يؤمن الغرب بالنظام الرأسمالي محركاً أساسياً للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن أبرز مبادئه حرية السوق، وفق توجهين رئيسيين، الأول أوروبي: يؤمن بضرورة قيام الدولة بدور المراقب لحركة النظام الاقتصادي الرأسمالي، ووضع ضوابط وقيود للعاملين فيه من البنوك والمؤسسات المالية وسوق الأسهم والبورصات والأوراق المالية والسندات وغيرها، والتوجه الثاني هو التوجه الأمريكي، يؤمن بحرية السوق المطلقة، دون تدخل الدولة في الاقتصاد، ولا وضع قيود عليه، ولا مراقبة مؤسساته المالية، وإنما بالعمل على ضخ الأموال لزيادة حركة التجارة، والعمل على زيادة الأسواق الطالبة للبضائع الأمريكية، وأن التنافس الحر هو الكفيل وحده بتحريك عجلة الاقتصاد نحو الأحسن. وبعد تحول العالم نحو النظام الدولي الجديد والقطب الواحد بانفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية إثر انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، بدأ انتشار المبدأ الرأسمالي في العالم أجمع أمر طبيعياً؛ لأنه النظام المنتصر على النظام الاشتراكي البائد، وفي تلك المرحلة ظهر مصطلح العولمة، وهو يفيد في مقصده الأول العولمة الاقتصادية[1]، أي تحول العالم من الأنظمة الاشتراكية إلى النظام الرأسمالي، وانتهاج القيم الغربية في التعامل مع التجارة العالمية، والالتزام بنصائح أو توصيات أو أوامر صندوق النقد الدولي IMF، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية WTO، في خصخصة (Privatization) الشركات والمصانع العامة، وبيع الخدمات التي تقدمها الدولة إلى الشركات الخاصة، وحث الدول على الدخول في منظمة التجارة العالمية الحرة، واستثمار الأموال في البنوك الغربية، والمشاركة في المشاريع المالية الغربية، وشراء الأسهم من البورصات العالمية الغربية، وإتباع سياسات اقتصادية مرتبطة بالنظام الرأسمالي الغربي، باعتماد الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية الأساسية في التجارة الدولية، وانتهاج سياسات زراعية بحسب توصيات المستشارين الغربيين، وغيرها، وكل ذلك بصورة إلزامية أو شبه إلزامية[2]. ولذا بدت العولمة المعاصرة أنها تعني حرية التجارة العالمية فقط، وفي نظر المنظرين الغربيين وأتباعهم المحليين في البلاد الإسلامية أصبحت التجارة الحرة والانفتاح هي الأمل الوحيد الكفيل بتحسين حياة البشر على الكرة الأرضية، وأن كل سعي تجاري ينبغي أن يتوجه إلى جلب المستثمر الأجنبي إلى الأسواق الإسلامية، والبحث عن الأسواق المفتوحة للتجارة العالمية الحرة، وإن لم توجد فلا بد من فتح المزيد من الأسواق، بهدف السعي لزيادة الطلب على المواد التي ينتجها الاقتصاد الغربي، وتنتجها المصانع الغربية الأمريكية والأوروبية، سواء أنتجت على الأراضي الغربية أو في البلاد الإسلامية، وقد استطاع الاقتصاد الغربي على هذا الأساس من الإمساك بمعظم الاقتصاد العالمي، وجذب أموال المسلمين إلى بنوكه وشركاته، واستحوذ على البنوك الدولية الكبرى، وسيطر على البورصات العالمية الكبرى، زيادة على كونها أقوى دول العالم عسكرياً. وأصبحت الدول غير الغربية وبالأخص دول العالم الإسلامي من أكثر الدول فقراً وتبعية للاقتصاد الغربي، وتعاني من المشاكل الاقتصادية المتزايدة، فضلاً عن معاناتها السابقة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وأكثر من ذلك فهي عاجزة عن وضح خطط اقتصادية منقذة لها من التأثر بالانهيارات المالية العالمية، إن لم تكن هي المستهدفة بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنها لا تملك الجرأة في مصارحة شعوبها عن حقيقة الأزمة الاقتصادية المعاصرة وانعكاساتها الحقيقية عليها، إضافة إلى أنها تخشى الحديث عنها علانية وبشفافية، لأنها تخشى آثارها السلبية اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.. يتبع في العدد المقبل.. ————————————- 1. انظر: تناقضات العولمة، حاتم حميد محسن، دار كيوان، دمشق، الطبعة الأولى، 2008، ص: 5. وكتاب: انعكاسات العولمة السياسية والثقافية، تحرير الدكتور إسحاق الفرحان، مركز دراسات الشرق الأوسط، عمان، الطبعة الأولى، 2001م، ص: 146. 2. انظر: تناقضات العولمة، حاتم حميد محسن، دار كيوان، دمشق، الطبعة الأولى، 2008، ص: 36، و48.