بادر الكاتب العام الجديد لوزارة التعليم العالي، في محاولة لتدارك وإصلاح الخطأ الذي اقترفته مذكرة الكاتبة العامة السابقة للوزارة، بإصدار مذكرة جديدة تحت رقم 2.5672 بتاريخ 29 يونيو 2009 في موضوع ترقية الأساتذة الباحثين في الدرجة برسم سنة 2009، يرفع بموجبها حكم التعطيل أو إرجاء البت الذي قررته المذكرة رقم 2.3357 بتاريخ 17 أبريل 2009، ويبيح إمكانية البت في ملفات الترقي، غير أن هذه الإمكانية مرهونة بعامل الأخذ بعين الاعتبار الوضعيات الإدارية للأساتذة المعنيين بمقتضيات المرسوم رقم 2.08.12 بتاريخ 30 أكتوبر 2008، وهو ما قد يوهمنا أن عطار المذكرة الجديدة قد يصلح ما أفسدته مذكرة الكاتبة العامة السابقة، إلا أن الحقيقة غير ذلك تماما، إذ إن المذكرة الجديدة لاتجسد إلا وجها آخر للتمادي في الاعتداء على حقوق الأساتذة الباحثين وتبديد مكتسباتهم، وتكريس مزيد من التجاوزات المبتكرة التي «تشرعن» عقابهم واغتصاب حقهم المهني الثابت في الترقية. وقد حرصت صياغة المذكرة في إنحيازها الكبير أن تقدم وجها واحدا للمسألة، ومعنى أو اتجاها واحدا لمسطرة الترقي وإجراءاتها المعروفة، وأن تخط سيرة مشوشة مضطربة ومغلوطة لما هو عام وخاص وماهو أصل وفرع، بشكل تبدو معه المذكرة وكأنها صيغة لإيقاظ امتنان عابر أو هبة نائمة تتبرع بها الوزارة الوصية على الأساتذة الباحثين، وترهنها بخيط تأويلات وشبكة تعليمات موجهة لفاعليتها وإجراءاتها. وقراءة خاصة للمذكرة تفضح تواطئها وأفق تفسير غير بريء يفقد قدرة تماسكه مع كتلة قوة الاختلالات الجوهرية التي تتأسس عليها التعليمات التي تتضمنها. ويمكن أن نجمل هذه الاختلالات في هذه المستويات: 1 مستوى الزمن: يخص موضوع الترقية كما أشرنا فترة زمنية محددة هي سنة 2007، والوقوف عند هذا التحديد يثير ويحيل الى تجاوزات كبرى تعرضت لها ترقيات الأساتذة الباحثين منذ مطلع الألفية الثالثة، وهي تجاوزات مسكونة برغبة مضمرة أو بارزة في احتواء أثقال الترقيات وتقويض أسسها ومرجعياتها، وتحويلها بإفراط الى فكرة منسية أو حافز غير مثير في التاريخ المهني للأساتذة الباحثين. وقد نجحت الوزارة الوصية فعلا منذ سنوات في مخطط إخضاع الترقيات لإيقاعات زمنها الخاص، ومارست هواها في تحديد زمن الترقي وشروطه عبر المذكرات المتناسلة والمدبرة منذ سنة 2004 على الأقل، ومع أن الفقرة الثالثة من المادة 14 من المرسوم رقم 2.96.793 بتاريخ 19 فبراير 1997 في شأن النظام الأساسي للأساتذة الباحثين بالتعليم العالي تنص أن الترقية من درجة الى أخرى تتم كل سنة عن طريق جدول الترقي في الدرجة، وهو ما ينسجم مع مقتضيات القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية ببلادنا، إلا أن الوزارة الوصية تغض الطرف عن نص هذه المادة، وتتجاهلها تماما لتتولى تحريك إجراءات الترقي بعد كل سنتين أو كل ثلاث سنوات، وهو مظهر صارخ للاعتداء على حق الأساتذة الباحثين في الترقي كل سنة، وإخضاعهم لسلطة زمن ترقية آخر خارج النص القانوني، ولا سلطة للقانون عليه، وهو ما يضمر اتجاها مريبا نحو الخروج بالترقية من منطق التحديد الى منطق اللاتحديد الذي يفسح المجال أمام اغراق الحق في الترقي في لا زمنية تتحكم فيها السطة التي لها حق إعداد جداول الترقي وتستثمرها وفق حساباتها الخاصة، وهذا من شأنه أن يفتح الباب على مصراعيه لنشوء وتفشي قيم اساءة توظيف الترقي وجعله بمعنى ما فاقدا لأهميته وجدواه ومشروعيته كجزء بنيوي ومحوري من سيرورة التاريخ المهني للأستاذ الباحث. 