يعتبر المؤرخون أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تملك عمقا تاريخيا وأن ذلك يجعل الكثيرين من مفكريها وساستها يشعرون بنوع من النقص، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع دول وأمم أخرى يعود تاريخها إلى عشرات القرون. في 3 أغسطس سنة 1492 أبحر كريستوفر كولومبوس لأول مرة في المحيط الأطلسي بثلاث سفن، تحمل العلم الإسباني وب 120 بحارا وذلك انطلاقا من بلدة بالوس، ووصل في العاشر من أكتوبر من نفس السنة إلى جزر الأنتيل في أمريكا الوسطى معتقدا أنه دخل بعض الجزر الآسيوية القريبة من الهند، لذلك سموها في البداية بجزر الهند الغربية، إلى أن سافر إليها فيما بعد البحار الفلورنسي أمريكو فسبوشي ليعلن لأوروبا أن كولمبوس إنما اكتشف «عالما جديدا « أطلق عليه من ثم اسم «أمريكا». بعد ذلك تتالت موجات الهجرة والتهجير بشكل رئيسي من أوروبا نحو هذه الأرض الجديدة. غير أن التاريخ الولاياتالمتحدة لا يبدأ عمليا إلا بعد انفصالها عن بريطانيا العظمى، في عام 1776، وتبنيها الدستور في عام 1789. ويمر بعد ذلك بفترات من التوسع ترابيا شرقا وجنوبا عبر حروب وغزوات وضم للأراضي خاصة من المكسيك وحروب خارجية منها تلك التي خاضتها ضد إسبانيا. ويعرف التاريخ الأمريكي فترة مفصلية أهمها الحرب الأهلية، التي استمرت من عام 1861 إلى 1865، ثم الحرب العالمية الأولى 1914 إلى 1918 والكساد العظيم، في الثلاثينيات، من القرن العشرين. وبعد خروجها منتصرة من الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ونهاية الحرب الباردة في عام 1991 بسقوط الاتحاد السوفيتي، بدأت الولاياتالمتحدةالأمريكية صياغة جديدة لإحياء امبراطوريتها على شاكلة سابقاتها الرومانية والبريطانية ولكن بتنظيمات أخرى تناسب العصر وتستفيد من التجارب السابقة. قصر عمر تاريخ الولاياتالمتحدة ولد دافعا نفسيا داخليا لإغنائه عن طريق تدوين وتأريخ أمور قد يعتبرها المؤرخون في مناطق أخرى من العالم هامشية. ومن هنا نشأت سجلات ضخمة تؤرخ لمسار الولاياتالمتحدةالأمريكية. وزاد من تضخم خزان التأريخ التطور الاستخباراتي الذي استفاد من التطور العلمي وخاصة في علوم الحواسب للإستفادة مما قد يعتبر تفاصيل تافهة لتكوين صورة دقيقة عن حدث ما عبر مزجه ودمجه مع معطيات أخرى. تطور الملفات السرية مع بداية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 والتي ظلت الولاياتالمتحدة خارجها رسميا حتي أغسطس 1941 كانت هناك حاجة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى لتأريخ دور الولاياتالمتحدة في أحد أكبر الصراعات خلال التاريخ المعاصر. ولكن ضروريات السياسية التي إتبعتها واشنطن ومنها التورط غير العلني إلى جانب بريطانيا في الحرب ضد ألمانيا منذ البداية حتمت صنع أنواع مختلفة من وسائل التأريخ أو التدوين لما يجرى. من هنا تجسد كيان الملفات السرية المتعددة المراتب والتي يمكن الكشف عن بعضها بعد سنوات محددة أو تلك التي يجب أن تبقى طي الكتمان لعقود بالنسبة لعموم المواطنين وتلك الأخرى التي لا يجب الكشف عنها إلا بعد قرن أو اكثر. نتيجة لكثافة مطالب الأكاديميين والاعلاميين وغيرهم للوصول إلى الملفات الأمريكية التي غدت أحد المراجع المهمة على الصعيد