الطريق الوحيدة لكي تصبح ضابطا في البحرية الوطنية الفرنسية هي المرور على ظهر حاملة المروحيات الفرنسية «جان دارك». ستة أشهر كاملة يقضيها شبان، لا يتجاوز متوسط أعمارهم العشرين ربيعا، على متن هذه المقاتلة العملاقة، التي يبلغ طولها 182 مترا، وارتفاعها 24 مترا، والتي تصل سرعتها القصوى إلى 7500 مايل بحري في كل عقدة. وترسو هذه الأيام بميناء الدارالبيضاء. أخيرا اقتنع الفرنسيون بالقدرات المغربية الخطيرة في قرصنة كل شيء من أفلام «الديفيدي» وحتى حاملات المروحيات «جاندارك»، هذه الأخيرة التي رست منذ أيام قليلة بميناء الدارالبيضاء، وعلى متنها أكثر من 500 ضابط بحري، منهم 126 طالبا، ومروحيتان عسكريتان، وأسلحة مدمرة لم يعلن عنها الفرنسيون. وخوف أبناء ساركوزي من القراصنة المغاربة يأتي بعد أن وصل مؤخرا إلى علم الجيش الفرنسي أن المغرب هو ثاني بلد بعد الصين في ميدان «نقل» التيكنولوجيا، لذلك كان الفرنسيون حريصين، أثناء الزيارة التي نظموها على شرف بعض الصحفيين على ظهر المقاتلة «جان دارك»، على عدم إظهار أي شيء مما تحتويه هذه العملاقة من معدات داخلها من قبيل «توريل 100 ميليمتر» المضاد للهجومات البحرية، وقاذف الصواريخ «إكزوسيت»، ما عدا الساحة التي تنطلق منها المروحيات على متن السفينة العملاقة وبعض الغرف الحديدية داخلها، أما الباقي فقد احتفظ به الفرنسيون طي الكتمان. وفي الحقيقة فإن الفرنسييين لهم عذرهم في هذا الاختيار، لأنهم يعلمون جيدا أن «من يملك السلاح في هذا الوقت هو من يسيطر على العالم»، ومن غير المعقول أن يطلعوا المغاربة على السر الباتع ل«جان دارك»، التي يقودها قبطان اسمه «هيرفي بليجان»، والذي يصرح في وجه الصحفيين بكل ما أوتي من فخر عسكري قائلا: «جان دارك من بين أكثر حاملات المروحيات في العالم تطورا وجابت مختلف أنحاء المعمور»، ولفهم خطورة هذه الجملة يجب التذكير في هذا الصدد بأن القبطان هيرفي يعتبر أن «جاندرك» هي «زوجته الأخيرة» لأنه وحسب القانون البحري سيكون هذا القبطان الشجاع هو آخر أفراد الطاقم الذي سيغادر العزيزة «جاندارك» في حالة غرقها في يوم ما من أيام الحرب القادمة، «لا قدر الله». لكن هيرفي يضيف في ما يشبه «تواضع القبطان» قائلا: «لقد قمنا مساء أمس ببعض المناورات مع زملائنا المغاربة في أعالي البحار واطلعنا على خبرتهم في هذا الميدان»، وعندما يسأله الصحفيون عن طبيعة هذه المناورات التي قامت بها أعظم حاملات مروحيات فرنسية مع سفينة مجهولة مغربية، يجيب القبطان هيرفي بكلماته القوية: «لقد كان التمرين يرتكز على الوقوف جنبا إلى جنب مع السفينة المغربية على مسافة 80 مترا، ووضع جسور بين السفينتين من أجل تنقل العسكر»، ولمن لم يفهم طبيعة هذا التمرين فهو يشبه كثيرا الطريقة التي يغزو بها القراصنة القدامى في الأفلام الأمريكية السفن المسافرة عبر المحيطات، من أجل الاستيلاء على غنائمها ونسائها، ولم يفسر القبطان الفرنسي لماذا تم اختيار هذا التمرين بالضبط للقيام به مع الضباط المغاربة. السيدة جاندارك أثبت التاريخ دائما أن العسكر الفرنسيين لا يقومون بشيء مجانا، ويختارون كل أمور حيواتهم بدقة كبيرة، لكن كل شيء عندهم يختلط في النهاية بالثقافة والتاريخ، إلى درجة أنهم لم يجدوا اسما آخر يطلقونه على مقاتلتهم الحربية المغرورة غير اسم «جاندارك»، هذه الأخيرة التي يصفها أحد الضباط الممتازين على ظهر السفينة ب«أسطورة التاريخ الفرنسي»، والأمر