تى لا نتعامل مع الموضوع بطوباوية لنتساءل لماذا تعاني كل الأمم من هذا الداء وما سبب صعوبة استئصاله وتجدده الدائم وهو كالورم الخبيث الذي يتولد من أصغر الخلايا. لا بدّ أن يكون فيه مصلحة ما على الأقل لبعض الأطراف التي تعمل على بقائه. فعلا هو أداة لتثبيت مصالح خاصة ترفض الانصياع لمبدأ المصلحة العامة. هو ايضا عامل «مسهل» في علاقة البشر ببعضهم البعض وخاصة في مواجهة دواليب إدارة تتسم بالبطء والتعقيد وتعرقل المجرى الطبيعي لشؤون الناس وهذه آلة يتعلم كل الناس تسريحها بزيت اسمه الفساد. ثمة اقتصاديون يعتبرونه عاملا ضروريا لدوران العجلة الاقتصادية وليس بالسوء الذي نصف لأنه يمكن من ربح الوقت وتوفير الجهد. قد يكون الأمر كذلك إذا بقي محصورا في دوائر ضيقة أو إذا اقتصر على بعض المعاملات الاجتماعية مثل تبادل الهدايا من أجل خدمات مشروعة وحتى على حافة الشرعية. المشكل أنك إن قبلت بالأمر فإنك تتصرف كطبيب يتساهل مع أصغر ورم والحال أن الفساد كالسرطان يبدأ صغيرا ومحددا ليتطور، إن لم يواجه بحزم وفي الإبان، إلى المرض الخطير بنتائج وخيمة من نوعين: هناك النزيف المادي وهو بالنسبة للمجتمع مثل نزيف الدم بالنسبة للجسم، عنه يتولد ضعف متفاقم: فكل الموارد المنهوبة إما تخرج من البلاد، وهي في العادة بلاد فقيرة تعاني من شح الموارد، فلا يزيدها الفساد إلا فقرا على فقر، وحتى إن بقيت داخله فريعها يذهب لتحسين مستوى أقلية تتزايد غنى على حساب أغلبية مقهورة عاجزة تنظر بعينيها وليس لها إلا الحقد والغضب. كل هذا يولّد عاجلا أو آجلا تفجّر بركان الثورة التي غالبا ما تفشل في استئصال داء لا ينتظر إلا نهاية العاصفة للعودة من جديد في ثوب آخر وبممثلين آخرين لنفس المأساة. الأخطر من النزيف المادي يظلّ النزيف المعنوي المتمثل في الحقد المتراكم لكن أيضا في ضرب أهم قيم المجتمع ألا وهي العمل. كم سمعنا من مقولات وشعارات تحت الدكتاتورية من نوع «إذا أردت أن تسدّ الرمق اعمل أما إذا أردت الإثراء فابحث عن حلّ آخر» أو «ادرس أو لا تدرس، لا مستقبل لك». عندما تستشري مثل هذه القناعات ويصبح شبه بديهي أن العمل ليس الطريق الوحيد للتألق اجتماعيا أو لتحسين الوضعية المادية وإنما هو أسوأ الحلول المتبقية لمن ليس لهم نصيب من الفساد، فقل على المجتمع السلام فهذا المنطق يعبّد الطريق الذي يقوده للهاوية بعد المرور من مراحل اسمها الفقر والظلم والتمرّد والفوضى. هذا ما يجعل من محاربة الآفة أولوية الأولويات بالنسبة لأي مجتمع يريد تحقيق الحد الأدنى داخله من السلم الاجتماعي. السؤال كيف ؟ هناك اليوم زخم من التجارب التي تمكّن من وضع استراتيجيا وطنية وترتكز على دعامات خمس. 1 - الارادة السياسية كلنا نعرف المقولة الشعبية «السمكة تخمج من رأسها»، وكلنا نعرف أنه إذا ضرب الفساد في أعلى هرم الدولة فإنه يستشري في باقي مفاصلها استشراء النار في الهشيم وذلك لجملة من الأسباب : أولها ما لخصته ببلاغة وإيجاز قاعدة «الناس على دين ملوكها»، والثانية أننا نبني مواقفنا وتصرفاتنا بالتربية وأهم عنصر فيها ليس التلقين النظري وإنما المثال الذي يعطيه المربي والذي نسير على نموذجه بوعي وبدون وعي وبإرادتنا أو بشيء أقوى من الارادة. ثمة أخيرا أن الفساد في أعلى مراكز القرار يُضعف وحتى يُلغي أي مصداقية للوعظ أو الخوف من العقاب. هكذا تنفجر الأطماع وتفسد سيرة إلا من رحم ربك والتبرير هو الذي سمعناه على امتداد عقدين: «لماذا حلال عليهم حرام عليّ ؟». دون إرادة سياسية حازمة لأعلى شخصيات الدولة وإلتزام أخلاقي لا يلين، لا سبيل لسياسة فعالة ذات مصداقية في محاربة الآفة. معنى هذا أن على الذين يمثلون هذه السياسة ويقودونها أن يكونوا فوق الظنون والشبهات وهو ما يتطلب منهم الكشف عن ممتلكاتهم وقبول التثبت منها من طرف آلية تدقيق مستقلة سيأتي الحديث عنها. لا يسعني هنا إلا أن أردّد ما قلته دوما أن «السيد ليس من يعطي الأوامر وإنما من يعطي المثل»، وبالتالي أنه لا أمل في محاربة فعالة للآفة دون مثل أعلى يأتي من أعلى مراكز القرار ودون قرار سياسي يحظى بأكبر قدر من الاجماع الوطني لتجنيد كل الطاقات لوقف النزيفين المادي والمعنوي. 