العالمي بحكم دور ووزن الولاياتالمتحدة على الصعيد الدولي، ولتجنب تسرب معلومات في غير وقتها مما قد يضر بأمن ومصالح الولاياتالمتحدة، وضعت قوانين تنظيمية ابتغي لها أن تعكس إرادة في الشفافية ومظهرا من ممارسات الديمقراطية، وفي نفس الوقت تسمح بإخفاء أو صياغة التاريخ بشكل يخدم الأهداف الاستراتيجية النهائية للقوى التي توجه إدارة البيت الأبيض والمركب العسكري الاقتصادي فيها. في سنة 1966 ومع بداية الفصول الأولى من الحرب الأمريكية ضد الفيتنام، صدر قانون حرية المعلومات. مع مرور السنين وإنفجار العديد من الفضائح حول الحرب في منطقة الهند الصينية والتي أنتهت بهزيمة الولاياتالمتحدة سنة 1975، أدخلت علي القانون تعديلات راعت الدروس التي جمعت من الإخفاقات، وكان آخرها يوم 21 يناير 2009، حين أصدر الرئيس أوباما توجيهاته لوزارة العدل الأمريكية بضرورة تعزيز سبل حصول المواطنين على المعلومات. وفي يوم 19 مارس 2009، أصدر وزير العدل إريك هولدر، الذي تشرف وزارته على تعامل الهيئات الفدرالية مع طلبات الحصول على المعلومات وإدارتها لها، مجموعة من النقاط الإرشادية لتطبيق توجيهات الرئيس. لقد أصبح قانون حرية المعلومات أداة شائعة يطلبها الصحفيون والباحثون ورجال الأعمال والمحامون وجماعات حماية المستهلكين والمحافظة على البيئة، وقد تفاخرت الإدارة الأمريكية به، غير أن القانون استثنى مجالات أساسية تتضمن: المعلومات السرية الخاصة بالدفاع القومي وموضوعات العلاقات الخارجية، وأسرار التجارة والمشروعات التجارية وبعض المعلومات الشخصية للأفراد. ولا ينطبق القانون على الفرعين الآخرين للحكومة: السلطة القضائية أي المحاكم الفدرالية، والسلطة التشريعية أي الكونغرس بمجلسيه، ولا على الولايات. فكل ولاية من الولايات لها قانونها الخاص بحرية المعلومات الذي يشمل المعلومات الخاصة بحكومة الولاية. هذه المقدمة ضرورية للدخول في الجدل العاصفى الذي ولدته فضيحة كشف موقع «ويكيليكس» عن أكثر من 500 الف وثيقة سرية أمريكية عن الحرب في كل من العراق وأفغانستان. توثيق جزء من جرائم حرب الوثائق التي تم نشرها وثقت بعض جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية وحلفائها في بلاد الرافدين وأفغانستان لأنها جاءت على لسان هؤلاء الذين اقترفوها حيث أن جزء كبيرا منها هي تقارير جنود أمريكيين كانوا في الميدان وقدموها لوحداتهم لتسترشد بها في المهام التالية. البعض قال أن الوثائق لا تأتي بجديد فجرائم الإدارة الأمريكية معروفة، آخرون قالوا أن تسريب الوثائق أمر مخطط له من طرف جماعات داخل الإدارة الأمريكية وصولا لتنفيذ مخططات معينة، وهناك تفسيرات أخرى. العالمون بما يحدث في العراق سواء من مواطني بلد تاريخه أكثر من 60 قرنا وغيرهم من الأجانب يتحدثون عن مليون ونصف قتيل عراقي منذ غزو هذا البلد سنة 2003 في حين لا تتحدث الوثائق التي نشرها موقع «ويكيليكس» سوى عن أقل من 200 الف قتيل، ولا تتحدث الوثائق المنشورة بتفصيل عن التعذيب وعمليات الإبادة التي مارستها القوات الأمريكية ومرتزقة شركات الأمن الخاصة سواء في معتقل أبو غريب أو مدينة الفلوجة وغيرها من مدن وقرى العراق. كما لا تكشف الوثائق عن الدور الإسرائيلي في حروب التصفية والاغتيالات داخل بلاد