كلية الآداب .مكناس في ظل إصرار الحكومة المغربية على تمريغ قيمة ورمزية الشهادات الجامعية العليا في الوحل، وتحويلها إلى صكوك امتيازات توزع بلا حساب على محظييها، ومواصلة عنادها بتطبيق مقتضيات المرسوم رقم2.08.12 بتاريخ30أكتوبر2008، الذي ينطوي على خروقات ضارية،ومساس فظيع بالحقوق الدستورية وحقوق المواطنة،من خلال تشريعه لمبدأ التمييز بين الأساتذة الباحثين، وتشتيت وتمزيق وحدتهم بتفضيل بعضهم على بعض، وتمرير الامتيازات، والتبرع بالشهادات الجامعية العليا بشكل مجاني، وكأنها ريع أو ثمار أغراس، تغدو إعادة النظر في هوية الأستاذ الباحث ملحة وفارضة قوتها، إذ إن تنفيذ مقتضيات المرسوم المذكور، سيخلق مواصفات جديدة يمكن اختزال معالمها في إطارين، إطار الأستاذ الباحث الذي حصل على شهاداته الجامعية عن طريق العمل والكد والاجتهاد، ووفق ما تقتضيه الشروط العلمية والأكاديمية ومساطر الحصول على الشهادات الجامعية العليا وإجراءات تسليمها، وإطار أستاذ باحث منحت له هذه الشهادة من طرف الحكومة المغربية من باب صدقاتها الجارية.( والله لا يضيع أجر المحسنين). وستساهم هذه المواصفات في دحر ظلال الصورة النمطية التي ترسخت عن الأستاذ الباحث ومعاناته مع البحث وإعداد الرسائل والأطروحات الجامعية ، وهي ما حاول في الحقيقة مرسوم 19 فبراير 1997 أن يهيء له السياقات الممكنة، إذ صنف الأساتذة الباحثين في ثلاث إطارات هي أستاذ التعليم العالي وأستاذ مؤهل وأستاذ التعليم العالي مساعد، وكان الإيهام أن هذا التصنيف يستند إلى الدرجة العلمية المكتسبة عن طريق الشهادات الجامعية العليا، غير أن الحقيقة غير ذلك، إذ إن ولوج هذه الإطارات أصبح خاضعا للمباراة، وهذه هي الانعطافة الخطيرة في توجهات ودلالات المرسوم، حيث الشهادات الجامعية في ظله فاقدة لأية قيمة مادية أو معنوية على الأقل في صيغتها المجردة، ولا تخول صاحبها التوظيف أو الإدماج المباشر لأن اجتياز المباراة هو العنصر الفاعل وهو العامل المتحكم في عملية التوظيف وإليه يعود الحسم فيها، والشهادة الجامعية لا مفعول لها ولا قوة لها ولا يعول عليها تماما، ولا يتعدى دورها شرطا من شروط اجتياز المباراة، والنتيجة المنطقية المقابلة والمحتملة المتولدة من داخل هذا الوضع، هي إمكانية اجتياز المباراة دون شهادة جامعية، وهذا بالفعل ما كرسته مقتضيات المرسوم الجائر المشار إليه آنفا، وهو ما يعني بكل وضوح أن مرسوم 1997 أفقد الشهادات الجامعية العليا الوطنية كل قوة وحط من قيمتها العلمية والمعرفية والأكاديمية، ومنح المباراة بدلها السلطة الشاملة في تحديد أو ترتيب إطارات الأساتذة الباحثين وتوظيفهم، وبالضرورة فإن ما يتحكم في المباراة هو الحاجيات وتوفر المناصب المالية، أي أن المرسوم بشكل مباشر قدم الدعم الجبار لمبدأ التحكم في حقل التوظيفات بالتعليم العالي وإغلاق الأبواب أمام ديناميته. إن سيرورة الحط من القيمة العلمية والمعرفية والمهنية للشهادات الجامعية العليا الوطنية انطلقت عمليا منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، بعد دخول دكتوراه الجامعة "الفرنسية" سوق الشهادات العليا ببلادنا، ويبدو أن هذه الشهادة أربكت نظام الشهادات المعمول به آنذاك والذي كان فرنسي التبعية والتوجه، وعمدت وزارة التعليم العالي إلى تجاوز هذا الإرباك باقترافها لخطأ جسيم لم تحاسب عليه، تمثل في صيغة