هذا هو الجزء الثالث والسبعون من هذه المقالات عن ابن القطان، وهو تتميم لما سبق من الكلام عن مشيخته. وتلك سلسلة أعرض فيها من وقفت له منهم على رواية جملة من دواوين العلم، أو ذُكر له شيء من التآليف فيه؛ ومن جملة أغراضي من ذلك: استعمالُه بعد الفراغ من جمعه في مناقشة كلام قيل عن ابن القطان، من كونه أخذ الحديث مطالعة. ولست ألتزم هنا بنسق معين في عرض هذه المشيخة، وإنما أجلب منهم من آنَسُ من نفسي أني استفرغت وسعا في جمع مادة ترجمته. علي بن موسى بن علي السالمي، أبو الحسن ابن النقرات الجياني ثم الفاسي (كان حيا سنة 593ه) [القسم الخامس] تَعَرَّضت في المقال السابق لِقضيتين اثنتين، من القضايا التي استوقفتني في مادة ترجمة ابن النَّقِرات عند الحافظ ابن حجر في لسان الميزان، وهو كتاب –كما هو معلوم- في ضعفاء الرجال، وسأخصص لِجُزْءٍ من القضية الثالثة بقيةَ هذا المقال، مُعيداً نقل ترجمة ابن النقرات عند الحافظ ابن حجر كاملةً، لأضعها أمام عين قارئ هذا القسم، حتى يُستعان بذلك على مواكبة الكلام. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "علي بن موسى بن النَّقِرات. قال ابن رشيد: كان عدلا، فاضلا، إلا أنه لم يكن بالضابط، ولا من أهل العلم بالحديث، فإنه حدث بالموطأ بسماعه من يوسف بن محمد بن فُتُوح، عن الحافظ أبي القاسم خلف بن محمد بن الإمام، عن سعيد بن نصر، عن قاسم بن أصبغ، عن محمد بن وضاح، عن يحيى بن يحيى. قال ابن رشيد: ولا نشك في سقوط رجل من الإسناد بين الحافظ أبي القاسم، وبين سعيد بن نصر، والوَهَم فيه من ابن النَّقِرات، وقد واصلت البحث عن ذلك فوجدتُ بخط عثمان بن محمد العَبْدَري أنه قرأ الموطأ على قاسم بن محمد القضاعي ابن الطويل، عن يوسف بن فتوح، عن خلف بن الإمام، حدثني أبو سعيد الغضائري عن سعيد بن نصر. قال: فهذا ابن الطويل قد ذكر الواسطة، لكنني إلى الآن لم أعرفه، لكن له غَنَاء في الإسناد عنه انتهى كلامه. وقد حدث أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المُرْسِي بالموطأ عن ابن النَّقِرات بهذا الإسناد وذكر أنه سمعه منه سنة 590 وفيه هذه العلة. وابن النَّقِرات هذا هو الشاعر الذي نظم شذور الذهب في علم الكيمياء فيما يُقال"[1]. انتهى كلام ابن حجر بنصه؛ ومنه أَنْتَقِل إلى: القضية الثالثة: إن هذا الجرحَ –كما هو ظاهرٌ- جرحٌ مُفَسَّر، وملخصه أن الحكم على ابن النقرات بِكَوْنِه ليس بالضابط، ولا من أهل العلم بالحديث، سَبَبُه تَحْدِيثُه بالموطأ بسند سَقَط منه رجل، والوهم فيه من ابن النقرات لا من غيره. هذا مُحَصَّل ذلك. وفي هذا الكلام وقفات ثلاث: الأولى: في بيانِ حال السقط من السند، والثانية: في الجزم بكون الوهم من ابن النقرات، والثالثة: في كون هذا الوهم مُوجِبا للحكم على ابن النقرات بأنه ليس بالضابط ولا من أهل العلم بالحديث. فأما الوقفة الأولى: فإن ما ذكره الإمام الناقد ابن رشيد مِنَ السَّقْط من السَّنَد المذكور، لا شك فيه كما قال رحمه الله، وهذا السقط في هذا السندِ بَيْنَ خلف بن محمد بن الإمام، وسعيد بن نصر، يُعلم أمره بجلاء بتتبع تراجم رجال السند، بدءا من شيخ ابن النقرات: ابنِ فُتُوح، وانتهاء بسعيد بن نصر الذي سقط بينه وبين أبي القاسم خلف بن محمد بن الإمام رجلٌ. فأما شيخ ابن النقرات: فوقع اسمه عند ابن حجر فيما نقله عن ابن رشيد في أول موضعَيْ ذِكْرِه، هكذا: يوسف بن محمد بن فُتُوح، ووقفت عليه في كتب تراجم الأندلسيين، ومَنْ نَقل عنهم من الأثبات، هكذا: يوسف بن فُتُوح بن محمد، بتقديم: "فتوح" على "محمد"؛ وممن ذكر عمود نسبه على هذه الهيئة: ابنُ الزبير في صلة الصلة[2]، ابنُ الأبار في التكملة[3]، والمعجم[4]، والذهبي في تاريخ الإسلام[5]، والمستملح[6]. وأما حال المترجَم، فقال ابن الزبير: "من أهل المرية ومشاوريها، روى: عن أبي القاسم خلف بن الإمام الإشبيلي.. وكان ذا معرفة بالنبات والعشب، خرج عن المرية قبل دخول النصارى إياها، واستقر بمدينة فاس، وتحرف بجمع النبات والعشب وبيعها وأخفى نفسه، ولم يتظاهر بطلب ولا انتسب إلى علم، وكان ذا