2 - المجلس الأعلى المستقل لمحاربة الفساد الآلية المذكورة أعلاه جزء من مهامّ أهمّ مؤسسة يجب أن نبنيها للدفاع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وذلك في أقرب الآجال أي المجلس الأعلى لمقاومة الفساد، كهيكل قوي ومستقل ودائم له كل الامكانيات والصلاحيات لتتبع الفساد والمفسدين. تصوري لهذا الهيكل كالآتي : - مؤسسة مستقلة سياسيا لا تخضع لا لرئاسة الحكومة ولا لرئاسة الجمهورية ومستقلة مادية بقرار من البرلمان يخصص لها ميزانية كافية. - مؤسسة منتخبة بتوزيع متوازن لأعضائها بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة وممثلي المجتمع المدني وقضاة ومهنيون لهم دراية واسعة بالفساد مثل دائرة المحاسبات ويكون التداول فيها القاعدة. كما يجب أن تكون للمؤسسة إدارة وطنية وإدارات في الأقاليم السبعة للبلاد التي يجب أن نخلق : الجنوب، الشمال الغربي، الشمال الشرقي، الوسط، صفاقس وريفها، الساحل، تونس الكبرى، حتى يمكن تتبع الآفة في كل المستويات. - مؤسسة مهامها الأساسية مراقبة ممتلكات الأشخاص المتواجدين في أعلى مستويات الدولة ومراقبة كل الصفقات العمومية ومسالك التهريب والتوزيع وعمل المؤسسات الحساسة مثل إدارة الضرائب والجمارك وبصفة عامة كل مجال اقتصادي اجتماعي آخر عرضة للفساد مثل الإعلام والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني. - مؤسسة يمكن أن يتقدم لها المواطنون والجمعيات بالشكوى ويمكنها بعد التثبت من المخالفات إحالتها إلى سلطة قضائية مختصة في الفساد أو إلى البرلمان إذا كان الرئيس أو أي عضو من الحكومة هو المظنون فيه جدّيا. 3 - قوانين الشفافية والقضاء المتخصص لا يمكن لمثل هذه المؤسسة، التي ستكون مع المحكمة الدستورية لبنة أساسية في الحكم الرشيد، أن توجد إلا بقانون ولا يمكن أن تعمل إلا على ضوء جملة من القوانين التي يجب سنّها في نفس الوقت. مثلا لا بدّ من ترسانة قوانين تفرض الشفافية على كل الادارات والمؤسسات الخاصة والعامة التي لها تأثير على الحياة السياسية مثل رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، أو التي تلعب في توجيه الرأي العام مثل الصحافة بكل أنواعها. يجب أن تكون لنا قوانين حول تمويل الأحزاب والحملات الانتخابية والمناقصات العمومية وبصفة عامة كل القوانين التي يمكن للمجلس على ضوئها القيام بدوره والعدالة تأدية مهمتها. 4 - الخبرة التقنية عندما طُرح موضوع استرجاع الأموال المنهوبة اتّضحت الحقيقة المرّة أي الفقر المدقع في المهارات التقنية لتتبّع اللصوص وتحديد قيمة ووجهة ما سرقوه، وحتى معرفة المسالك السياسية والقانونية والبنكية الضرورية لذلك. خاصة في مقابل لصوص على قدر كبير من الحيطة والخبث كان همّهم من البداية إخفاء كل آثار لسرقاتهم بحيل داخل الحيل داخل الحيل، وكان في خدمتهم وما زال قراصنة من رجال المال والأعمال والقانون لإعانتهم على الأمر مقابل جزء لا بأس به من طعام الجوعى وحق الأرامل واليتامى. وحتى داخل حدود الوطن كم من خبث وحتى كم من عبقرية في سرقة المال العمومي، وفي المقابل كم من سذاجة ومن جهل لمن يريدون حفظه. ثمة إذن انخرام توازن بين خبرة السارق ولا خبرة الحارس، بين قدرة على السرقة وإخفائها من ناحية وعجز على توفير أبسط وسائل الحماية من ناحية أخرى. لهذا يجب ان يكون لنا مدرسة عليا لعلوم محاربة الفساد لا تقبل بين ظهرانيها إلا من لهم خبرة في القانون الدولي والاقتصاد والسياسة وأن يقع تكوينهم في أحدث تقنيات رصد كل أصناف الفساد وكل سبل مقاومته وأن تخرّج متخصصين يدفع لهم أحسن أجر في الدولة وأن يكونوا الأداة الطولى للمجلس الأعلى، حتى ولو كان من الحتمي أن يستغل واحد على المائة منهم علمه لخدمة العدو. ومن حسن الحظ أن «الخونة» يظلون الشذاذ الذين لا ينفون لا وجود الأبطال ولا ضرورة الجيش. 