ولم يتسع مجال للحديث عن الأسرة والشباب في عصر من العصور قدر الساعة في العصر الحاضر، ومن البديهي أن يعتني الفكر المعاصر بالكلام عنهما بهذه الوثبة الاجتماعية الكبرى، بحيث تتعرف الأسرة على شبابها فيتبادلان العطف والمودة، مما يجعل المرء يسمع ويرى داخل المجتمع كل غريبة وعجيبة، لتشييد معالم الحرية والإخاء الإنساني والمساواة وتقديس كرامة الفرد، وإقامة ميزان العدل مما له همة يحقق العمل المشترك، وعزة نفس إنسانية، وشمم وبذل للحياة في سبيل النهوض الفوري بالحضارة الراقية لخدمة الجميع، والقضاء المبرم على حب الذات، ومزايا الشباب تتجلى كرائد لحركة تحرير ديني وسياسي وفكري؛ لأن أساس حركة الإصلاح الديني هي الاهتمام بقلع ما رسخ في عقول العوام والخواص من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على وجهها الحقيقي، مثل حملهم القضاء والقدر على معنى يوجب ألا يتحركوا للتخلص من ذل ولطلب مجد، ومثل فهمهم الخاطئ لبعض الأحاديث الشريفة الدالة على فساد آخر الزمن فهما فجا حملهم على عدم السعي وراء الإصلاح والنجاح. إن شباب الإصلاح يرى من أولويات واجباته بث العقائد الدينية الحقة بين أفراد الأمة وشرحها لهم على وجهها الصحيح، لكي تقودهم لما فيه خير الجميع في الدنيا والآخرة، فالشباب يدعو المستنيرين من أبناء وبنات الأمة إلى النظر في حالهم لتحقيق نهضة دينية تجديدية تلائم مقتضيات العصر الذي نحياه وتبين للناس أجمعين أن الإسلام إذا فهم على وجهه الصحيح، يستطيع أن ينمو نموا طبيعيا وأن يتقدم تقدما يجمع بين المصالح المتجددة للحياة العملية، وبين المطالب العالية للنفس البشرية. وللحق فالشباب هو ذلك الوقود الذي يعيش حياته سائحا جوابا يزور الآخرين في عقر دارهم يخطب في المحامل والمجامع، يخالط رجال العلم والدين والأدب والسياسة ورجال الأعمال، يكتسب من سياحاته الكثير واطلاعه الواسع معرفة عميقة بالرجال والشعوب، يفيد ويستفيد من حرية فكره ونبالة طبعه، وصدق نيته، يذيع فيهم في غير ما تحفظ ذخيرة معارفه ليفتحوا أعينهم وهم في ظلمة وقد أتاهم النور ليقتبسوا منه المعرفة والعلم والدين الصحيح من ينابيع صافية، فيسلك طريق الإصلاح وإنشاء رابطة من التضامن والتعاون الإنساني كمفتاح للقلوب والعقول، وفي قلب هذا التفاؤل نقيم جسرا متينا تمر عليه الأجيال ذهابا وإيابا، وعند الشباب على وجه الخصوص ليحول هذا التواصل إلى جوهر حضاري عميق الجذور تجد فيه الإنسانية الموئل الطبيعي للنهضة المرتجاة والدرب الواصل نحو الحداثة والمعاصرة، لتخليص الأجساد الكادحة، من غلواء الكراهية العاتية، والأسفار الشاقة في أتون الأحقاد المتوارثة في صحراء صدور تفوح من داخلها نار حارقة يلفها دخان أحقاب تنفثها ماكينة رعب وإزعاج للطرفين، وهو تصرف لا يتفق مع عصر الذرة وغزو الفضاء، إذ كان من الأجدر اللائق غزو القلوب الكاشحة بقيم الإسلام الخالدة لينطلق الجميع في أرض الله الواسعة وراء تبادل المنافع بما هو أسخى وأنفع وأجدى. فلنفسح المجال أمام وثبة الشباب لفتح أبواب الحياة الزاهية للناس أجمعين لأنها للجميع، والفصيلة انعكاس صحيح للحياة، وهي كالضوء يغمر الحياة والأفكار، لذلك فمن نظري المتواضع أن حقيقة الواقع الإنساني أن الفضيلة تبقى لأمة بذاتها غير نافعة إذا هي لا تطال الآخرين وتعرض أسرارها من خير وجمال لتقليم أظافر وأنياب وحش العداء الكاسر بين الشعوب، وإرغامه على أن البشرية لم تعد تستسيغ شريعة التصارم، وإن إزالة هذه السدود من النفوس رهن بحب هؤلاء بعضهم لبعض، وتبادلهم الثقة المؤسسة على الصدق والإخلاص لذلك أهيب بشبابنا أن يأخذ المبادرة وإلا بقينا هكذا ندور في حلقة مفرغة، فتطول مأساة الإنسانية ويفوتنا نحن العرب والمسلمين ركب التقدم. والشباب بالمناسبة يعتبر المحرك الأول لقطار الحياة المعطل بين ربوعنا وإن شئت فقل هو الشعلة الحارة برغبة عاتية يدع الظروف تسوقه إلى قلب إفريقيا والأمازون، وكالشلال الهادر ينساب ليختلط بالملايين الحاشدة في كل ربوع الدنيا، لإحداث المعجزة، معجزة الإيمان والثقة بالنفس التي لا تملك الدنيا أعظم منها، وما فائدة حياة سقيمة لناس منعزلين عن حياتهم اليومية متشائمين في سلوكهم اتجاه كل ما هو جديد ومفيد، وكان من الأجدر بهؤلاء وأمثالهم أن يكونوا أصدقاء للإنسانية يغفرون للإنسان ضعفه، وأن يمعنوا النظر في أسرار هذا الكون واستخلاص مكنوناته العميقة عزاء وسلوى لآلام الناس وجراح قلوبهم النازفة، وفك سلاسل الماضي الصدئة، لتكوين نظرة حضارية صحيحة، وإيقاظ الوعي الإنساني النابع من محراب التلاقي والتآخي، قبل أن تموت القلوب في وديان أشواك أوهام الجفاء، حيث ولى الكل للكل ظهره، فتاهوا عن دروب الخلود يتلظون في شقاء اللغوب والمادية الصادمة، محشورين في أسمال تتقاطر من تحتها دماء الندوب، وما ضاع من فرص في شعاب يباب علاه الغبار والسواد. يتبع في العدد المقبل…