التوظيفات المؤقتة لحاملي تلك الشهادة، في خرق واضح للقوانين وإجراءات ومساطر معادلة الشهادات المتبعة في هذا الباب، وخرق لمقتضيات التوظيف في التعليم العالي والوظيفة العمومية، وقام الخطأ أساسا على اعتماد معيار المعادلة "المهنية" وليس العلمية،حيث عودلت الشهادة المذكورة مع دبلوم الدراسات العليا، ووظف حاملوها بصفة أساتذة مساعدين في التعليم العالي. وظل الأمر كذلك حتى صدور مرسوم 19 فبراير 1997 الذي حاول إنقاذ وزارة التعليم العالي من مأزقها وطمس معالم خطئها، عن طريق ما يمكن اعتباره تكفيرا عن جرمها لإنصاف الأساتذة الباحثين حاملي الشهادة المذكورة، ولكن ما أثبته المرسوم لم يكن في الواقع غير تكريس مضاعف ومراكمة لأخطاء الوزارة، إذ ارتكب خرقا جديدا لكل الأعراف والتقاليد الأكاديمية وبادر إلى منح معادلة جديدة لتلك الشهادة هي شهادة الدكتوراه كما رسم معالمها المرسوم ذاته، وحظيت بهذا الامتياز وحدها دون الشواهد الجامعية العليا الأخرى، وتمت المعادلة مجددا خارج أي إطار قانوني أو علمي أو مسطري، إضافة إلى ذلك تم تمتيع حامليها بست سنوات أقدمية اعتبارية،هدية من الحكومة المغربية الكريمة، إضافة إلى الترسيم في الإطار، وكانت هذه الامتيازات عمليا على حساب فئات أخرى من الأساتذة الباحثين قررت الحكومة أن تجعل شهاداتهم أسفل سافلين وأن تنزع عنها أية قيمة في مقابل الوافد الجديد، وتمت قهقرتهم إلى نقطة الصفر بالاعتداء على أقدميتهم المهنية الفعلية واغتصابها، وتجريدهم من حقوقهم الثابتة التي تشكل جزءا من عمرهم المهني. وهذه هي المحطة الثانية التي برهنت فيها الحكومة المغربية عن عدائها الوطني للشهادات الجامعية العليا الوطنية، و وازدرائها واحتقارها العلني لها، حيث ألقت بها في لجة المهملات من دون تحفظ، وأرغمتها على النزول إلى القاع لتفتح الهاوية أمام حامليها وتجبرهم على الهبوط إلى قعر الأسافل. في سنة 2008 عاودت الحكومة المغربية الكرة مجددا ، وأعلنت إمعانها من جديد في توطين و شرعنة موقفها العدائي العريق، من خلال المرسوم رقم 2.08.12 الذي تجاهلت فيه بل وتحدت من خلاله كل المقتضيات القانونية والإجرائية المرتبطة بالتعليم العالي ونظام الشهادات العليا، وشرعت وضعا جديدا للشهادة المذكورة، إذ منحتها للمرة الثالثة معادلة أخرى، هي شهادة "دكتوراه الدولة" المعروفة في نظام ماقبل 1997، وبموجبها أصبح حاملوها أساتذة(محاصرين) مؤهلين، وتم تحصينهم داخل مرسوم 1997 وفقا لهذه الخرجة السوداء، تجاهل مضاعف و صارخ لكل الإجراءات المفروض أن تتبع في هذا الباب. وهو ما يعني أن الحكومة المغربية بخصوص هذه الشهادة على الأقل، اقترفت ثلاثة أخطاء جسيمة،كل خطأ يتولد عنه خطأ أبعد منه انتهاكا للأعراف الجامعية والتقاليد الأكاديمية والعلمية وتجاوزها، وأوغل في تكريس مظاهر اللاعدالة والجور والاعتداء المدمر على حقوق الأساتذة الباحثين، وأن هذه الأخطاء الثلاثة مكنت الشهادة المذكورة من الحصول على ثلاث (معادلات) خلال عقدين من الزمن، وأن تحقق انتصارها وتفوقها وتجاوزها للشهادات العليا الوطنية، الأصل الذي كان مفروضا أن تكون تابعة له. إن جريرة الحكومة المغربية لا تقف عند تخوم هذه الاقترافات، وإنما تزيدها عمقا وعسفا إذ تستبد باختياراتها وتحدد مجال تطبيق خروقاتها وتجاوزاتها بشكل انتقائي وغير ديموقراطي، ومن موقع انحيازي مريب،إذ أن الأمر في