2- مستوى الاختصاص: استراتيجية التحكم في زمن الترقي لها تداعياتها السلبية الخطيرة على أسلوب وشروط الترقي ومقوماته القانونية والاجرائية، خاصة وأن مهمة الترقي على صعيد المؤسسات الجامعية تتولاها اللجن العلمية التي يحدد حيثيات تأليفها وسير أشغالها وكذا تعيين وانتخاب أعضائها المرسوم رقم 2.01.2329 بتاريخ 04 يونيو 2002، ويتم انتداب أعضائها لمدة زمنية محددة هي ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة، وحصر مدة الانتداب هنا قد تكون له سلطته الخاصة في مبدأ التحكم وحماية شرعية ومشروعية الترقي ضمن هذا المدى الزمني واستكمال طبيعته القانونية، وتفرض هذه المرجعية أن أعضاء اللجنة العلمية منتدبون لمهام من المفترض أن تدخل في نطاق المدى الزمني الذي هو مجال سلطتهم في الترقي والمحدد بثلاث سنوات، وأن الأعضاء المنتدبين هم وحدهم يملكون الصلاحيات القانونية لمباشرة اجراءات ودراسة ملفات الترقية التي يتم اعداد قوائمها وجداولها كل سنة من السنوات الثلاث التي هي موضوع انتدابهم أو مجال نفوذهم، وقد لا يملك هذا الحق بطبيعة الحال أعضاء منتدبون لسنوات أخرى غير هذه. ولتوسيع نطاق الإدراك نعرض بعض الوقائع الملموسة في هذا الاتجاه، ففي بعض المؤسسات الجامعية مثلا تم انتخاب اللجنات العلمية سنة 2005 وهذه اللجن عمليا هي المؤهلة قانونيا لمعالجة ملفات الترقية المطروحة أو المقترحة ما بين سنة 2005 وسنة 2008 أي خلال مدة ثلاث سنوات، غير أن ما حدث هو أن هذه اللجن لم يتسن لها البت الا في ترقيات سنة 2006 فحسب وهذا ما تؤكده بوضوح مذكرة الكاتب العام، وقد انتهت مدة انتداب هذه اللجن مع نهاية 2008 دون أن تتمكن من القيام بمهامها كاملة، وهو ما ينجم عنه وضع آخر ذو طبيعة قانونية، يتعلق بما يمكن أن نسميه موضوع الاختصاص، إذ أن لجانا علمية أخرى تم انتخابها للسنوات الثلاثة 2009-2012 هي التي ستتولى البت في ترقيات 2007و2008 بعدها، مع أن السنتين لا تدخل ضمن مجالهما الانتدابي أو حيزهما الزمني، وبمعنى آخر فإن اختصاصهما يتعلق فقط بالسنوات التي انتدبوا فيها، ولا يمتد إلى سنوات أخرى وبأثر رجعي، وهو ما سيتولد عنه اختلال آخر يتجلى في أن أعضاء لجن علمية يتولون الحسم في ترقيات سنوات لم يكونوا فيها أعضاء في اللجن العلمية المنتخبة لهذه السنوات، ولا يحملون هذه الصفة أثناءها، فكيف إذن يتأتى أو يجوز لأعضاء انتخبوا في اللجن العلمية سنة 2009 أن يبتوا في ملفات ترقيات 2007 و2008 ولم يكونوا إطلاقا أعضاء في اللجن العلمية المنتدبة خلال السنتين. وينطبق الوضع ذاته كذلك على رؤساء الشعب الأعضاء كمنتخبين، بقوة القانون في اللجنة العلمية، إذ سيتولى البت في ترقيات 2007 و2008 رؤساء شعب لم تكن لهم هذه الصفة خلال السنتين. إن الأمر يتعلق في تقديرنا بخطأ جسيم لا ينسف فقط ما تم العمل بمقتضاه منذ سنوات بل يضع كل أشكال الترقي الخاضعة لهذا الوضع خارج أي سياق قانوني، ويسيء إلى دور اللجن العلمية في حد ذاتها ومبدأ احترام معايير قي النزاهة والموضوعية المفترض أن تستند إليها في أعمالها واقتراحاتها. 