عبد الرزاق القاروني "يا مراكش يا وريدة بين النخيل"، أغنية جميلة للمطرب الراحل إسماعيل أحمد، أمتعتنا لفترة من الزمن، ولا زالت تمتعنا وتشنف آذاننا، وتساهم في إشعاع مدينة مراكش وتسويق منتوجها السياحي، لأنها أغنية أصيلة، نابعة من القلب وتندرج ضمن الريبيرتوار الغنائي المغربي الخالد. فكلما ذكرنا هذه المدينة الساحرة، نستحضر، أيضا، واحة النخيل المتواجدة بها، ويتبادر إلى أذهاننا تناغم اللونين الأحمر والأخضر، الأحمر لون المباني، والأخضر لون البساتين والحدائق الغناء... ففي البدء كان النخيل، إذ تفيد الأسطورة أن المرابطين عندما جاؤوا لتفقد المكان الذي ستبنى فيه مدينة مراكش، نصبوا الخيام وعقلوا جمالهم، ثم غرزوا رماحهم، هنا وهناك في الأرض. وخلال مقامهم بهذا المكان، كانوا يشربون الحليب ويأكلون التمر الذي أتوا به من الصحراء، ويرمون النوى الذي تدحرج بفعل الرياح والأمطار، ليستقر في الحفر المحدثة بواسطة الرماح. وهكذا نبت نخيل واحة مراكش! هذا ما تورده الأسطورة، والأسطورة كما نعلم فيها كثير من الخيال وقليل من الحقيقة. والحقيقة أن نخيل مراكش قد غرس في بداية قيام الدولة المرابطية، فعمره يقاس بعمر هذه المدينة. وبالتالي، يعتبر تراثا طبيعيا هاما يجب المحافظة عليه، وحمايته من العبث. وفي هذا السياق، وبتاريخ 19 مارس2007، وجه جلالة الملك محمد السادس رسالة مولوية سامية إلى المشاركين في "حفل إعطاء الانطلاقة لبرنامج حماية وتنمية واحة النخيل بمراكش"، أكد فيها على أن أهم سمات واحة النخيل تتجلى في "كونها تشكل تراثا ثقافيا من الطراز الأول، على غرار المباني والمآثر التاريخية الزاخرة التي تتميز بها مدينة مراكش"، مشيرا إلى "أن هذا الموقع ذا الدلالة الرمزية والبعد الأسطوري، الذي تستقي منه المدينة هويتها وطابعها المميز، يتعرض حاليا لمخاطر التلاشي بفعل تكالب الجفاف، وضغط الأنشطة البشرية، وغياب الرعاية والعناية، وإصابة أشجار النخيل بالشيخوخة، وضعف عمليات التشجير". وإذا قمنا بجولة متأنية ومتفحصة بين نخيل مراكش، سنصاب بالذهول، وربما ستكون صدمتنا قوية عندما نرى الحالة التي توجد عليها الواحة: نخيل مريض أو مهمل، ونخيل يموت واقفا وآخر متفحم أو مجتث قد عبثت به أيدي العابثين ومنعدمي الضمير على حين غفلة من المراقبين. ونظرا للتوسع العمراني، نلاحظ أن واحة النخيل تتقلص تدريجيا مثل رقعة الجلد، وذلك رغم وجود قوانين تؤكد على حماية النخيل. وفي هذا المجال، سبق لمحمد شعيبي، رئيس مرصد واحة النخيل بمراكش، أن دعا، في ندوة صحفية، إلى "إخراج قانون يمنع بوضوح البناء بالمحمية الطبيعية بواحة النخيل بمراكش، لتحصينها من المضاربات العقارية وحماية تنوعها البيولوجي والحفاظ على دورها الإيكولوجي". والمثير في هذه الواحة هو احتواؤها على مناظر غريبة وسريالية، حيث نجد النخلة ذات الرأسين، والنخيل المبتور الرأس، وذلك المتلوي كالثعبان... ولله في خلقه شؤون! وللشروق والغروب بين نخيل مراكش طابع خاص، يلهم الشعراء ويأسر الفنانين التشكيليين والفوتوغرافيين وأصحاب الحس المرهف. إن النخلة شجرة مقاومة وصلبة تنمو في المناطق الجافة وشبه الجافة. ولتنمو ويشتد عودها، تحتاج إلى عقود من الزمن، إن لم