها على أرض الواقع، بسبب الفشل في بلورة رؤية وتصور واضحين لمسألة القيم؛ سواء على مستوى تنقيح المفهوم، أو التوافق على جرد للقيم الرئيسة، أو مناهج وآليات دمجها في المنظومات التعليمية تنظيما وتدريسا وتقويما؟ !!! لم الحديث عن "التربية على القيم"؟ كان أحد الدوافع إلى الكتابة في هذا الموضوع، التأمل الطويل في المخاضات العسيرة التي مرت بها الإصلاحات التربوية العشرية (على رأس كل عشر سنين على وجه التقريب ) المحلية، وما آلت إليه تلك الإصلاحات، ومحاولة البحث في أسباب تلك الإخفاقات، وفي المنتوج الضعيف والمشوه الذي لا يعكس الطموحات. بالإضافة إلى اعتبارات أخرى أهمها: 1. أن التربية على القيم – كما يرى العديد من الباحثين التربويين والسوسيولوجيين – تمثل أكبر تحد أمام كل تربوي وأب وأم، ومدى قدرة كل هؤلاء، على تربية الأبناء ليكونوا أفرادا صالحين في ذواتهم وأفكارهم ومشاعرهم، سعداء وأصحاء جسديا ونفسيا، في مأمن من الجريمة والمخدرات، والاضمحلال وفقدان الهوية. إنها مهمة صعبة تتحدى الجميع، وبخاصة في ظل ما يتعرض له الأبناء – في عصر الانفتاح – من رسائل متنوعة المصادر، وفي كل لحظة، تعمل على هدم القيم الإيجابية وترسخ القيم السلبية التي تقود الإنسان إلى الفشل والضياع. 2. لقد أصبحت المعركة اليوم – عالميا – معركة قيم؛ المنتصر فيها من يملك القدرة على الترويج لقيمه، وإقناع الناس بها ثم تعميمها. وبات جميع أهل العقل والرأي مدركين تمام الإدراك، وواعين تمام الوعي بأهمية القيم في بناء الشخصية وحمايتها من الذوبان. 3. من العبث وهدر الزمن والجهد تنشئة أبناء أي مجتمع على قيم مجتمعات أخرى تستند إلى رؤية فلسفية بعيدة عن الرؤية الفلسفية المحلية. ذلك لأن التربية بمناهجها ومحتوياتها، تستهدف سلوك الإنسان، وتوجيهه وفق فلسفة تربوية مستمدة من ثقافة المجتمع ومعتقده وتصوره لنوع الإنسان الذي يريده، وليس أي إنسان، وطبيعة القيم التي يحملها. 4. إن الأزمة، اليوم، أزمة قيم، كما يؤكد ذلك جل المتتبعين والباحثين، وليست أزمة تطوير المناهج واستبدال بيداغوجية بأخرى. إن المشكلة الحقيقية التي تعاني منها المدرسة العربية عامة، لا ترجع في جوهرها –فقط - إلى المحتويات الدراسية وطرق نقلها وأدوات تقويمها، وإنما ترجع- بالدرجة الأولى- إلى فراغ تلك المحتويات والبرامج الدراسية من القيم الواضحة والصريحة، وابتعاد طبيعة تلك القيم ومرجعياتها عن طبيعة قيمنا ومرجعيتها. كل هذه الدواعي وغيرها تدعو الجميع إلى تضافر الجهود، والبحث عن طرق الخلاص من الأزمة الحقيقية، والخروج من النفق المسدود الذي زجت فيه المدرسة بتجاهل المداخل الجديرة بإنجاح الإصلاحات التربوية، وإنقاذ الأجيال من الضياع والتبعية، ألا وهي ترسيخ القيم الدينية والوطنية والحضارية للأمة. لهذه الاعتبارات وغيرها كانت الكتابة في موضوع "القيم" في جريدة الميثاق التي تفتح نقاشا واعدا حول المدرسة المغربية لتشخيص مكامن الأزمة التربوية الحقيقية فيها، إسهاما مفيدا لبيان أهمية القيم للفرد والمجتمع، وبالتالي ضرورة استحضار البعد القيمي (قيم الهوية الحضارية للأمة) في التخطيط لأي إصلاح مستقبلي للمناهج التربوية للمدرسة الوطنية، لكسب الرهانات والآمال التي تعلق على هذه المدرسة. من عناوين الملف: • القيم: المفهوم والخصائص والمرجعيات؛ • أهمية القيم في المحافظة على الهوية؛ • مجالات القيم ومعايير تصنيفها؛ • القيم وسنة التدافع؛ • القيم بين الثابت والمتحول؛ • المناهج التربوية والقيم؛ • التلميذ – المدرس، أي علاقة؟ • التلميذ والامتحانات (في مجال القيم)؛ • المدرسة: الواقع والرهانات. وأختم الملف/المشروع بدعوة الباحثين والمهتمين إلى الإسهام في إثراء النقاش حول موضوع "التربية على القيم" وذلك بإرسال أبحاثهم التي تعكس وجهات نظرهم حول الموضوع إلى جريدة الميثاق للنشر، أو بمناقشة وتعليق على المقالات التي ستنشر تباعا حوله، ولهم من طاقم الجريدة جزيل الشكر، ومن الله الجزاء الأوفى. والله من وراء القصد وهو وحده الموفق والمسدد. (يتبع)