إذا كان هناك مسؤولون فلسطينيون ينتظرون نتائج المفاوضات مع الإسرائيليين لإنهاء الصراع، فإن هناك مسؤولين آخرين يتابعون كواليس هذه المفاوضات فقط لكي يحصلوا على معلومات حول الأراضي التي ستشملها الاتفاقات حتى يشتروها مسبقا. وبمجرد ما علم بعض المسؤولين المشاركين في المفاوضات بقرب تسليم أرض قريبة من مطار «قلنديا» بشمال القدس القريبة من المطار، حتى سارعوا إلى عرض مبالغ مالية على أصحاب تلك الأراضي التي يمنع فيها الاحتلال أي أشغال للبناء. لعلمهم المسبق بأن مطار «قلنديا» يوجد ضمن المنشآت التي ستسلمها إسرائيل للسلطة الفلسطينية في أية تسوية مستقبلية، والذي تعهدت اليابان بتهيئته وتوسيعه ليكون مطار الدولة الفلسطينية في المستقبل. في القانون المغربي تسمى هذه الجريمة بجريمة المعرفة المسبقة. بمعنى أن المسؤولين بحكم قربهم من دوائر القرار السياسي والإداري والمالي يكونون على اطلاع بالتصاميم المستقبلية التي ستكون عليها المدن، فيسارعون إلى شراء أراضي بالقرب من المناطق الهامشية بأثمان بخسة لكي يعيدوا بيعها في سنوات قليلة بأثمان خيالية. عندما كان بوفتاس وزيرا للسكنى بداية الثمانيات، كان إدريس جطو لا يزال مجرد رئيس لديوانه. لكن بعد فترة قصيرة «زاد الله فتيغراد» فأصبح هذا الأخير شريكه في المال والأعمال بعدما ضم اسمه إلى اسم بوفتاس لكي يضعا معا في السجل التجاري شركة اسمها «بوتاج»، وهي الشركة التي تحمل حروفا من اسم بوفتاس وجطو، والتي تخصصت في صناعة الصباط. ثم بعد ذلك سيوسعان تجارتهما لكي تشمل صناعة «التقاشر» عبر شركة «لانسيلوتيي». في تلك الفترة كانت منطقة «بيست تيدارت» بالقرب من الطريق المؤدية إلى باشكو هي نهاية المنطقة الحضرية بالدارالبيضاء. وبما أن السيد بوفتاس كان وزيرا للسكنى، وكان على اطلاع بالتهيئة الحضرية الجديدة للدار البيضاء فقد اشترى مساحات شاسعة في منطقة لاكولين بمبلغ لا يتجاوز عشرة ملايين سنتيم للهكتار. واستطاع أن يحصل هشام البصري ووالده إدريس البصري وأحمد عارف مدير الوكالة الحضرية سابقا، والعامل مطيع والعفورة على بقع أرضية بمنطقة «لاكولين» بأثمان رمزية حيث شيدوا فيما بعد عليها فيلاتهم. وبعد مرور سنوات قليلة ظهر التصميم الذي ضم «الكدية» إلى المدار الحضري وبدأت أسعار الأرض هناك تشق طريقها نحو السماء. إلى أن وصلت إلى خمسة عشر ألف درهم للمتر المربع. وللذين يحبون إجراء العمليات الحسابية أن يقارنوا ثمن البيع الأصلي للكدية بثمن بيعها الحالي لكي «يخرج» لهم الحساب. ومؤخرا لجأ عمدة الدارالبيضاء محمد ساجد إلى منع بيع اللحوم بسوق سيدي مسعود، بحجة أن الطريقة التي يتم بها عرض اللحوم غير صحية. لكن سيادة العمدة لم يقترح حلولا تقنية لحفظ اللحوم ومراقبتها، خصوصا إذا عرفنا أن اللحم يشكل روح السوق الأسبوعي المقام في ضواحي المدن، وبدونه لا يصبح للسوق معنى، بل لجئ إلى قرار المنع مباشرة معرضا باعة اللحوم والتجار المرتبطين بها للبطالة. ولعل الغاية الأساسية من منع بيع اللحم في السوق هو القضاء في المستقبل القريب عليه وإزالته. خصوصا إذا عرفنا أن السوق يوجد في منطقة سيدي مسعود المتاخمة لحي كاليفورنيا الراقي حيث يقطن العمدة. وإذا عرفنا أن العمدة، وبعض المسؤولين في الداخلية وجماعة عين الشق، اشتروا هكتارات محترمة في منطقة سيدي مسعود عندما كانت هذه المنطقة لا تزال ضمن المدار القروي، سنفهم دواعي هذا الاهتمام بصحة مستهلكي اللحوم في سوق المنطقة. فمنذ سنتين لم تعد منطقة سيدي مسعود منطقة قروية، ودخلت إلى المدار الحضري للدار البيضاء. بمعنى أن الأراضي التي تم اقتناؤها بثمانين درهما للمتر المربع تساوي الآن خمسة عشر ألف درهم للمتر المربع. والهكتار الذي كان اشتراه بعض المحظوظين الذين لديهم جداتهم في