رفع الكاتب التسعيني المغربي عقيرته بالدعوة إلى «قتل» الأب، وحاول أن يخرج عن سلطة هذا الأب شكلا ومضمونا، وفي كل أشكال الحياة اتخذ الصراع الأجيالي لغة عنيفة في الكثير من الحالات، شباب ثورة 68 خرج إلى الشارع ضد هيمنة النمط التقليدي في السياسة وفي الثقافة، المغاربة خرجوا في ثمانينات القرن الماضي، ووجدوا في انتظارهم «أبا» مسلحا بالهراوات وخراطيم المياه والرصاص الحي، واستمر هذا الأب المخزني «يهش» على أبنائه، ويحقق أبوته بما يضمن له الاستمرارية.. وكان أن ارتد «السلاح إلى الخلف» فالشبيبة الثائرة الغضوبة من سطوة الأب، في الحزب وفي العائلة وفي الشارع العام، ستخضع أخيرا للأمر الواقع منهية حلقة الصراع، متحولة هي نفسها إلى «مشيخات» صغيرة وزوايا كما يعبر عن ذلك الباحث المغربي نور الدين الزاهي. كيف ننظر اليوم إلى الصراع الأجيالي في المغرب؟ وهل نستطيع أن «نقتل» الأدب دون أن تسكننا عقدة الذنب، أم إن مآلنا في العقوق لن يكون أحسن حالا من أوديب في مسرحية سوفوكل «الملك أوديب» حين ينتهي إلى مآل تراجيدي.. فقتل الأدب يكلف كثيرا، حتى ولو كان هذا القتل مجرد ترتيبات من ترتيبات الغيب. في الثقافة العربية الإسلامية، الأب هوالذي يقتل الابن أو يضحي به على الوجه الأصح كما في الحالة الإبراهيمية، وفي المتخيل الديني يقتتل الإخوة، قابيل وهابيل، ولا يجرؤ الابن على الخروج عن طاعة الأب الرمزي منه والواقعي. في هذا الملف نقرأ وجهات نظر كل من الناقد نور الين صدوق والروائي وحيد نور الدين والباحث الأكاديمي محمد الداهي والباحث في الأدب الشعبي محمد فخر الدين، كما نجري حوارا مع السوسيولوجي نور الدين الزاهي حول التمظهرات الثقافية والسياسية والاجتماعية لمن يقتل أباه العاق. صدوق نور الدين : من قتل محمد زفزاف اليوم؟ إن فكرة قتل الأب في الأدب لا وجود لها في تصوري، وعبر مساري كما تمثل في محاولات قد تقول شيئا، أو أنها بدون معنى.. فالأب الرمزي في الأدب وهم سلطة.. هذه يخيل أنها تمارس قوة حضورها من بعيد، إما بالتوجيه، الفرض أو الإكراه.. لكن ونفسيا، هنالك من يتوهم وعلى السواء تنذير ذاته لقتل الأب.. وإلا فمن «قتل» نجيب محفوظ اليوم؟ أ ومحمد زفزاف؟.. لا أحد. أعتقد أن الأولى أن نتحدث عن صراع أجيال في الأدب.. (ترى من يذكر غالي شكري اليوم؟..) فالجيل المؤسس لا يمكن محو عطاءاته كمؤسس.. وبالتالي فإنه يمثل نواة تأسيس، وعنه انبثق الامتداد بما هو لاحق.. على أن التأسيس والامتداد بمثابة التشكل الحق والتام للأدب العربي، ومنه المغربي الحديث. علما بأن الأخير، وعلى امتداد أجناسه، حقق تراكما، إلا أنه لم يفرز داخل التراكم نوعية.. وإلا فأين الأسماء الروائية الجديدة؟ وحتى في القصة؟ تأمل، يمكن أن تزور في الراهن أية مكتبة، وستجد كما من الروايات ومن الأسماء غير المتداولة، وجميعها انخرطت في الكتابة السيرذاتية.. إلا أن تحقيقها لآثار شخصية لا وجود له، مما يعني انتفاء الاستمرارية.. وهنا نرى بأن مجموعة من الروائيين من جيل التأسيس: عبد الكريم غلاب، محمد عز الدين التازي، الميلودي شغموم، أحمد المديني، مبارك ربيع ومحمد برادة، إضافة إلى محمد صوف وعمر والقاضي وشعيب حليفي، يواصلون وبقوة فعل الحضور والإنتاج. فهل نحن بصدد حالة مضادة تتمثل في قتل الابن؟ قد يكون. أعتقد في الختم أن لكل مبدع إيقاعه، وموسيقاه التي يتولى عزفها، إلى روحه التأملية التي تفرض أن يقرأ أولا، ويقارن ثانيا، ويبدع ثالثا. نور الدين وحيد: لا أحد يحب أن يترك أمه لرجل آخر دعنا نطرح السؤال ذاته، ولكن بصيغة أخرى: لماذا نقتل الأب ونبقي على الأم؟ ألأننا سوفييت أكثر من دوستويفسكي، أم لأنه يتعين علينا أن نقرأ هامليت وعقدة أوديب بنظارات جديدة؟ «كلنا أشرار يا سيدي ورمزية الأب لا تقل في شيء عن رمزية الأم، كما أن القطيعة – بمعنى القطيعة – مع الماضي حمالة نتائج إن لم تكن عكسية فهي غير مضمونة العواقب. إذ ما رصيد هذا المغرب في التاريخ والحضارة سوى كونه واحدا من أعرق دول العالم؟ وما الذي جعل ثورة ميجي في اليابان تفلح حيث أخفق السلطان محمد بن عبد الله، أواسط القرن 19، في تزامن مثير لأسئلة شتى مع الثورة الفرنسية؟ ثم دعنا نطرح السؤال ذاته، ولكن بصيغة ثالثة: لماذا نقتل الأب وليس الجد وجد الجد، حتى ابن رشد وابن سينا... مثلا؟ أوليس من السخافة أن نسعى لقتل هؤلاء حتى وقد غيرت الكنيسة أسماءهم وتركتنا في العراء؟ وبغض النظر عن كل هذا وذاك، هل نستطيع بالفعل أن «نقتل الأب»؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، فإلى الآن وبعد ثمان وعشرين سنة عن وفاة أبي مازالت أمي أمام كل نجاح أحققه تقول: «فيك شيء من أبيك... اللي ولد ما مات»، وأمام كل فشل أحصده تتنهد وتقول: «إيييه... لوأن أباك كان حيا!؟». أنا أعتقد أن التحدي الحقيقي لا يكمن في قتل الأب، فالقتل بكل أشكاله لم يكن قط تحديا. التحدي الحقيقي يكمن في إحياء هذا الأب، ونفض الغبار عن برنوسه الأثير. وإن كان إحياء الموتى ضربا من نبوة، فهذا الأب لم يمت قط رغم هزائمه في قرطاج كما في غرناطة، ورغم كل ما دأب المنتصرون في الحروب من تزوير للحقائق التاريخية. هذا الأب لم يمت بدليل أننا هنا وأننا لخمسين سنة ونحن ننادي بقتله.. ولعمري لا أشد مضاضة من وقع الحسام المهند إلا تنكر ذوي القربى ممن تناسلوا من صلبك والترائب. من موقعي ككاتب مغربي، اشتغلت على هذه الموضوعة في نصوص عدة «رماد البارحة»، «شارع الرباط»، «علام الخيل» وتوصلت إلى حقائق ميدانية مثيرة حقا. في المجتمع المغربي المعاصر بكل تمزقاته مازال الأب يحتل مكانته الطبيعية في وجدان المرأة المغربية.. حتى إن الزوجة تعتني بوالد زوجها أكثر من عنايتها بزوجها وأبنائها –ولد ميلود، مريم، أمي طامو، الحاج علي، احماد.. إلخ. وبناء عليه أعتقد أن الأدب المغربي يسير– رغم كل شيء