صحيح نوعا ما فالسيدة «جان دارك»، تحولت مع مرور التاريخ الفرنسي «المجيد» إلى «قديسة حرب»، لازال لديها أتباع يعبدونها إلى اليوم، وهي تحمل اسما آخر أكثر ألوهية وهو «عذراء أورليون». «جان دارك» المقاومة والمناضلة من أجل الاستقلال الفرنسي تشبه كثيرا في أوصافها حاملات المروحيات التي ترسو هذه الأيام بميناء الدارالبيضاء، فقد كانت مقاتلة شرسة وشجاعة، إلى درجة أن الكاردينال الفرنسي الشهير «وينشستر»، وهو من أبرز الناقمين عليها، اتهمها بالسحر والهرطقة. إن سيرة هذه «القديسة» الفرنسية تدور حول أحداث حرب المائة عام بين بريطانيا وفرنسا، التي انتهت بخسارة الإنجليز لكل إقطاعاتهم في فرنسا، وهكذا نذرت حياتها للمهمة العسكرية لرفع الحصار الإنجليزي عن مدينة «أورليون» ومقاومة الإنجليز بكل الأسلحة الممكنة لتصير بعد ذلك البطلة الفرنسية التي ساهمت في تحرير بلادها من أبناء شيكسبير. والسيدة جاندرك اليوم تحولت بفعل فاعل اسمه الجيش الفرنسي «المثقف» إلى حاملة مروحيات صلبة وعملاقة، و«قديسة» عسكرية يهابها الجميع في العالم، وتنافس أعتى الأساطيل من جنسها عبر المعمور، من الصين وحتى الولاياتالمتحدةالأمريكية، إنها سيدة محترمة جدا بين أقرانها، وتراقبها العيون والأقمار الاصطناعية أينما حلت وارتحلت، خصوصا وأنها خلقت الحدث في تسونامي 2006 عندما ساهمت في إنقاذ مئات الأشخاص من موت محقق، كما كانت هي قائدة الحملة الفرنسية في السنوات القليلة الماضية من أجل إنقاذ باخرة الصومال الشهيرة التي خطفها القراصنة. هكذا كانت «جاندارك» دائما: قوية وشجاعة، عبرت وإلى اليوم كل موانئ العالم وخلال هذه السنة طافت موانئ نيويورك، «بور أوف سبين»، و«ريو»، ووصلت إلى «الكاب» الإفريقي، ثم «لواندا»، و«دجيبوتي» وإسطانبول وبرشلونة قبل أن تصل منذ يومين إلى ميناء الدارالبيضاء، حيث ترسو اليوم بكامل عظمتها وجبروتها العسكريين، ما دفع السلطات المغربية إلى تعبئة خيرة الضباط الممتازين بالأمن الوطني من أجل حراسة جلالتها من تطفل المغاربة، دون أن يتجرؤوا على ولوجها أو الاقتراب من حديدها الصلب، لأنها منطقة محررة نبتت بين يوم وليلة على المياه الإقليمية الوطنية، ويحتاج ولوجها كما العادة إلى تأشيرة فرنسية وكأنها منطقة «شينغين» جديدة بالمغرب، وهنا يؤكد أحد الضباط الذي يشتغل بأسطول جاندارك قائلا: «إنها مقدسة عندنا مثل الساحرة جان دارك»، الأمر واضح. جنود صغار الطريق الوحيدة لكي تصبح ضابطا في البحرية الوطنية الفرنسية هي المرور على ظهر حاملة المروحيات الفرنسية «جان دارك». ستة أشهر كاملة يقضيها شبان، لا يتجاوز متوسط أعمارهم العشرين ربيعا، على متن هذه المقاتلة العملاقة، التي يبلغ طولها 182 مترا، وارتفاعها 24 مترا، والتي تصل سرعتها القصوى إلى 7500 مايل بحري في كل عقدة. جنود صغار بعضلات مفتولة وملامح متشنجة بدأت تكتسب بعضا من ثنايا القبطان الصلب «هيرفي»، إنهم شبان اختاروا أن تكون نهايتهم في أعالي البحار، لكنهم أيضا شبان أذكياء ويمتثلون للقوانين بصرامة، وعندما تسأل أحدهم عن وظيفته داخل ال«جان دارك» يجيبك بأدب عسكري لئيم: «عفوا لن أستطيع الإجابة.. إنه أمر يدخل في نطاق أسرار المهنة». «في كل سنة يكون من بين الطلبة المتدربين على متن جان دارك طالبان من أصول مغربية» يقول القبطان هيرفي، خلال الندوة الصحفية التي نظمت في الساحة التي تنطلق منها المروحيات البحرية على ظهر «جان دارك»، قبل أن