نقل إلى قرون. فهي من فصيلة الأشجار المعمرة التي ينطبق عليها المثل المشهور: "غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون". أكثر من ذلك، إن النخلة شجرة مباركة، إذ تعتبر في القرآن الكريم شجرة من أشجار الجنة، حيث قال تعالى في سورة الرحمن: " فيهما فاكهة ونخل ورمان" الآية 68. ويعد التمر في السنة النبوية المطهرة، من المواد التي يستحسن تناولها عند حلول الإفطار خلال شهر رمضان المبارك. فعن سلمان بن عامر (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور." ومن أعجاز النخل يستخرج الخشب الذي يستعمل في بعض البوادي، لتسقيف البيوت وإعداد دعاماتها، ومن سعفه تصنع عدة منتوجات تقليدية، نذكر من بينها: السجاد، القفاف، الحبال، الشواريات، المراوح، المكانس، المقاعد الدومية، الأطباق... وحتى وقت قريب، كان لموسم قطف التمور بواحة مراكش ميزة خاصة، حيث تشهد الواحة تهيئ عدة فضاءات لتجميع وفرز المحصول تسمى "دار أبلوح". إن هذا التقليد قد تلاشى بسبب قلة الحريصين على إحيائه واستمراريته. وتتوفر مدينة مراكش على سوق كبير لبيع مختلف أصناف التمور، تم ترحيله، خلال السنوات الأخيرة، إلى الحي الصناعي بطريق آسفي. وعديدة هي المرات التي كنت فيها بمراكش بحضور مشاهد أبطالها أطفال يتهافتون على نخلة هوت على الأرض بسبب رياح هوجاء أو أياد آثمة، وذلك من أجل استخراج الجمار أو "الجماخ" كما نسميه، ذلك اللب الأبيض اللذيذ الطعم. إن نخيل مراكش، نخيل معتل لا يعطي تمرا من النوع الجيد. وحسب المعتقدات الشعبية، يحكى أن الولي الصالح سيدي أحمد بن جعفر الملقب بأبي العباس السبتي، أحد سبعة رجال مراكش، هو من سلط اللعنة على هذا النخيل. فأصبح، بالتالي، ينتج تمرا فاسدا، وأقل ما يمكن أن يقال عن هذا الاعتقاد هو أنه مخالف للصواب وفيه كثير من التجني على العالم والصوفي سيدي أبي العباس، الذي كان يدعو إلى العدل والإحسان والتصدق على الفقراء ولو بنصف تمرة إذا أعوزت الإنسان ذات اليد. وخلال السنوات الأخيرة، نظم المجلس الجماعي بمراكش بتنسيق مع عدة متدخلين يوما تواصليا حول "مشروع حماية وتنمية واحة النخيل في مدينة مراكش". وقد جاء في كلمة المجلس، بالمناسبة، أن الجماعة الحضرية لهذه المدينة تعمل على غرس أشجار النخيل على نطاق واسع وإنتاج ما يفوق 000 220 شجيرة نخيل بالمشتل البلدي، وسيتم رفع هذا العدد إلى 000 800 شجيرة نخيل خلال السنوات القادمة لتحسين البيئة وتشبيب الواحة. لكن يبدو أن هذا الرهان لازال لم يتحقق، ولازالت الواحة تحتاج إلى من ينقذها وينهض بأوضاعها. وهي في حاجة أكثر إلى نخيل مكتمل النمو وليس إلى شجيرات صغيرة قد تنمو أو لا تنمو. وحتى لا يصبح نخيل مراكش مجرد ذكرى، ومن أجل تفادي الأخطار المحدقة به، أستحضر هنا نصا إبداعيا جميلا كتبه بالفرنسية الروائي المغربي الطاهر بن جلون عن نخيل مراكش. هذه ترجمة لمقتطف منه: "النخيل مريض، إنه يعاني ولكن لا يئن. أعرف أنه، ذات صباح، سيستيقظ المراكشيون ولن يجدوه أبدا. سيكون النخيل، إذن، قد اختفى". إنها بمثابة صرخة قوية، تخلخلنا من الأعماق لاستنهاض الهمم، وشحذ العزائم للحفاظ على ما تبقى من نخيل مراكش حتى لا يرحل أو يتبخر مثل خيط دخان.