الواقع يخص شهادة معينة مرتبطة بزمن وتاريخ محدد وربما بأشخاص معلومين، ولا يشمل الوضع، مثلا، دكتوراه الجامعة "الفرنسية" بعد 1997،فبعد هذا التاريخ تفقد هذه الشهادة مجموع القيم والامتيازات التي أسندت لها قبل 1997، وبذلك يتم إقصاؤها شأنها شأن الشهادات الجامعية العليا الوطنية الأخرى الساقطة التي اختارت لها الحكومة المغربية منزلة الحضيض. وينجم عن هذا الواقع وضع آخر أكثر ضراوة وأعتى ظلما وجورا، إذ أن مباراة توظيف أساتذة التعليم العالي سيتقدم لاجتيازها صنفان من الأساتذة المترشحين : أساتذة مؤهلون حاصلون على شهادة التأهيل الجامعي عن جدارة واستحقاق وفق الإجراءات الأكاديمية المتبعة ، وأساتذة مؤهلون بدون شهادة التأهيل الجامعي، وفرت عليهم الحكومة المغربية، رأفة بهم، أعباء إعداد هذه الشهادة، ووضعتهم فوق الجميع وفوق القوانين، فأي منطق اختيار أو انتقاء يمكن أن يحكم مباراة من هذا الطراز، تنعدم فيها المساواة بين الأطراف المتنافسة، وينعدم فيها أصلا مبدأ تكافؤ الفرص واحترام الحقوق الأساسية التي يضمنها الدستور وتجعل المواطنين سواسية أمام القانون.و بالضرورة يتولد عن هذا السياق تساؤل جوهري يفرض نفسه، وهو تساؤل ينبغي على كل أكاديمي وجامعي مومن بدوره التاريخي والعلمي الفاعل أن يطرحه، هو: هل للحكومة الحق في أن تتبرع أو تمنح الشواهد الجامعية العليا خارج الضوابط الأكاديمية والعلمية والمعرفية، وأن تعتبرها مجرد "سندات" قابلة للتداول في سوقها العكرة، وبجرة مرسوم لا يلوي إلا على انتهاكات شرسة للحقوق الأساسية للأساتذة الباحثين. على أن الوضع يضعنا، من زاوية أخرى، في بؤرة العلاقات الشائكة القائمة على التنافر والتوتر الذي لا قياس ولا ضفاف له بين الحكومة المغربية والشهادات العليا، على وجه العموم، حتى ليمكن الزعم إن الحكومة المغربية مصابة بعقدة الشهادات العليا، وما تطرحه تلك العلاقات من مشاكل اجتماعية مهنية وإدارية في كثير من القطاعات. الغريب المثير في هذا الشأن أن حكومة تسوق بين الفينة والأخرى رؤساء مجالس جماعية وما شابهها إلى المحاكم بتهمة انتحالهم صفات علمية ليست لهم، لأنهم أدلوا بشهادات علمية ومدرسية زائفة وغير حقيقية، ليضمنوا عن طريقها الوصول إلى المنصب أوالحفاظ عليه، وتتسلح بالشدة والصرامة والحزم الذي لا يلين لرفض إدماج الكثير من الأطر الوطنية الحاصلين على الشهادات الجامعية العليا في قطاع التربية والتكوين وقطاعات أخرى من الوظيفة العمومية، وتصر إصرارها على أن تجعل شهاداتهم التي حصلوا عليها عديمة الجدوى والمعنى وفاقدة لأية قيمة من الناحية العلمية والمهنية، وتطارد على مدار سنوات مجموعات الأطر حاملي الشهادات العليا الذين يطالبون بحقهم في الاعتراف بشهاداتهم ومؤهلاتهم العلمية، وتشبعهم غزارات سيل العصي صباح مساء، هي بالذات الحكومة التي تسقط في الخطيئة وتبادر خلافا لسلوكاتها العملية المعتادة، وخلافا لكل المقتضيات الجاري بها العمل بمنح شهادات جامعية عليا كإكراميات هجينة، دون أن تستشعر قطرة ألم أو تحس بوخز ضمير. وأخيرا لا يظنن ظان أو مغلط أننا ضد حقوق الأساتذة الباحثين، بل ضد انتهاك الحكومة المغربية لكل الأعراف والتقاليد الأكاديمية وكل المقتضيات التشريعية لتمتن عليهم بالشهادات الجامعية العليا، وهو فعل يحمل في طياته عناصر إهانة وإذلال وتحقير لهم ولدورهم التربوي والعلمي والأكاديمي.