دين، وعلم، وصلاح، ومن أعيان بلده ومشاوريه –كما تقدم- ولم يزل يتحرف بما ذكر إلى أن عرف واشتهر وطُلب بالرواية، وكان قد وجد أصلا من الموطأ يباع بفاس فاشتراه حين بيع، فأخذه الناس عنه، وقصده طلبة العلم فلم يمتنع"[7]. ونقل الذهبي عن ابن فرتون أن ابن فتوح: "أخذ بقرطبة عن أبي علي الجياني، وأبي القاسم خلف بن الإمام الإشبيلي، وتحمَّل عنه الموطأ، وكان بصيرا بالنبات. وركب من المرية إلى بجاية، فغرقت كتبه بمرسى بجاية، فأتى فاس، وأخفى نفسه عن الرواية، ثم روى الموطأ"[8]. وقال ابن الأبار في المعجم: "رحل حاجاً فأدى الفريضة، وانصرف إلى المغرب، ونزل مدينة فاس، وحدَّث بها [وتوفي][9] سنة إحدى أو اثنتين وستين وخمسمائة. حُدِّثت عن أبي الحسن ابن النقرات عنه"[10]، وقال أيضا في التكملة: "كان له حظ من حفظ الفقه، وعلم التفسير، ومعرفة النبات كان يجليه ويبيعه، روى عنه أبو الحسن بن النقرات.. وتوفي سنة إحدى أو اثنتين وستين وخمسمائة"[11]. ولَيْسَ يَصِحُّ إلزاق الخطأ في هذا السند بابن فُتُوح، لتحديثه بغير أصله من الموطأ؛ لأن الخطأ إِنّمَا هو في السند إلى الموطأ، لا في شيءٍ من الموطأ نفسه: سَنَدا أو متنا؛ ولَوْ كَانَ، لَفَتَحَ بَابَ احتمال حصولِ الخطأ من ابن فتوح، ولصح الاتكاء في هذا الاحتمالِ، عَلَى ما رُوي عنه أنه اشترى نسخة من الموطأ بفاس بعد غرق أُصوله، فصار يحدث من تلك النسخة، لأن الغلط في مثل هذا متكرر الوقوع. وأما أبو القاسم خلف بن محمد بن الإمام شيخُ ابن فُتُوح، شَيْخِ ابن النقرات، فترجمتُه مختصرة جدا في: التكملة لابن الأبار، ونَصَّ فيها على تحديث ابن فتوح عنه بالموطأ[12]، ولم أقف على تاريخ وفاته. وأما سعيد بن نصر شيخ أبي القاسم ابن الإمام في هذا السند، والذي جزم ابن رشيد بسقوط رجل بينهما، فقد أحسن الذهبي في سير أعلام النبلاء تلخيص ترجمته، فقال: "الإمام المحدث، المتقن الورع، أبو عثمان، مولى الناصر لدين الله الأموي صاحب الأندلس. حدث عن: قاسم بن أصبغ، وأحمد بن مطرف، ومحمد بن معاوية ابن الأحمر، وعدة. وعني بالرواية والضبط، وروى الكثير. روى عنه: أبو عمر بن عبد البر، وأبو عمر بن الحذاء، وجماعة. وكان موصوفا بالعلم والعمل. مات في ذي الحجة سنة خمس وتسعين –يعني: وثلاثمائة- أيضا عن نيف وثمانين سنة"[13]. وقد بان مما سبق أن وفاةَ سعيد بن نصر كانت سنة 395، ووفاةَ ابن فتوح كانت سنة 561 أو 562، فبينهما 166 أو 167، وهذه السنون لا يمكن البتة أن يكون فيها بين رجلين في سند واسطةٌ واحدةٌ، وأقصى ما وُقف عليه بين الراوِيَيْنِ في الوفاة، مع وجود واسطة واحدة بينهما: مائَةٌ وخمسونَ سَنَة كما ذكر ذلك ابن حجر[14]، وعليه فلابد من واسطتين على الأقل في هذا السند الذي ذكره ابن رشيد إلى الموطأ، وإذا ثبت ذلك، فإن الواسطة الأولى بين ابن فتوح وسعيد بن نصر، هو: خلف بن محمد بن الإمام، لثبوت اللقاء بينه وبين ابن فتوح بِقَطِعٍ ويَقِينٍ؛ وأما الواسطة الثانية، وهي التي يجب أن تكون بين ابن الإمام وابن نصر، فساقطة من السند، وهذه علة واضحة لا خفاء بها، ولا إشكال فيها. وسأعود في المقال المقبل إن شاء الله إلى ثانية الوقفات في القضية الثالثة. يتبع إن شاء الله.. ———————————————————— 1. لسان الميزان، 6/33. 2. صلة الصلة، 5/279. 3. التكملة لكتاب الصلة، 4/188. 4. المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي، ص: 331. 5. تاريخ الإسلام، 12/269. 6. المستملح من كتاب التكملة، ص: 417. 7. صلة الصلة، 5/280. 8. تاريخ الإسلام، 12/269. 9. سقط ما بين معقوفتين من مطبوعة المعجم، ولابد منه ليستقيم السياق، ويدل عليه نص ابن الأبار نفسه في كتابه الآخر التكملة المنقول هنا عقب نص المعجم. 10. المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي، ص: 331. 11. التكملة لكتاب الصلة، 4/188-189. 12. التكملة لكتاب الصلة، 1/456. 13. سير أعلام النبلاء، 17/80، تنظر أيضا ترجمته في: جذوة المقتبس للحميدي، ص: 234-235، وتاريخ الإسلام، 8/750. 14. نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر، ص: 162-163.