شكل موقع ويكيليكس معلما في تاريخ الصحافة العالمية، وتفوق بمجهوده التطوعي على مواقع صحافية عتيدة ورقية وفضائية وإلكترونية تنفق عليها بلايين. فضائح البنتاجون لم تظهر كما في القرن الماضي على صحفية نيويورك تايمز وواشنطن بوست، ولا على بي بي سي، ولا على الإندبندنت، ولا على الجزيرة، ظهرت أولا على ويكيليكس التطوعي ثم استفادت المؤسسات الكبرى منها. من لا يفهمون ما الذي شهده العالم في آخر عقد لا يفهمون ويكيليكس. وهم مثل من يعتقدون حتى اليوم أن 11 سبتمبر مؤامرة داخلية أميركية، يستكثرون على شباب غربيين استفادوا من ثورة الإنترنت وسخروها لخدمة أهداف سامية، واستعدوا قبل ذلك لدفع الكلفة لا لقبض الثمن. ثورة الإنترنت تستخدم في جرائم تعجز الدول عن مواجهتها سواء كانت احتيالا مصرفيا أم إباحية غير قانونية أم "إرهابا". ويكيليكس خروج على النص لكن بدوافع أخلاقية. لا يستطيع البنتاجون ولا النيتو قصف الموقع الإلكتروني بقنابل غير تقليدية، كل ما في استطاعتهم هو محاكمة من يعتقد أنه مسرب المعلومات أي العسكري الأميركي مانينغ، البالغ من العمر 22 عاماً، والذي يواجه ثمانية اتهامات بانتهاك القواعد الجنائية الأميركية بنقل بيانات سرية، تُمكّن من الحصول على أكثر من 90 ألف وثيقة سرية، بالإضافة إلى حسابات بريد إلكتروني، ونشرها على الانترنت، دفع العسكري الذي له موقف أخلاقي ضد الحرب كلفة موقفه. رأس الأفعى ليس الجندي بل مؤسس موقع ويكيليكس، وهنا تكشَف أن الأجهزة الأمنية في العالم الأول لا تختلف عن نظيراتها في العالم الثالث. ولجأت إلى التصفية المعنوية بدلا من الجسدية. وعلى الرغم من الاستئناف الذي قدمه محاميه السويدي يوم الجمعة، أصدرت السويد مذكرة اعتقال دولية بحق جوليان اسانج مؤسس موقع ويكيليكس"المطلوب للاشتباه بقيامه بالاغتصاب والتحرش الجنسي". وقد تم تجميع كل المعلومات وإرسالها إلى جميع الأنظمة (ويقصد هنا السويدية، ودول شنجن، والهيئة العامة للاستعلامات، والبوليس الدولي "الانتربول") كما قال إن المدعي العام السويدي قد قرر إصدار مذكرة اعتقال بحق أسانج، "نحن واثقون أن البوليس الدولي يرغب برؤية هذه المعلومات". البوليس الدولي ومقره مدينة ليون شرق فرنسا، قال إن المعلومات قد وصلته وقد اصدر أمرا باعتقال وتسليم أسانج. يذكر أن المحكمة الجزائية في مقاطعة ستوكهولم كانت قد قررت إصدار مذكرة توقيف بحق جوليان أسانج (39 عاماً)، وهو استرالي الجنسية، وذلك لاستجوابه بشأن احتمال قيامه بالتحرش الجنسي والاغتصاب في السويد خلال شهر آب/أغسطس الماضي. لا يمكن تصديق رواية الادعاء السويدي، فمن يلعب بالنار مع الأميركيين لا يمكن أن يتورط في بلد مثل السويد بمحاولات تحرش أو اغتصاب. ما يمكن تصديقه أنه تم استخدام فتاة، وتتوافر لدى الأجهزة مئات وربما آلاف الموظفات والمستخدمات للقيام بهذه المهمة. وهي لا تحتاج مهارات معقدة، كل ما في الأمر أن تدعي، وهذه الفعلة تمارسها الساقطات في الشوارع لابتزاز زبون ثري ولا تحتاج للبنتاجون الذي يشكل أكبر موازنة بيرقراطية في تاريخ البشرية. قد ينجح الإنتربول في القبض عليه، وقد يمضي في السجن سنوات، والمجرمون الذين ارتكبوا الجرائم في العراق وأفغانستان أحرار يتنعمون بسرقاتهم، لكن سيظل ما قام به الموقع من قبل ومن بعد نموذجا للسمو الأخلاقي الصحافي، بقدر ما يظل ما فعله البنتاجون وما تبعه من أجهزة نموذجا في السقوط الأخلاقي؛ سواء في فضائح ويكيلكس أو محاولة فضح مؤسس الموقع.