الرافدين، خاصة تلك التي نالت العلماء ومهندسي الصواريخ وطياري سلاح الجو وغيرهم ممن يصنفون بالصفوة، ولا تتطرق الوثائق إلى «العمليات الإرهابية» التي وقعت في العراق طيلة فترة طويلة تلت سقوط عاصمة الرشيد في ربيع عام 2003. ولكن الوثائق تكشف تلاقي طهران مع واشنطن في تدمير بلد عربي مسلم، وعمليات التهجير الطائفية ودعمها بصورة مباشرة بجميع أنواع الأسلحة والمعدات لعصابات الأحزاب الطائفية المرتبطة بها تحت ستار مواجهة ما يسمي ب «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين»، وإذا كان هذا الأمر معروفا فقد تم توثيقه لأن هذه الوثائق هي وثائق عسكرية امريكية رسمية. بالتالي، ليس هناك أي مجال للتشكيك في صحتها او في مصداقيتها، وفي مصداقية ما تتضمنه من معلومات عن جزء جرائم الحرب الامريكية الايرانية في العراق. كما وجه موقع «ويكيليكس» عبر وثائقه اتهاما مباشرا لنوري المالكي ب»التورط» في إدارة فرق القتل والتعذيب، وقيادة فرق عسكرية تنفذ أوامره وتقوم بعمليات اغتيال واعتقال». وكشفت الوثائق ضخامة عملية التجسس التي مورست من طرف الأجهزة الأمريكية في العراق قبل وبعد الغزو حيث أقر البتاغون عبر ممثله الصحافي جيف موريل أن لدى موقع «ويكيليكس» قوائم تتضمن أسماء 60 ألف عميل عراقي خدموا مع الجيش الأمريكي، وحتى الآن لم ينشر الموقع هذه الأسماء. وعلاوة على ذلك أكد موريل ان الوثائق تستند الى «الأنشطة الهامة» والتقارير الواردة من الوحدات العسكرية التي تنقل معلومات استخباراتية «خام» لكنها لا تلقي ضوءا جديدا على الحرب التي قد تم توثيقها جيدا. واضاف «انها عبارة عن لقطات من الأحداث سواء كانت مأساوية او بسيطة ولا تروي القصة بأكملها». في الوثائق ما يمكن أن يشبه برذاذ مياه عن تعامل قوات الاحتلال مع مليشيات طائفية وما تسميه بشخصيات دينية، حيث هناك أشخاص عراقيون أو يحملون الجنسية العراقية ولكنهم إيرانيو الأصل يتلقون رواتب ضخمة من الجيش الأمريكي تفوق كثيرا ال 25 الف دولار شهريا وذلك تحت تسمية مستشارين دينيين لمسؤولي الحكومة الأمريكية بمختلف فروعها بالعراق. أكثر من مليون ونصف مليون ضحية ذكرت الوثائق أن المواطنين المدنيين العراقيين الذين قتلوا بين الأعوام 2004 و2009 بلغ عددهم 109 ألفا وليس 77 ألفا كما أعلن في السابق، لكن الحقيقة هي أن الضحايا المدنيين العراقيين هم خمسة عشر ضعف هذا الرقم. فقد توصلت دراسة إحصائية قام بها اطباء امريكيون وعراقيون محايدون ونشرت في المجلة الطبية البريطانية لانسيت الى انه لغاية عام 2006 تعرض اكثر من ستمائة الف عراقي للموت نتيجة الحرب والفوضى التي سببها الاحتلال الامريكي للعراق، وتوصل بحث ميداني أجراه معهد الأبحاث البريطاني المستقل المعروف بإسم (أو. آر. بي) ونشر في خريف عام 2007، الى أن عدد القتلى العراقيين تجاوز المليون. والوقائع تشير الى أن العدد تجاوز المليون ونصف المليون في نهاية 2010. الحقيقة أن هناك أمور كثيرة لم تتحدث عنها هذه الوثائق، زيادةعلى أنها لا تتضمن الملفات الاكثر سرية وخطورة، ولكن ذلك لا ينقص من قيمتها فهي بإعتراف الجميع جزء من كم كبير جدا لا يمكن حاليا تقدير ضخامة حجمه، زيادة على أنها طرف في الصف الأول من ترتيب رباعي للمدونات السرية الأمريكية، وهذا