القياس تحدثنا في المقال السابق عن حجية القياس من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وفي هذا المقال سنخصصه للحديث عن حجية القياس من خلال الإجماع والمعقول، ويُعد الاحتجاج بالإجماع أقوى دليل يستند عليه الجمهور في إثبات القياس. قال ابن عبد البر: "وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصول عند عدمها ما يطول ذكره"[1]. وقال ابن العربي: "القياس أصل من أصول الشريعة ودليل من دلائل الملة، انقرض عصر الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم وهم الأعيان والجلة على صحة القول به، حتى حدثت الرافضة فأنكروه لأغراض رديئة لهم، ثم نبت نابغة شق عليهم بعد شقة النظر وعسرت عليهم مسافة الاجتهاد فقالوا الحكم لله ورسوله، لا فتوى إلا ما قال الله، فكانت فتنة للرعاع وكلمة حق أريد بها باطل"[2]. وقال الآمدي: "وأما الإجماع وهو أقوى الحجج في هذه المسألة فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم"[3]. وقال الجويني: "وأما متمسكنا فإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من أئمة التابعين إلى أن نبغت الأهواء واختلفت الآراء (..) فخلافكم مسبوق بالإجماع ولا مبالاة به"[4]. وقال البزدوي: "وعمل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الباب ومناظرتهم ومشاورتهم في هذا الباب أشهر من أن تخفى على عاقل مميز"[5]. قال الشارح: "قوله: "وعمل أصحاب النبي في هذا الباب إشارة إلى متمسك آخر عول عليه أكثر الأصوليين، وهو الإجماع؛ فإنه قد ثبت بالتواتر أن الصحابة رضي الله عنهم عملوا بالقياس، وشاع وذاع ذلك فيما بينهم من غير رد وإنكار، مثل ما اشتهر من مناظراتهم في مسألة الجد والإخوة، ومسألتي العول والمشتركة، وميراث ذوي الأرحام وغيرها، واحتجاجهم فيها بالقياس، ومثل مشاورتهم في أمر الخلافة؛ فإن كل واحد تكلم فيه برأيه إلى أن استقر الأمر على ما قاله عمر رضي الله عنه بطريق المقايسة والرأي حيث قال: ألا ترضون لأمر دنياكم بمن رضي به رسول الله لأمر دينكم. فاتفقوا على رأيه، وأمر الخلافة من أهم ما يترتب عليه أحكام الشرع وقد اتفقوا على جواز العمل فيه بطريق القياس"[6]. ومن أمثلة القياس الذي شاع عند الصحابة ولم ينكره أحد منهم، ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك"[7]. ومن ذلك قول علي كرم الله وجهه في حد شارب الخمر الذي لم يحدده الشارع: "إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفترين"[8]، فقد قاس حد حد الشارب على القاذف. وكذلك قول عبد الله ابن عباس لزيد رضي الله عنهم أثناء مناقشتهم لمسألة الجد: "ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا"[9]. فهذه النماذج وغيرها تدل دلالة قاطعة على أن الصحابة أعملوا القياس من غير نكير ولم يظهر فيهم مخالف، وهذا بحد ذاته إجماع منهم على قبوله والعمل به. كما استدل العلماء على حجية العمل القياس بالمعقول. فمن بين حججهم أن نصوص القرآن والسنة محدودة ومحصورة وقد أعطت الإطار العام الذي سيشتغل فيه المجتهدون، من أجل استنباط الأحكام والوقائع المستجدة التي تعن للمكلفين وهي غير متناهية ولا محدودة، ولا يمكن معرفة أحكامها إلا إذا فهمنا العلل التي لأجلها شرعت الأحكام المنصوصة، وقسناها على ما يطابقها، وقد أكد الإمام الجويني هذا بقوله: "لو لم يستعمل القياس لأفضى ذلك إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام، لقلة النصوص وكون الصور لا نهاية لها، وقد ثبت أن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع، فهي صالحة لكل زمان ومكان، فوجب الرجوع لذلك إلى الاجتهاد"[10]. إن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق المصالح ودفع المفاسد، وعليها فإن جل أحكام الشرع معقولة المعنى، فإذا كانت الوقائع الجديدة لها نفس علة الحكم نحكم بتساويها في الحكم تحقيقا للمصلحة التي هي مقصود الشارع من تشريع الأحكام، أو دفعا للمفسدة التي جاء الشارع لدفعها عن المكلف. واستدلوا كذلك بأن الفطرة السليمة والطباع القويمة ومنطق العقل السوي يقتضي العمل بالقياس، فمثلا منع أكل أموال الناس بالباطل، لأن فيه ظلم واعتداء على حقوق الغير المصونة بقوة الشرع، فإن المجتهد يقيس أي أمر فيه هذه العلة ولو لم ينص عليه الشارع، لأن القصد والمصلحة هو حماية أموال الناس وصونها من أي اعتداء وظلم. ومن خلال ما ذكر نرى أن الشريعة الإسلامية وبالاعتماد على القياس قد فتحت بابا كبيرا لضمان استمراريتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، والاستجابة لحاجيات الناس ومصالحهم الكثيرة والمستجدة إلى قيام الساعة.. يتبع في العدد المقبل.. ———————————————————— 1. جامع بيان العلم وفضله، 2/61. 2. المحصول، لابن العربي، 524-525. 3. الإحكام في أصول الأحكام، الآمدي، 4/43. 4. البرهان، 4/499. 5. كشف الأسرار، 3/609-511. 6. كشف الأسرار، 3/609-511. 7. جامع بيان العلم، ابن عبد البر، 2/66. 8. الموطأ، كتاب الأشربة، باب الحد في الخمر. 9. السنن للبيهقي، 6/246. 10. البرهان، 2/743.