يستطرد بسرعة كما لو أنه نسي شيئا مهما: «للإشارة فإن ربان إحدى المروحيات الحربية على متن جان دارك هو فرنسي من أصل مغربي»، وهنا يتوقف عن الكلام عن المغاربة الذين تفادوا الظهور أمام الصحفيين، كما تفادى ذكر أسمائهم، غير أنه نسي ربما أن اسم الربان المغربي لا بد أن يكون مذكورا في الأوراق التقنية ل«جان دارك»، والمغربي اسمه عزيز بناني ورتبته فوق جان دارك هي «يوطنو» المروحية «إس 22». كما تبرز الأوراق التقنية للسفينة أنه يوجد من بين الطلبة المتدربين هذه السنة طالب مغربي يدعى بن هشام، دون معطيات إضافية. «لقد كانت أياما لعينة» يقول مهدي، أحد الطلبة الفرنسيين من أصول جزائرية، والذي كان يهم بمغادرة المقاتلة الحربية ليتجول لبعض الوقت رفقة زملائه الضباط في مدينة الدارالبيضاء، ويضيف موضحا: «لقد أمضينا أكثر من خمسة أشهر مقطوعين عن العالم لا شيء غير البحر والأمواج والموانئ»، ويعلق بصوت متعب: «عييت آخويا». مهدي شاب قوي البنية لكنه يضحك مع كل جملة يصرح بها. كلماته قليلة لكنه يحس بفخر كبير لأنه أمضى كل هذا الوقت بعيدا عن «ليغزاغون»، أو كما يفضل هو أن يصف هذا الأمر بلهجته الجزائرية المفضوحة: «والله خاصك تكون راجل آخويا». بمجرد أن يغادر هؤلاء الطلبة الضباط سلاليم المقاتلة «جان دارك» إلا ويخرجون علبة سجائرهم «المارلبورو» ويبدؤون في التدخين بنشوة كبيرة، أما الحركة التالية فتكون هي إشعال الهاتف النقال الذي توقف عن الاشتغال منذ خمسة أشهر ومخاطبة الأم أو الأب أو الحبيبة، إنهم شباب مختلفون، يشبهون السندباد البحري في نظراتهم، وقراصنة الكاريبي عندما يدخنون، وليوناردو ديكابريو في فيلم التيتانيك عندما يشعلون هواتفهم النقالة ويبدؤون الحديث بكلمات الاشتياق إلى أبعد حبيب، كما كان يفعل جاك مع روز. إنهم جنود صغار عرفوا أن البحر ليس مجرد شاطئ وأن أعماقه مليئة بالصواريخ. القبطان هيرفي إنه الرجل الذي يمسك بزمام كل شيء على ظهر حاملة المروحيات «جان دارك»، إنه أصغر سنا من القبطان الذي يتذكره كل من شاهد فيلم التيتانك، لكنه يملك نفس النظرات الثاقبة والكلمات الخالية من الحشو، لأنه يعلم بالتأكيد أن خطأ بسيطا في الحساب قد يودي بحياة 600 شخص على ظهر مقاتلة عملاقة، كما أنه يعلم أيضا أن حياته تنتهي بموت جان دارك، وأنه ليس من حقه حسب قوانين الشرف البحرية أن يترك حبيبته تغرق وحيدة، فيما يشبه تجسيدا آخر لروميو اسمه هيرفي وجولييت ملقبة ب«جان دارك»، والأكيد أن يومياته التي كتبها طيلة أيام سفره على حاملة المروحيات الفرنسية ستحمل هذا العنوان: «هيرفي وجان دارك». لقد تخرج القبطان «هيرفي بليجان» من المدرسة البحرية الفرنسية الشهير «نافال» دفعة سنة 1984، واشتغل كمسؤول بجودة السياقة البحرية بالقارب الفرنسي الشهير أيضا «فيكتور شولشر»، وبعد سنوات أخرى من الدراسة المعمقة في عوالم البحر والسفن سيتحمل سنة 1993 مسؤولية قيادة السفينة «ليوبار»، وهي السفينة المخصصة لتدريس ضباط البحرية الفرنسيين تحت قيادة الأميرال البحري المعروف «لوفيبر». وقبل أن يصل إلى رأس المقاتلة جان دارك تولى هذا القبطان المعروف بين أقرانه الفرنسيين والعالميين مسؤولية المساعد الأول بالمكتب السياسي للموارد البشرية التابع للقيادة العامة للبحرية الفرنسية، حيث أشرف على إعداد القانون الأساسي الجديد لضباط البحرية الوطنية الفرنسية، وفي 2005 ستعينه الدولة الفرنسية كقبطان أول للمقاتلة «جان دارك».