الصف الأول ليس سوى القسم الظاهر من الجزء الطافي من جبل الجليد. وقد جاء نشر هذه الوثائق ليوقظ العالم مجددا الى حقائق لم تعد تحظى بالاهتمام والالتفات العام فيما يتعلق بجرائم الحرب والابادة التي ارتكبت في العراق. ريتشارد كلارك، المنسق السابق لشؤون الارهاب في البيت الأبيض، والذي غادر إدارة الرئيس بوش قبل بدء غزو بلاد الرافدين قال: نحن في العراق أمام جريمة اغتيال للوطن العراقي كله.. وأمام «صليبيين جدد». إن ما تم الكشف عنه يوثق: «الانتهاكات المخالفة لاتفاقيات جنيف والتي باتت روتينية ومن حقائق الحياة العسكرية الأمريكية لدرجة أن الجنود لم يشعروا بالحاجة إلى إخفائها». ردود فعل ردود فعل الإدارة الأمريكية على نشر الوثائق عكست إضطرابا كثيفا، يوم السبت 23 أكتوبر قالت وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون إنه ينبغي إدانة تسريب الوثائق ب»أوضح لهجة»، نظرا لأنه قد يعرض الجنود والعاملين الأمريكيين للخطر ويهدد الأمن القومي الأمريكي وأمن «أولئك الذين نعمل معهم». وزادت كلينتون أن نشر الوثائق غير اخلاقي». أما وزارة الدفاع الأمريكية فاستبعدت أي مفاجآت كبيرة من التسريب لما يصل إلى 500 ألف وثيقة وهي الأكبر في تاريخ أمريكا، لكنها حذرت من أن جنودا أمريكيين ومواطنين عراقيين قد يتعرضون للخطر جراء ذلك، مشددة على أن خطورتها تكمن في أسماء قد ترد في التقارير. وقال المتحدث بإسم البنتاغون العقيد ديف لابان للصحفيين أن فريقا من الوزارة راجع ملفات حرب العراق التي يعتقد أنها لدى «ويكيليكس» والتي تغطي فترة من 2004 حتى 2010، ووصفها بأنها تقارير ميدانية سطحية إلى حد كبير قد تكشف أسماء عراقيين يعملون مع الولاياتالمتحدة وتعطي للمسلحين العراقيين فكرة نافذة إزاء العمليات الأمريكية كما حدث مع ملفات حرب أفغانستان. وأضاف العقيد ديف لابان أن «البنتاغون» يظن أن موقع «ويكيليكس» لديه المزيد من الوثائق السرية التابعة للحكومة الأمريكية غير تلك التي سبق له وأن نشرها أو تحدث عنها، رافضاً الإفصاح عن مصدر هذه المعلومات أو عن الدول التي تتعلق بها هذه الوثائق. وذكرت وسائل إعلام أن لدى «ويكيليكس» عشرات آلاف البرقيات الدبلوماسية الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية التي تتحدث عن تعليمات وأوامر مشتركة مع «البنتاغون» بضرورة تصفية سريعة لأقطاب نظام حزب البعث وبكل الطرق لإضعاف المقاومة العراقية، وهو ما نفاه الموقع. من جانبه انتقد رئيس أركان الجيوش الأمريكية الأميرال مايكل مولن نشر الوثائق محذرا من أن النشر يعرض حياة العديد من الناس للخطر في العراق، كما يوفر لأعداء الولاياتالمتحدة معلومات قيمة. فيما أكد الناطق بإسم الجيش الأمريكي الكولونيل ديف لابان أنه لا ينوي فتح تحقيق في مضمون الوثائق. وزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس وبدون أدنى تردد اعتبر ان موقع «ويكيليكس» الذي نشر في 25 يوليو وثائق سرية حول حرب افغانستان، «مدان» أخلاقيا. وفي حديث لقناة «ايه بي سي» قال غيتس ان «الادانة مزدوجة»، مؤكدا «من جهة أنها إدانة أمام القضاء ومن جهة أخرى إدانة على الصعيد الاخلاقي». وأضاف «لقد نشروا ذلك دون أن يعبأوا بأية عواقب». وأكد غيتس الذي كان مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية «سي.