إن الانتقال إلى مرحلة العولمة واستغلال مواثيق حقوق الإنسان في إلغاء الثقافات الأخرى، قد بدأ مع الدعوة إلى نظام عالمي جديد، بثقافة واحدة هي الثقافة المنتصرة في صدام الحضارات، وقد ساعدهم على ذلك انتشار أجهزة الاتصال الغربية الحديثة، وبالأخص الفضائيات والانترنت والتطور السريع للأجهزة الخلوية والحواسيب، فقد أدت إلى سهولة التعارف والتفاعل والتواصل الثقافي بين شعوب العالم، لدرجة كادت أن تزيل الحدود السياسية، فضلاً عن قدرتها على إزالة الحدود الثقافية والحضارية، وأصبحت الثقافات الاجتماعية منتهكة في داخل الأسر والعائلات والقرى والمدن الإسلامية، وبالأخص في أوساط الأطفال والشباب والمراهقين ذكوراً وإناثاً. واستغلت عولمة مواثيق حقوق الإنسان في انتهاك حقوق الإنسان، عن طريق تفسيرها بأنماط الثقافة المنتجة لها، وبحسب قيمها الأخلاقية والاجتماعية، لتصبح أخلاقاً لكل المجتمعات العالمية، وبالأخص المجتمعات الإسلامية، بالرغم مما تمثله خصوصيتها الاجتماعية من قوة ومتانة لصالح حقوق الإنسان وحقوق الأسر وحقوق المرأة، التي تأبى بنفسها أن تمارس سلوك المرأة الغربية، التي تاجرت بها العولمة الاقتصادية سلعة رخيصة بمعيار جسدها فقط. ولكن أخطر ما في العولمة من انتهاكات وكلها خطر، هو الانتهاك الثقافي الذي يسعى إلى إلغاء الآخر الثقافي والحضاري، بحجة رقي الثقافة العالمية إلى نهاية التاريخ الحضاري[1]، وتفوق قيم الحضارة الغربية على الحضارات الأخرى، ضمن الرؤى التي بشر بها العرافون الكذبة، بالتكهن بصدام الحضارات ونهاية التاريخ على الحضارة الغربية الرأسمالية وقيمها الفلسفية، التي سبق ذكرها في مقدمة الكتاب. إن التحذير من انتهاك الخصوصيات الثقافية بذريعة العولمة لا يهدف الانكفاء على الذات وعدم التفاعل الحضاري مع الآخر، وإنما على العكس من ذلك، ولكن المطلوب أن يتم ذلك على أسس صحيحة من الاحترام المتبادل وحرية التعبير وحرية الاعتقاد، وبالأخص في الحوار مع الغرب، الذي يخطب في هذه الأيام ود المسلمين، بعد أن أدخلهم دعاة الحرب على الإرهاب في محاربة الإسلام والمسلمين بغير حق، فقد أعلن الرئيس الأمريكي الجديد "بارك أوباما" أمام البرلمان التركي بتاريخ 6/4/2009م: "إن أمريكا ليست في حرب مع الإسلام"، وهذه بادرة طيبة من الرئيس الأمريكي أمام برلمان دولة إسلامية كبرى، لم تفلح العلمانية الغربية من زعزعة ثقة شعبها بهويته الثقافية طوال ثماني عقود أو يزيد، فهل تفلح العولمة المترهلة، والتي انتهكت قيمها وفي مقدمتها الديمقراطية في عقر دارها[2]. ———————————- 1. انظر: نزعة الارتياب بين الامم والعلاقات الدولية، حالة"الغرب ضد الإسلام"، فرد هاليداي "Freed Halliday"، مجلة العلوم الاجتماعية، العدد (3)، المجلد (28)، خريف 2000، ص: 121. 2. انظر: فخ العولمة، (الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية)، هانس بيتر مارتين وهارالد شومان، مصدر سابق، ص: 347.