العرس، بثمن لا يتعدى ثمانية ملايين سنتيم، يساوي اليوم مليار سنتيم. ولكي لا تظهر أسماء بعض المسؤولين في وثائق البيع والشراء يلجؤون إلى حل سحري يكفله القانون، وهو تأسيس شركات عقارية مدنية يمكنهم إدخال حتى أطفالهم القاصرين ضمن مالكيها، مع الاستفادة من بند قانوني يخول المسؤول حكم التصرف في كل شيء. ولعل إحدى نقاط ضعف القانون المنظم لهذا النوع من الشركات هو عدم اشتراط توفر الشركة على مجلس إداري. هكذا يخفي بعض المسؤولين ملكيتهم للعقارات خلف أسماء زوجاتهم وأطفالهم القاصرين، حتى لا يجلبوا عليهم أنظار الفضوليين. لنتذكر بهذا الصدد لجوء منير الماجدي، مدير الكتابة الخاصة للملك، إلى تسجيل أرض الأوقاف التي استفاد منها في تارودانت باسم أبنائه. وخلال سنة 2007 بدأ الحديث في صالونات الرباط وكواليس المجالس الحكومية حول مشروع إعادة تهيئة شاطئ الحوزية من خلال مشروع عمراني سيغير ملامح الواجهة البحرية الممتدة من الجديدة إلى أزمور. وحتى قبل أن توضع التصاميم سارع وزراء في حكومة جطو، وجطو نفسه، إلى شراء بيوت عتيقة في مدينة أزمور وحول بعضهم هذه البيوت إلى رياضات. ومن كثرة ما أطلق بعض هؤلاء الوزراء سماسرتهم لكي «يشمشمو» لهم عن «الهمزات» في أزمور ونواحيها، اكتشف أحدهم، وهو نبيل بنعبد الله، أن وزير العدل آنذاك محمد بوزوبع يملك «فيرمة» شاسعة بنواحي أزمور. ويقال والله أعلم أن وزير الاتصال السابق معجب بهذه «الفيرمة» ويريد اقتناءها من ورثة بوزوبع. لذلك فالسبب الأساسي وراء ارتفاع أسعار العقار واشتداد سعار المضاربات ليس هو لجوء بعض المضاربين الصغار إلى اقتناء شقق وإعادة بيعها بعد النفخ في الثمن، وإنما السبب الرئيسي هو لجوء الشركات وبعض المجموعات العقارية الكبيرة إلى اقتناء هكتارات شاسعة في المدارات القروية ثم بعد ذلك يستعملون لوبيات الضغط من أجل إدخال هذه المناطق إلى المدار الحضري، حتى يبيعوا أراضيهم بعد البناء بدقة «للنيف». لذلك فمناطق مثل سيدي مسعود وسيدي رحال وحد السوالم ما هي إلا أمثلة على هذه «الحاسة السادسة» التي يتمتع بها بعض أصحاب الشركات العقارية الكبرى والتي تسعفهم في تشمم «الهمزة» قبل الآخرين. والشيء نفسه ينسحب على مدن أخرى كطنجة التي سارع البعض من الرباط إلى اقتناء أراضي بالقرب من مينائها المتوسطي حتى قبل أن تخرج فكرة المشروع إلى الرأي العام. فالمطلعون على المشروع كانوا على علم بكل المناطق الصناعية والحرة التي ستكون بعد خروج المشروع إلى الوجود. ومنهم من اشترى هكتارات شاسعة بمائتي درهم للمتر المربع، تساوي الآن أضعاف أضعاف هذا الثمن. وطبعا فالقانون المغربي يعاقب على جريمة «المعرفة المسبقة»، لكي يضمن فرص التنافس للجميع بدون استعمال ورقة القرب من دوائر القرار للحصول على المعلومة قبل الآخرين. مثال أخير لكي تفهموا أن من يملك المعلومة قبل الآخرين يملك مفاتيح النجاح والثروة. في سنة 1999 لمعت في ذهن منير الماجدي فكرة اقتناء أسهم من شركة «جي سي إم المغرب» المتخصصة في استيراد الهواتف النقالة. بالنسبة لأصحاب النيات الحسنة فاقتناء هذه الأسهم جاء صدفة. لكن بالنسبة للذين كانوا يقرؤون كف المستقبل «التلفوني» فاقتناء هذه الأسهم جاء مباشرة بعد معرفة الماجدي بقرب منح رخصة استغلال الهاتف النقال لشركة ثانية هي ميدي تيل بعد احتكار اتصالات المغرب للسوق طيلة السنوات الماضية. ولعل أول المستفيدين من شعار ميدي تيل «هاتف لكل مواطن» هو شركة «جي إس إم المغرب»، والتي أصبحت شركة اتصالات المغرب أحد المساهمين في رأسمالها. وهكذا فأحسن «سربيس» يمكن أن يدر على أي مسؤول أو صاحب شركة المال الوفير هو «سربيس لودن»، ولكي تصل الأخبار ساخنة إلى غاية أذنك يجب أن تحسن السمع. وليس السمع وحده وإنما السمع والطاعة أيضا.