اي.ايه» ان «حماية مصادرنا أمر مقدس» وان التسريات قد تنال من الثقة التي يضعها المخبرون في العملاء الامريكيين. واعتبر نشر تلك الوثائق التي ورد فيها اسم بعض المخبرين «غير مسؤول». منطق غريب، الكشف عن اسماء العملاء والجواسيس أخطر من قتل مئات الألاف من المدنيين العزل في بلد خاضع للاحتلال. ولتكملة مهزلة التستر على جرائم الحرب، قلل رئيس الحكومة البريطانية الأسبق توني بلير من أهمية نشر الوثائق، قائلا إنها «لم تكشف شيئاً جديدا». وأبلغ بلير صحيفتين برازيليتين أثناء زيارة له لساو باولو يوم الاربعاء 27 اكتوبر، أن المعلومات الواردة في الوثائق «معروفة سلفا» مضيفا بقوله إن زيادة 15 ألف قتيل لعدد الضحايا نجمت عن الأعمال الإرهابية في العراق. وفي البنتاغون ولتجنب مزيد من الفضائح تقرر إنشاء فريق عمل مكون من 120 عسكريا لاستطلاع قاعدة بيانات الحرب في العراق والتحضير للتداعيات المحتملة من نشر «ويكيليكس» المزيد من التقارير العسكرية السرية. وتتحدث مصادر رصد ألمانية وروسية عن حملة أمريكية تستهدف موقع «ويكيليكس» ومؤسسه جوليان أسانغ الذي يحمل الجنسية الاسترالية لتدمير مصداقيته ووقفه، وإذا كانت المصادر الألمانية تستبعد حاليا تصفية جوليان أسانغ جسديا فإنه لا تستبعده لاحقا. وقد أعلن أسانغ أنه اتخذ تدابير وقائية أمنية إضافية، وقال أسانغ الذي أصبح يرافقه حراس شخصيون «لا أخشى على حياتي، لكننا اضطررنا إلى اتخاذ تدابير وقائية أمنية إضافية». وفي تقييمه لرد الفعل الأمريكي، قال «أعلن المستشار العام السابق لوكالة الاستخبارات المركزية أن من رأيه أن تحاول الولاياتالمتحدة تقديمي وربما أيضا بعض الأشخاص الآخرين إلى المحاكمة أمام القضاء الأمريكي، وهذا يتوافق مع التصريحات السابقة الصادرة عن وزارة الدفاع الأمريكية». وضع متناقض كتب الصحفي شون تاندون لوكالة فرانس برس يوم 26 أكتوبر: يجد البنتاغون نفسه امام وضع متناقض بعد نشر موقع ويكيليكس وثائق سرية عن حرب العراق ويتساءل بعض المحللين لماذا ينتقد الجيش الامريكي الموقع في وقت يؤكد فيه ان الوثائق لم تكشف سوى القليل من الامور. وقال ستيفن افتروود الذي يدير مشروع ابحاث حول السرية الحكومية ان «البنتاغون وصف بعض هذه الوثائق ب»العادية». واذا كانت الوثائق عادية لا يتوجب تصنيفها على أنها متعلقة بالامن القومي». واضاف افتروود ان «الولاياتالمتحدة قد تتخذ سلسلة من التدابير للحد من تدفق نشر الوثائق غير المسموح بها. واحد هذه التدابير سيكون خفض مستويات تصنيف» المعطيات الرسمية «بصورة جذرية». وراى جيمس لويس الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن ان واقع ان تكون حرب العراق «دموية للغاية ليس بخبر فظيع». وشدد جيمس لويس الذي عمل في الماضي على مسائل الأمن الالكتروني للحكومة الأمريكية على «انها مسألة من الضروري التفكير فيها. في تلك الاونة كان يفترض تصنيف هذه الوثائق على أنها سرية للغاية ومن صنف مرتفع لاسباب استراتيجية. لكن بعد بضع سنوات ربما بات من المفترض التفكير في شطب» هذه العبارة ووضع تصنيفات مبتكرة. وتدفع قضية «ويكيليكس» البعض وخصوصا من خصوم الرئيس اوباما الى التساؤل «عما اذا كانت الولاياتالمتحدة