جولة في مستشفى محمد الخامس في مدينة طنجة، التي توصف باعتبارها عروس الشمال، تعطي نظرة عن الحالة المتدهورة التي يوجد عليها قطاع الصحة بالبلاد، كما يكشف بعضا من أسباب الفشل الذي أصاب ملف تنظيم المعرض الدولي 2012، وهي الأسباب التي لم يكلف أي من المسؤولين نفسه عناء توضيحها للرأي العام الوطني. مستشفى محمد الخامس بطنجة لا يختصر أحوال القطاع الصحي وحده، ولكن أيضا أحوال قطاعات أخرى تثير امتعاض المواطنين الذين يشتكون تراجع الخدمات الاجتماعية بالمغرب. آلمزوّق من برّا.. سيارات الأجرة لا تصل حتى باب المستشفى، قرب المدرسة الأمريكية توقفت سيارة أجرة ونزلت منها نسوة عجائز وتوجهن مشيا إلى المستشفى الموجود على بعد مائتي متر. في مدخل المستشفى حديقة صغيرة جميلة توحي بأن ما تبقى سيكون أجمل. لكن واجهة المستشفى توحي بالعكس تماما. النوافذ العلوية زجاجها مكسر، والحيطان بدأت تتآكل. الباب الرئيسي بعد القنطرة الصغيرة تنبعث من تحتها رائحة عفنة بفعل وجود أوراق أشجار وسعف نخيل متخمرة. الناس الذين يدخلون ويخرجون يعطون الانطباع بأن المستشفى يسكنه شعب من الرحّل. أغلبهم يحملون بطانيات وأمتعة ثقيلة وكأنهم سيغيرون مقر سكناهم. في المدخل الرئيسي للمستشفى «مكتب إرشادات» وقربه صندوق بريد أبيض كتب عليه بلون أزرق: «علبة الشكايات والاقتراحات»، غير أن مواطنين لهم رأي آخر، حيث مسحوا حرف الشين من كلمة الشكايات فأصبحت العبارة «علبة الكيّات (جمع كيّة) والاقتراحات». آخرون حاولوا تغيير كلمة الاقتراحات إلى الاحتراقات لكي تصبح العبارة «علبة الكيّات والاحتراقات». وحدهم الذين يزورون هذا المستشفى يعرفون لماذا يبدع المواطنون في تغيير أشكال الكلمات لتعطي معنى آخر. جناح الولادة: شا.. على اليسار جناح الولادة وأمراض النساء، قرب الباب يقف حارس صارم يشرح لعدد من النساء أن الولادة ليست شيئا هيّنا، وأن هناك نساء يلدن في ربع ساعة، ونساء يلدن بعد ثلاثة أيام من وصولهن. خرجت امرأة على وشك الولادة بوجه ممتقع من الخوف وهي تضع يدها على ببطنها وسلمت أقاربها ورقة عليها لائحة أدوية ينبغي شراؤها من الصيدلية المجاورة للمستشفى. قرب الجناح هاتف عمومي معطوب بأسلاك مقطعة، وعلى بعد خطوتين رجل يعد حارس الجناح بشيء ما فيشكره الحارس بكثير من الامتنان ويدعو لله أن يسهّل الأمور. هناك أيضا ممرضة تواسي رجلا وتقول له إن الله «سيخلف عليه بأطفال آخرين». في نفس المكان رجل يفرغ همومه على رجل آخر ويقول له إنه «والله إذا ما خلّصتي لا شافو فيك»، ويشتكي لأنه جاء بزوجته تتوجع ليلا من أجل الولادة وتركوها كما هي وكأنها قطة فاجأها المخاض في الشارع. ويضيف الرجل: «بعد وساطات كثيرة وتدخل من هنا وهناك قرر الطبيب الاهتمام بالمرأة». على جدار جناح الولادة لوحة برونزية عليها عبارة تقول «تم ترميم وتجهيز قسم جناح الولادة بمستشفى محمد الخامس بمندوبية وزارة الصحة بطنجة أصيلة سنة 2002 بتعاون مع الشعب الأمريكي». في أسفل اللوحة شعار عبارة عن يدين تتصافحان ورمز العلم الأمريكي، إنه يشبه تماما ذلك الشعار الذي كان يرسم على ظهر علب الزيت التي كانت تصل المغرب هبة من الولاياتالمتحدةالأمريكية. قرب باب جناح الولادة نافذة صغيرة عليها حرف «شا». إنه الحرف الوحيد المتبقي من كلمة «إرشادات». الذين مسحوا الحروف الأخرى وأبقوا على «شا» يعرفون جيدا لماذا فعلوا ذلك. على اليمين قسم المستعجلات. تبدو الأمور فيه أقل كارثية مما تكون عليه ليلا. هناك مرضى وزوار كثيرون ينتظرون الطبيب. شيخ بلحية حمراء يتكئ على عصا سأل ممرضة إن كان الطبيب هنا «يعمل التلفزيون»، ويقصد الفحص بالأشعة، قالت له الممرضة «واقيلا». على جانبي ردهة قسم المستعجلات أناس كثيرون. تدخل أسرة بسرعة وتقصد غرفة بها شاب يتأوه أصيب للتو في حادث سير خطير. في غرفة تشبه المطبخ يوجد مسحوق أبيض هو بقايا من عجين الجبس لعلاج الكسور. يبدو وكأنه من بقايا دقيق لامرأة كانت تعد الحلوى. الموجودون في هذا القسم هم