إن كتاب الله عندما دعا الإنسان إلى النظر في نفسه، وفي الكون المحيط به لم يكن من المعقول أن يدعوه إلى النظر فيما هو خارج عن حدود طاقته؛ لأن ذلك يعد من باب التكليف بما لا يطاق، وإنما دعاه إلى النظر فيما يتأتى له النظر فيه بالوسائل التي يتوفر عليها مما هو داخل في نطاق استعداده وقدرته، وملائم لتكوينه وطبيعته، وبذلك فتح القرآن في وجه الإنسان -أي إنسان كان- باب "البحث العلمي" على مصراعيه دون تقييد ولا تحديد. أما إذا كان الأمر فوق طاقته، أولا يتوفر على وسائل معرفته؛ فإنه لا يدعوه إلى النظر فيه أصلا، أو يكشف له عن بعض ملامحه بطريق الوحي والخبر، لا بطريق الفكر والنظر. ومن شواهد الحالة الأولى قوله تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" [الاسراء، 85] وقوله تعالى: "فَقُلْ اِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ" [يونس، 21]، ومن شواهد الحالة الثانية: " قوله تعالى: "تِلْكَ مِنْ اَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا" [هود، 49]. وقوله تعالى: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا اِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ" [الجن، 26-27]. ثم إن الأمر بالنظر والحض عليه من قبل الله عز وجل يتضمن الإذن للناظر في مواصلة النظر إلى النهاية، سواء أخطأ أو أصاب، ما دام الأمر يتعلق بمحاولة تفسير وتسخير ظواهر الكون والوجود، دون إنكار للخالق ولا جحود، ونفس الأمر بالنظر يقتضي أن موضوع النظر غير محرم على الناس، ولا محجوب عنهم غير أن ما يريد الله أن يستأثر بعلمه لا يدعو الناس إلى النظر فيه، بل يوقفهم عند حدهم ويعرفهم بعجزهم وهو سبحانه وحده الذي انفرد بكونه عالم الغيب والشهادة قال تعالى: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ" [النمل، 67] وقال تعالى: "وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو" [الاَنعام،59]، وقال تعالى: "عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" [الرعد، 10]..