تعرف كيف تحتفظ بسر» كما قال النائب الجمهوري بيتر هوكسترا عبر شبكة «فوكس نيوز» التلفزيونية. ولم يكشف ويكيليكس مصدر جزء من هذه التسريبات الكثيفة من الوثائق. لكن الشكوك تحوم حول برادلي مانينغ الاختصاصي في الاستخبارات داخل الجيش الامريكي الذي اوقف في مايو 2010 بعدما نشر «ويكيليكس» شريط فيديو يصور غارة جوية قامت بها مروحية امريكية في بغداد في العام 2007 وسقط فيها قتلى من المدنيين وصحفيين. وقد يواجه مانينغ المسجون حاليا قرب واشنطن عقوبة شديدة بالسجن اذا ثبتت ادانته. تحريض على التصفية ويريد اليمين الأمريكي الانتقام لما يعتبره خيانة عظمى. وفي مقال نشر في صحيفة «واشنطن بوست»، نعت الصحافي مارك تيسن العضو في معهد إنتربرايز الأمريكي المحافظ، موقع «ويكيليكس» ب»منظمة إجرامية» هدفها الحصول على معلومات سرية، وإن على حساب الأمن القومي، وتعميم نشرها قدر المستطاع. كذلك، ذكر تيسن أن من الضروري اعتقال أسانغ وإدانته بسبب جرائمه. أما إذا رفضت البلدان، حيث يمضي هذا الأسترالي أوقاته، ترحيله، فعلى مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية أن يأخذا على عاتقهما مهمة توقيفه، وفق تيسن. وقد طلبت الحكومة الأمريكية فعلا من الدول الحليفة التي أرسلت جنودا إلى أفغانستان أن تعد لائحة تهم بحق أسانغ. فلا يزال هذا الأسترالي يشعر بالأمان خارج الولاياتالمتحدة، وقد عومل كنجم في السويد، مع أن امرأتين سويديتين على الأقل اتهمتاه بالتحرش الجنسي والاغتصاب وهو ذكرت مصادر ألمانية أنها تهم ملفقة دفعت مصاريفها أحدى وكالات الأمن الأمريكية عبر طرف ثالث. وعلى رغم أنه ينفي كافة التهم الموجهة إليه، لكن التحقيقات في هذه القضية كان لها تأثير سلبي على حياته، إذ رفض مسؤولو الهجرة السويديون مؤخرا طلبه بالحصول على رخصة إقامة وعمل في السويد، ما حال دون تسجله كناشر «ويكيليكس» في هذا البلد، علما أن هدفه كان الاستفادة من قوة قوانين حماية البيانات السويدية. فضلا عن ذلك، أخذت مؤسسة «ويكيليكس» تعاني من مصاعب داخلية. فقد قطع عدد من العاملين فيها صلاتهم بالمؤسس وحسب مصادر ألمانية كان ذلك بسبب ابتزاز وتهديد أمريكي، غير أن أشخاصا آخرين أنضموا إلى أسانغ ومنهم خبراء من الصفوة العالمية في مجال كسر مفاتيح سرية المواقع. تصعيد الحملة ضد أسانغ جاء رغم استجابته لمطالب أمريكية، حيث أكد المتحدث بإسم «ويكيليكس» كريستن هرافنسن يوم الإثنين 25 أكتوبر، أن الموقع «ليس ضد الولاياتالمتحدة» وإنما يهدف إلى إيضاح «الحقيقة» حول الحرب. وقال هرافنسن «من قبيل الصدفة أن تكون الوثائق المهمة التي كشف عنها في الأسابيع الأخيرة متعلقة بالجيش الامريكي»، مذكرا بأن «الموقع نشر سابقا ملفات تخص دولا أخرى»، وذكر بأن «أسماء الأشخاص والأماكن الحساسة» تم محوها من الوثائق التي نشرت. حرب المعلومات في الولاياتالمتحدة تخوض الأجهزة الأمنية والعسكرية سباقا مع الزمن لكسب ما يصطلح على تسميته بحرب المعلومات التي هي جزء من الحرب العالمية الإلكترونية، خاصة بعد أن تبين أن الكثير من الملفات السرية تم الوصول اليها عبر الشبكة العنكبوتية ومنها بعض وثائق حرب العراق وأفغانستان. المشكلة أنه أما أن تتخلى أغلب الأجهزة الأساسية في الولاياتالمتحدة عن قدرة