3- مستوى القيد الإضافي: من منطلق ارادة التحكم في سياق الترقية وآثارها تفرض المذكرة قيدا إضافيا مصطنعا، لا أساس قانوني له، هو الأخذ بعين الاعتبار الوضعيات الجديدة بالنسبة لفئة الأساتذة الباحثين المعنيين بمقتضيات المرسوم رقم 2.08.12 بتاريخ 30 أكتوبر 2008، وهو قيد لا مسوغ له تماما في هذا السياق، ولا يحيل فرضه أو رهن مصير البت في الترقيات بوجوده إلا محاولة لتجاوز أو التمويه على صيغة التجاوزات التي يتضمنها المرسوم المذكور. إن قيد الأخذ بعين الاعتبار هنا لا معنى له، لأن المرسوم المشار إليه من الوجهة العملية قد حسم الأمر بالنسبة لفئة الأساتذة المعنيين به، وما على الوزارة الوصية إلا أن تتولى تنفيذ مقتضياته دون مواربة أو التواء، فصيغته ودلالاته حاسمة في هذا الباب، فبمقتضاه يعفى الأساتذة المعنيون من شهادة التأهيل الجامعي، ويعاد إدماجهم في إطار الأساتذة المؤهلين ابتداء من فاتح سبتمبر 2004 دون شهادة التأهيل الجامعي، ويتم ترقيتهم وفق النسق العادي ابتداء من تاريخ إدماجهم، وكل هذا يتم طبقا للمادة 37 المكررة من المرسوم «خلافا للمقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل». فهل يعني الأخذ بعين الاعتبار وضعياتهم الآن محاولة للعودة إلى مبدأ الخضوع للمقتضيات الجاري بها العمل تجنبا لأي اصطدام مع قوة القوانين والإجراءات القائمة، أم أن الأمر يعني الدفع بهذه الفئة من الأساتذة الباحثين للاستفادة مجددا من الحصيص النسبي للترقية، لتكون الاستفادة مزدوجة ومضاعفة، مرة أولى من خارج المقتضيات الجاري بها العمل، ومرة ثانية من داخل المقتضيات الجاري العمل. إن القيد وبهذه الصيغة يحمل مجددا حيفا صارخا وعدم إنصاف قاتل لباقي فئات الأساتذة الباحثين الذين أرغموا على أن يظلوا خاضعين للمقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل، ومحاصرين داخل سياقاتها، ومرغمين لأن ينضبطوا لإجراءاتها وشروطها وآلياتها. ومبدأ اللاعدالة قائم هنا عبر هذه المفارقة المغربية المدهشة التي تستهدف الجمع بين أطراف أو فئات متقابلة غير متكافئة وغير متماثلة وتسعى بقوة إلى وضعها في سلة واحدة، مع أن الخصوصيات التي تحكم سيرورتها غير متجانسة وترفض مبدأ التأليف أو الجمع أو التوحيد العسفي بينها. إن معايير الترقي التي اعتمدت متباينة ومتعارضة إلى حد كبير ففئة الأساتذة الباحثين المعنيين بالمرسوم رقم 12.08.2 تمت ترقيتهم وفق إجراء استثنائي وغير قانوني قائم على مبدأ مخالفة المقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل، أما الفئات الأخرى من الأساتذة الباحثين فإنها تخضع لمعايير وأنساق ترقية صارمة لا مجال للمرونة أو التساهل فيها، ومن المتعذر عمليا الجمع بين النمطين من أشكال الترقي لأن المعايير ليست من جنس واحد، وإلا كيف يمكن أن نساوي بين شهادة جامعية عليا فعلية تم الحصول عليها عن طريق الكد والجد والجهد العلمي الممكن وتم نيلها عن جدارة واستحقاق، وشهادة أخرى لا تتوفر فيها أدنى الشروط المتعلقة بالشهادات الجامعية، شهادة لا يمكن إلا أن نقول عنها شهادة وهمية، وممنوحة بمقتضى مرسوم ضدا على المقتضيات التنظيمية والأكاديمية الجاري بها العمل، وهل من الموضوعي ومن المنطقي اعتمادهما معا على قدم المساواة كأساس للترقي؟ وفي انتظار أن يقول القضاء كلمته في مدى دستورية وقانونية المرسوم رقم 12.08.2 المشار إليه، على اللجان العلمية في كل المؤسسات الجامعية أن تتحمل مسؤولياتها العلمية والأكاديمية والتربوية والتاريخية في مواجهة هذا الوضع غير السليم وغير الطبيعي الذي خلقته تجاوزات الوزارة الوصية وتسعى الآن لتكريس مزيد من الامتيازات بناء على مقتضياته.