باتجاه رؤية مستقلة عن الشرق والغرب، اعتمادا على مقومات ذاتية قد لا تتوفر لهذا وذاك. دعني أقول لك على سبيل الجزم: لا أحد يحب أن تترك أمه لرجل آخر.. من يقول غير هذا فليدفن أباه حيا. محمد الداهي: ليس الشباب إلا كلمة مازال وهم صراع الأجيال يستأثر باهتمام الكتاب على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم وأذواقهم، ويستقطب مزيدا من المريدين رغم تغير مفهوم الكتابة في زمن انتشار أشكال التخييل الجماهيري، وتوطد العلاقات الافتراضية بين الكتاب بفضل تطور الوسائط المتعددة وفي مقدمتها الإنترنيت. يرى المبدعون الشباب في كتابتهم ثورة على المواضعات الأدبية وقتلا للصورة النمطية للأب، ويتهمون النقد بالتقصير إزاء ما يكتبونه، وعدم قدرته على وضعه في سياقه الحقيقي ومقاربته بالأدوات المناسبة. في حين يرى الجيل الآخر أن أدب الشباب مفعم بالحماس والاندفاع والمغالاة، ويحكم عليه بقلة التجربة وبعدم النضج، ويضجر أصحابه بكثرة الملاحظات والنصائح حاثا إياهم على ضرورة الاستفادة من الأجيال السالفة. وكثيرا ما يتحول النقاش بين الطرفين إلى تراشق الاتهامات وترديد العبارات المسكوكة، في حين يغيب الحوار الهادئ الذي يمكن أن ينفض الغبار عن النازلة قبل إصدار الأحكام الجاهزة عليها، وينظر إلى النص في منأى عن سن صاحبه وطبعه ومزاجه وشلته. وفي هذا السياق أستحضر عبارة لبيير بورديو «ليس الشباب إلا كلمة»، ومفادها أن الكاتب -وإن حلب من الدهر أشطره- يظل شابا في أعين قرائه مادام قادرا على مواكبة مستحدثات المشهد الثقافي واستيعاب تحولاته العميقة، والإسهام فيه بجديته المعهودة وحماسه الوقاد. وبالمقابل يستطيع الشاب أن يفرض ذاته وينتزع الاعتراف به لما يتوفر عليه من مؤهلات، ولما يتسم به من سمت لقهر آفة الغرور التي تخذل صاحبها وتقتله قبل الأوان. إن عبارة بورديو تعيد الاعتبار إلى الجد والحيوية أيا كان مصدرها. وهكذا قد يكون الشيخ شابا والشاب شيخا. وغالبا ما يتشح الصراع بين الجيلين القديم والجديد بمسحات نفسية ورمزية (قتل الأب). وهو صراع مشروع يستمد نسغه من حركية المجتمع وتقدمه. ينتفض الجيل الجديد على المواضعات والمقاييس المعتمدة التي تحفز على إعادة إنتاج البنيات على المنوال نفسه. ولو امتثل لما هو قائم (نموذج عبد الغني في رواية دفنا الماضي لعبد الكريم غلاب) لظلت دار لقمان على حالها. وبما أن الكتابة تصدر غالبا عن ذوق جديد، وترتاد آفاقا مغايرة؛ فهي تنزاح تدريجيا عن الثوابت والمعايير السائدة. إن قتل الأب (رمز من رموز الأدب أو الثقافة) مسألة حتمية في زحمة التغيير ووتيرة التطور. وقد يكتسي هذا القتل الرمزي بعدا حضاريا يقوم على تقاليد ديمقراطية، وهذا ما يدفع الأب إلى الانسحاب في الوقت المناسب، ويحفز الابن على توقيره وتكريمه والاستفادة من خبراته. وقد يستعير مظاهر العنف والتدمير لنزع الثقة و«القداسة» من الأب