تبادل المعلومات وتعود إلى ممارسات منتصف القرن الماضي بالتعامل ورقيا بكل ما يعنيه ذلك من تقليص القدرات، أو إيجاد أنظمة تسبق إمكانيات الآخرين في الولوج إلى أنظمتها. يوم الثلاثاء 26 اكتوبر قال مسؤول أمريكي ان البنتاغون يدرس استخدام ضوابط جديدة لرصد أي سلوك غير سوي لمنع تسرب معلومات حساسة مماثلة لتلك التي سربها موقع «ويكيليكس» عن حرب العراق. وعلم أن وحدات الحرب الألكترونية في كل الأجهزة الإستخباراتية ال 16 وضعت في حالة استنفار قصوى بينما خصصت أموال إضافية لشركات المعلوميات المتعاملة مع الحكومة الأمريكية لتسريع إيجاد برامج حماية تتيح إبقاء شبكة الاتصالات السرية الأمريكية في متناول المصرح لهم بإستخدامها فقط ولكي تكون محصنة ضد الاختراقات. ويقول خبراء ألمان أن واشنطن تسعى لإمتلاك برامج تسبق الأخرين بعشرة إلى 15 سنة. وقد أقر نائب وزير الدفاع الامريكي ويليام لين ان تسرب قرابة 500 الف تقرير ميداني سري أمريكي يتعلق بالحرب تسبب في مأزق للجيش الامريكي طرح تشاؤلا حول ما هو السبيل الافضل لحماية المعلومات دون حرمان العسكريين من معلومات آنية عن ساحة القتال هي ضرورية لكسب المعارك. وأضاف لين للصحفيين خلال زيارة قصيرة للعراق «بدلا من حرمان الاشخاص من الوصول الى البيانات، هل يمكننا أن نفعل أشياء كتلك التى تفعلها شركات بطاقات الاتئمان والتي تكمن في البحث عن السلوك غير السوي». الحرب الألكترونية كشفت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور يوم 9 أكتوبر تحت عنوان «الحرب الألكترونية في بدايتها»، أن البنتاغون يعد العدة بخطى حثيثة لحرب إلكترونية عبر شبكات الكمبيوتر مع وجود تهديدات «مزعجة ومتعاظمة» تحدق بالبلاد. ويقول مسؤولون كبار في البنتاغون أن طبيعة الهجمات المعقدة هي التي دفعتهم إلى التحقق من جدوى التوسع بمفهوم الدفاع الجماعي لحلف الناتو، لكي يشمل الفضاء الافتراضي الإلكتروني. وأبدى نائب وزير الدفاع الامريكي ويليام لين انزعاجه لما تنطوي عليه الحرب الإلكترونية الافتراضية من تعقيدات يجعلها تختلف كثيرا عن «الصواريخ النووية التي يعرف لها عنوان» على سبيل المثال. في سنة 1995 أصدر الجيش الأمريكي كتاب اف ام 6-100 الذي يحمل عنوان «عمليات المعلومات» ووضعه قيد التدريس، وبين ما تضمنه تحسين أداء ما تقوم أجهزة أمنية متخصصة بتطوير مناهج تركز على إحكام القبضة على أمن المعلومات، وفي نفس الوقت تكليف لجان من المختصين (في علوم الحاسب الآلي والكهرباء والإلكترونات وهندسة النظم وفيزياء المواد الصلبة والهندسة وفك الرموز السرية) بدراسة أنظمة المعلومات والقيادة والسيطرة والاتصالات، بهدف التعرف على نقاط ضعفها وإمكانات استغلالها في حرب المعلومات للاستفادة منها في خطط مهاجمة الأنظمة المشابهة وكذلك العمل على تدعيمها وتحصينها ضد النشاطات المعادية، فبعد أن كان التفكير ينحصر في حماية تلك الأنظمة من العابثين ومجانين الكمبيوتر ومحترفي اختراق الشبكات، الذين يعرفون لدى الرأي العام ب «ثعابين شبكات الكمبيوتر»، أصبح الاهتمام الآن يزداد بتوفير الحماية للأنظمة من هجمات الدول الأخرى التي يجند لها مئات الخبراء والعباقرة، وتستخدم فيها جيوش من الومضات والإشارات الإلكترونية. وقد زاد التعمق في تكنولجية حرب المعلومات كتاب يحمل نفس العنوان من تأليف ميجر جنرال د.