5 - المجتمع المدني لا يمكن أن تبقى قضية مكافحة الفساد محصورة في أجهزة دولة وإن كانت شرعية وديمقراطية مبنية على أحسن النوايا. يجب ان يكون للمجتمع، ممثّلا في مؤسساته الدينية والتربوية ومنظماته المختلفة، دورا فاعلا في الحرب. مثلا يجب إدانة الآفة بمناسبة كل فضيحة جديدة من أعلى المنابر، وتربية الجيل الصاعد على معرفتها بدقة عبر دروس مستفيضة في برامج التربية المدنية - من المستحسن في آخر سنوات التعليم الثانوي -، وان تُخصّص الصحافة باحثين ينقّبون في كل مجال عن التجاوزات، وأن توجد جمعيات مثل جمعيات الدفاع عن حقوق المستهلك تكون مهمتها العامة الدفاع عن المال العمومي وتتخصّص في كل المجالات التي يوجد فيها المرض، علما وأنني قلت أنه يجب ان يعطي القانون لهذه الجمعيات وحتى لأبسط المواطنين الحق في التوجه للمجلس الأعلى لمحاربة الفساد ليتأكّد من جدية القضية وإحالتها للقضاء المختص. ولأنه لا خلوّ لأي سياسة مهما كانت إيجابية من نواقص وسلبيات فإن علينا الاستعداد لمواجهة التبعات السلبية لسياستنا هذه وهي من نوعين: أولا يمكن لكل آليات محاربة الفساد أن تفسُد وهذا أمر لا مناص منه، لذلك يجب على كل الآليات أن تُراقب بعضها البعض. فالصحافة تراقب المجلس الأعلى والمجلس الأعلى يراقب الصحافة والبرلمان يراقب كل هذا وهو نفسه مراقب من المحكمة الدستورية العليا. بهذه الكيفية يمكن للنظام أن يعمل أطول وقت من الزمن قبل أن يتصدّع وينهار لأنه لا خلود لكائن أو لنظام وكل نفس ذائقة الموت. ثانيا يمكن أن يصبح الاتّهام بالفساد هو نفسه فسادا. هنا يجب أن نتذكّر الاية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا». للأسف الشديد لا رهط الفاسقين اختفى أو سيختفي، ولا الناس تتبّين دوما، ومن ثمّة ضرورة تسليط أشدّ العقاب على «الفاسقين» لحماية شرف الناس من التهم الباطلة. وبالتالي يجب أن تُصاحب كل الآليات والقوانين الرادعة للمفسدين قانون رادع للفاسقين بجعل الاتهام الكيدي يكلّف صاحبه غاليا سجنا وخطية. حتى هذا لن يمنع الأغبياء والخبثاء من جريمة التعدي على كرامة أناس يراد تدميرهم معنويا مثلما لم تمنع العقوبات جرائم السرقة، لكن تصوروا الحال لو لم توجد هذه القوانين. ***** أهم شيء في حربنا المتواصلة موقف يجب ألا يتغيّر وهو أنه يستحيل القضاء على الفساد كما يستحيل القضاء على المرض. هو عامل أزلي نتيجة طبيعة البشر التي يتجاور فيها حبّ العدل مع الاستعداد لممارسة الظلم. هو عامل أزلي نتيجة لطبيعة الدولة وهي أساسا جهاز بيروقراطي تريد كل الفئات الاجتماعية استغلاله لمصلحتها. الكل يتشدّق بالمصلحة العامة ولا همّ للمتشدقين إلا المصلحة الخاصة، وأذكى هؤلاء من يحاول تحقيقها بالوسائل المشروعة، وأغباهم أو أقلهم أخلاقا من يقبل بثمن الفساد لتحقيقها. وراء هذين العاملين المسهلين العامل الهيكلي وهو ندرة الموارد وإستحالة توزيعها بما يُرضي كل الأشخاص وكل الفئات. بديهي أنه لو كانت هناك ثروات طائلة تكفل لكل فرد حاجياته وأكثر لما وجد الفساد أو لما اتخذ الأشكال الفجة التي يتخذها في وضعنا. علما وأنه حتى لو تمتعنا كلنا بكل حاجياتنا فإنك سترى البعض يريدون أكثر لا لشيء إلا للتباهي والتمايز. ولأننا لن نتغلب أبدا على الندرة ولن نزرع في الخلايا جينات العدل والمساواة ولن نبني أبدا آلة بيروقراطية لا يصيبها العطب، فالحل هو أن تكون لنا آلة لقص الأعشاب المضرّة التي تنبت باستمرار وأن نتعهدها بالعناية وذلك أطول وقت ممكن. ***** عن جريدة الشعب التونسية / الدكتور محمد منصف المرزوقي