المستبد. وهو ما يؤشر على توسع الهوة بين السلف والخلف، ويبعثر أوراق الذاكرة، ويبعث على «العقوق والعصيان». إن هذا الصراع واضح المعالم في الغرب ومستحب لكونه يعد مدخلا أساسيا لأي تغيير نحو الأفضل. وهكذا يقتل الباحث الشاب اسم أبيه ( ليس الأب البيولوجي) لينتقد اتجاهه الأدبي أو النقدي أو يضفي عليه مزيدا من التنقيح والتعديل بالنظر إلى حاجات العصر ومتطلباته الجديدة. وقد يثمر الصراع بين الطرفين (على نحو صراع رولاند بارث مع رواد المنهج التقليدي) وفي مقدمتهم ريمون بيكار (الذين يدعون أنهم الأقدر من غيرهم على فهم أعمال راسين) نقاشا خصبا وحيويا يكشف عن الخلفيات المعرفية ويجلي امتداداتها الثقافية والفكرية. في حين يتلون في العالم العربي بألوان وأصباغ قطرية وجهوية وسياسية، وذلك نظرا للمكانة الكريزماتية التي يحظى بها الأب/الرمز في المجتمع. يتخوف الناس من قتل الأب تفاديا للفوضى والاقتتال والعبث، ويحرصون على استمراره باعتباره صمام الأمان. وينسحب الشيء نفسه على مجال الأدب، إذ نعاين، من مظاهر أخرى، تحكم شلة من الأدباء في نسج العلاقات الأفقية سعيا إلى ضمان هيمنتها وإقصاء الأصوات الجديدة و«المشاغبة». توجد في كل قطر، على نحو متفاوت، ثلة من الكتاب تبدد وهم صراع الأجيال بمد العون إلى الشباب لصقل مواهبهم وتأكيد مشروعية طموحاته وأحلامه، والانخراط في أندية وجمعيات أدبية تتضافر فيها مختلف الحساسيات والأعمار لإدراك أهداف محددة سلفا، وتنسيق المصالح المشتركة، والاحتفاء بأدبية النص في منأى عن عمر صاحبه وقناعته الإيديولوجية وفلسفته في الحياة. فبفضل هؤلاء مازالت منارة الإسكندرية مضيئة. محمد فخر الدين: حرفة بوك لايغلبوك لا يمكن «قتل الأب» في ثقافتنا الشعبية، بما في ذلك من تلميح رمزي إلى ابتداع الابن لمساره الحياتي المتفرد والمستقل، لأن الابن لم يبلغ بعد النضج الكافي ليفعل ذلك، ولأن الأب متجذر في التاريخ وفي المتخيل الجمعي كحام للنظام وكرمز للجماعة.. ذلك الأب الذي يحملنا صفاته الحنش مايولد عما طول منو-والذي يورثنا عمله حرفة بوك لا يغلبوك ويكرس طبيعة المجتمع المبني على الفقدان للي مات باه يتوسد الركبة ويجعل الأم مجرد تعويض سيكولوجي عن الأب.. مشاهد «قتل الابن» هي أكثر من مشهد «قتل الأب» في حكاياتنا الشعبية، فالبطل الذي هو الابن مخلوق أصلا للتضحية بنفسه في سبيل الأب، ومواجهة مختلف الأخطار من أجل تحقيق القيم والمثل التي يرمز لها هذا الأخير.. ومن ثم لا بد له من مظلة أبوية مرافقة لتوصله إلى سبل النجاة، قد تكون أبسط صورها وأكثرها تداولا رضاة الوالدين. أما الابن الذي أراد أن يخرج عن جلباب أبيه فهو لا أمل له في النجاح لا اجتماعيا ولا رمزيا، فمن أراد أن يقتل الأب عليه أن يقتل نفسه أولا.. ذلك الموت الرمزي الأشد صعوبة وإيلاما، لأن كل ما فيه هو منه وإليه، ومن ثم كانت صعوبة المهمة واستعصاؤها على كل المستويات.