ك. يقول البعض أن للتاريخ أحكامه التي تتفاعل مع المستقبل وتخط توجها له. وثائق «ويكيليكس» كشفت جزء من أحد أكبر جرائم العصر، وفتحت نافذة لمعركة سترسم فيها قدرات الانسان في كل معسكرين متصارعين، قدرة طرف على الانتصار على الآخر. في يناير 2010 ذكرت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أن بعض المسؤولين العسكريين رفيعي المستوى يدفعون البنتاغون للمضي في الهجوم الإلكتروني عبر تطوير قدرات الإنترنت لشن هجوم على أنظمة الدول الأخرى الإلكترونية بدلا من التركيز على الدفاع عن الأمن الإلكتروني الأمريكي فقط. وحسب اقتراحات العسكريين الذين أثاروا جدلا واسعا سيكتسب العسكريون معرفة طريقة الاستيلاء على طائرات العدو من دون طيار وشل قدرة طائرات العدو الحربية أثناء القتال، وقطع الكهرباء في وقت محدد عن بعض المواقع الاستراتيجية. وأشارت الصحيفة إلى أن توسيع نطاق القدرات الهجومية عبر الإنترنت سيمثل تغيرا هاما للجيش ولا سيما أن المسؤولين الأمريكيين ترددوا لسنوات طويلة في عسكرة ما ينظر إليه على نطاق دولي بأنه وسيلة للتجارة والاتصالات، ولكن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية لعمليات الإنترنت التي رفع عنها السرية عام 2009، أثارت نقاشا في البنتاغون مجددا وأعطت الجيش الضوء الأخضر للدفع نحو توسيع القدرات الإلكترونية. ونقلت الصحيفة عن وزير القوات الجوية السابق مايكل وين قوله: «مع مرور الوقت سيكون عالم الإنترنت جزءا هاما من تكتيكات الحروب». هؤلاء الذين شيدوا أسس الحضارة البشرية قبل عشرات القرون قادرون وقد أصبحوا ضحية قوى غاشمة على أن يعيدوا كتابة التاريخ والعودة إلى القمة أليس ذلك هو منطق الحياة والتاريخ. خلط الأوراق تتقن القوى الاستعمارية قديما وحديثا لعبة التمويه وخلط الأوراق، فتزامنا مع الضجة التي أثارتها وثائق «ويكيليكس»، عمدت الأجهزة الأمريكية إلى أسلوب تفتيت المعلومات والتعامل معها أما بالتكذيب أو التشكيك، لتخفيف وقعها كما حركت أدواتها لصرف النظر عن الفضيحة بأحداث وقرارات مثيرة، زيادة على توجيه وسائل الإعلام التابعة على تجاهل الموضوع أو التشكيك فيه بطريقة متقنة. يقول دانيال ألسبرغ، الذي هرب قبل 40 عاما وثائق عسكرية خلال حرب فيتنام عرفت ب»وثائق البنتاغون» ويبلغ اليوم من العمر 79 عاما، إن ما يريد أن يراه يتحقق من هذه التسريبات، «ليس العقاب أو المحاكمة»، بل «وضع حد لهذه الانتهاكات». وأضاف: «ادعت إدارة أوباما أنها أوقفت التعذيب وأغلقت معتقل غوانتانامو، ولكنها ما زالت تسلم أشخاصا ليصار إلى تعذيبهم». وذكر أسانغ إن على العالم أن يفهم «أن البنتاغون كان وسيستمر في الكذب حول الكثير من القضايا. إذا كان صوتهم الرسمي غير دقيق، إذن سنرى في المستقبل محاولات كثيرة لشن حروب». ولكنه استدرك بأن ليس كل العاملين في البنتاغون يكذبون، وأن «هناك أشخاصا طيبين، وهم الذين سربوا لنا هذه المعلومات». الوطنية جزء من التكوين «الطبيعي» لمواطني هذه الأمة الكبيرة الممتدة من البوابة الشرقية حتى ضفاف المحيط الأطلسي، ليس بسبب الثقافة، بل لأن التاريخ رسخها عبر آلاف السنين، وهذا هو سر قدرتها على النهوض بعد كل نكسة وغزوة.