إن المتتبع لحالة الأزمة التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم يدرك أن من بين الأسباب المهمة والرئيسة في عدم تمكننا من الخروج من دائرة التخلف بشتى أنواعه رغم حرصنا على طلب العلم وشق سبل المعرفة عدم اكتسابنا الوعي ببعض آليات البحث العلمي التي تشكل البنية التحتية لكل عملية معرفة. لقد كنا، وما نزال، نفتقد "المنهج" الذي يمكننا أن ننظر من خلاله إلى كثير من الإشكاليات والقضايا التي ألمت بواقعنا وفكرنا. فالحرص المتسرع على الانفلات من براثن الجهل والأمية والتخلف أضل كثيرا من العقول وأعمى البصائر عن التريث قليلا والتفكير في انتهاج سبل واضحة توصلنا إلى بر الأمان، عوض طرق أبواب هذا أو ذاك استجداء وعطفا ليتكرم علينا ب"منهجه العلمي" وليمكننا من مفاتيح أسرار المعرفة؟ فوصلنا إلى أوخم العواقب في وقت قياسي جدا، فتأكد لنا عقم مناهجنا التربوية والتعليمية، وعدم صلاح دواليبنا الإدارية، وشلل اقتصادنا، وفشل نظامنا الصحي والاجتماعي، وضعف إستراتيجيتنا في كثير من الميادين.. فبدأ الكل ينادي بالإصلاح؟ بل الأدهى والأمر من هذا كله أن الغرب الذي أمدنا ب"مناهجه" بات يعيب علينا ما نحن فيه من أزمة خانقة، ويدعونا إلى إعادة ترتيب أمور بيتنا من الداخل؟ إن قضية المنهج هي مشكلة أمتنا الأولى، ويشير إلى هذا المعنى بعض الباحثين الذين يؤكدون أنه لن يتم إقلاعنا العلمي والحضاري إلا بعد الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم، وبمقدار تفقهنا في المنهج ورشدنا فيه، يكون مستوى انطلاقنا كما وكيفا. ولأمر ما ألزم الله عز وجل الإنسان ممثلا في المسلم بهذا الدعاء، سبع عشر مرة في اليوم: "اهدنا الصراط المستقيم"... وإن المجهود الذي نبذله من أجل تقويم المنهج ينبغي أن يكون أكبر من كل مجهود؛ إذ العلم كما هو معلوم ليس هو القناطير المقنطرة من المعلومات يتم تكديسها وخزنها في أدمغة بني آدم، وإنما هي صفة تقوم بالشخص نتيجة منهج معين في التعلم والتعليم، تجعله قادرا على علم ما لم يعلم. والعالم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات، ولكنه الذي يعرف كيف يوظف ما في رأسه وما في الخزائن والمكتبات من أجل إضافة بعض الإضافات. حقا إنه لابد من الاستيعاب أولا وهو جزء من المنهج، ولكن المهم هو ما بعد ذلك من تحليل وتعليل وتركيب[1] . لقد شهد التاريخ كيفية تعامل سلفنا من العلماء والمفكرين مع مجموعة من المسائل والقضايا انطلاقا من المنهج الإسلامي الشامل، فأخضعوها لروحه وهويته وجعلوها تسير في الاتجاه الصحيح الذي أهل الإنسان لكي يكون بحق خليفة في الأرض، وبذلك استطاع الفكر الإسلامي الأول إثبات وجوده وعطائه الحضاري، فانخرط بصفة مباشرة في الأسئلة التي أثارها الواقع العام بفعل الفتوحات واتساع رقعة الأمة ودخول شعوب ذات ثقافات مغايرة للثقافة الإسلامية. وكان هذا الانخراط قفزة نوعية لصراع العقل ضد الجمود والجهل، وصراع الإنسان المسلم ضد كل أشكال الاستلاب والتغريب والتبعية التي يمكن أن تحصل له بين لحظة وأخرى. لقد فهم علماؤنا وأدركوا أن طلب العلم وحده لا يكفي، بل تجب مع العلم التجربة والعمل. ولنتأمل بإمعان ما أشار إليه العلامة جابر بن حيان، رحمه الله، حين قال: (إياك أن تجرب أو تعمل حتى تعلم، فيكون في التجربة كمال العلم، أن كل صناعة لابد لها من سبوق العلم في طلبها للعمل، لأنه إنما إبراز ما في العلم من قوة الصانع إلى المادة المصنوعة لا غير... إن العلم سابق أول، والعمل متأخر مستأنف، وكل من لم يسبق إلى العلم لم يمكنه إتيان العمل)[2]. فهذا النص يؤكد أمرين متلازمين: سبق العلم لكل من التجربة والعمل، ثم اكتمال هذا العلم بواسطة التجربة والعمل، وهذا يعني أن اكتساب المعرفة ليس عملية اعتباطية أو عبثية، وإنما تخضع لمنهج دقيق يساعد الإنسان الذي يعتمده على الفهم الجيد للنسق الذي يجمع بين العناصر الثلاثة: العلم والتجربة والعمل. وإذا أردنا اختصار ما سبق ذكره قلنا: إن المنهج العلمي هو غياث الأمم في التياث الظلم، وعلى إمام الحرمين الغياثي ألف رحمة ونور. -------- 1. مصطلحات النقد العربي، د.الشاهد البوشيخي، ص 21 و22. 2. نقلا عن منهج البحث العلمي عند العرب، د.جلال محمد عبد الحميد موسى، ص126/127.