أولئك الذين تفاجئهم الأمراض المستعصية بدءا بآلام البطن ومرورا بالكسور وانتهاء بحوادث السير والاعتداءات بالسلاح الأبيض. الليل هنا مختلف تماما. إنها الفترة الحقيقية التي تظهر فيها فظاعات الليل وحماقته في مدينة تكبر وتتوحش. اللعب مع الأطفال في الطابق الثاني من المستشفى على اليمين آلة أوتوماتيكية لمن يريد قهوة سريعة. الآلة لا تعمل، وفي أعلاها كتب أحدهم، يبدو أنه مسؤول بالمستشفى، عبارة بالفرنسية تقول: «هذه الآلة الموزعة (للقهوة) حساسة جدا، المرجو عدم استعمال القوة. شكرا»، وتحتها رقم 3 دراهم. الآلة معطلة ومن يضع فيها دراهمه الثلاثة عليه أن يعتبرها صدقة وينسى أمر القهوة. قربها آلة أخرى غير أوتوماتيكية لبيع البسكويت. وفي كل الأحوال فإن من يريد قهوة عليه أن يجلس في المقهى المجاور للمستشفى. في مدخل على اليمين لوحة عليها عبارة «جناح الأطفال». عن بعد يسمع ضجيج الأطفال وبكاؤهم. على يمين جناح الأطفال غرفة كتب عليها «غرفة الممرض الرئيسي». في الغرفة امرأة على رأسها قطعة ثوب تجلس أمام الحاسوب وتلعب لعبة الورق. تبدو المرأة شديدة التركيز وهي تنقل عبر فأرة الحاسوب أوراق «الكارطة» من مكان إلى مكان. يدخل مرضى بين الفينة والأخرى ويرون المرأة تلعب الكارطة في لورديناتور، فيعتقدون أنها تصفف ملفات أو تبحث عن علاج لمرض خطير. لا تلتفت المرأة، التي يعتقد أنها ممرضة أو طبيبة، لا إلى اليمين ولا إلى الخلف، فقط نحو أوراق اللعب. استمرت كذلك حوالي 20 دقيقة، بينما كان ممرض آخر يدعى سعيد يطلب منها شيئا وهي تقول إنه لم يحن الوقت بعد. جاءت أم أحد الأطفال وطلبت من الممرض سعيد أن يغير ضمادة ابنها لأنها التصقت في جرحه المتعفن. انتقل الممرض نحو الغرفة 4 حيث يوجد أطفال على أفرشة متراصة وأمامهم جهاز تلفزيون. بعض الأسر لا تكتفي بحمل البطانيات والأفرشة للمستشفى، بل تأتي أيضا بأجهزة التلفزيون لأن أطفالهم لا يستطيعون العيش من دون رسوم متحركة. إنها الوسيلة الأفضل لكي يتناسى الأطفال أنهم في مستشفى محمد الخامس. دخل الممرض الغرفة وأمسك الضمادة فصرخ الطفل من الألم فنهره الممرض «أسكت»، لكن سعيد، وهو في الخمسينات من العمر، لا يبدو سيئا، والدليل على ذلك أن الكثير من الأطفال يمازحونه ويدعونه «عمو سعيد». بوطاغاز وكارتون في الغرفة الملاصقة لغرفة الممرض الرئيسي علقت لوحة عليها عبارة «النظافة تدعو إلى الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة». لا أحد يدري من قال هذه العبارة. قرب تلك الغرفة مراحيض بلا أبواب وداخلها براميل أزبال وبوطاغاز صغيرة مشتعلة عليها قدر ماء وقطع من الكارتون على الأرض. داخل المرحاض المجاور كانت شغالة تغسل الثياب على الأرض وقربها صحون فيها بقايا الطعام. في ردهة جناح الأطفال طفلة شبه عرجاء وطفل على رأسه ضمادة كبيرة يلعبان ويتنقلان بين الغرف. خرجت امرأة من غرفة وهي تحمل طفلا مبللا بالكثير من البول، وسألت زائرة إن كانت عندها «ليكوش». الطفلة المبللة لا تبكي. تعرف أن الصبر مفتاح الفرج، وتعرف بالغريزة أيضا أنها في مستشفى مغربي وليست في مستشفى سويسري. على اليسار جناح من عدة غرف كتب على بابه «طب الأطفال». الغرفة الأولى على اليمين بلا باب وفيها صناديق زجاجية خاصة بإنعاش الأطفال حديثي الولادة. إحدى العلب الزجاجية عليها قطع من لصاق «سكوتش» يمنع تسرب الهواء. داخل علبة زجاجية رضيع مولود للتو، وفوق الصندوق علبة حليب. في الغرفة أشخاص كثيرون وضجيج. على يسار الغرفة مراحيض بلا أبواب وقطع من الكارتون مبللة بالماء على الأرض. بين الفينة والأخرى يخرج من جناح الأطفال أشخاص وهم يحملون بطانيات وأمتعة كأنهم كانوا في نزهة في الغابة. كل الذين يأتون إلى مستشفى محمد الخامس يجب أن يأتوا ببطانيات وأمتعة. في أقصى الردهة تلفزيون صغير معلق وكراسي ومائدة. على الجدار إطار صورة لحفلة أقيمت في هذا الجناح برعاية «البقرة الضاحكة». من الغرفة المجاورة يصل بكاء شديد لطفلة مريضة. على الجدار علقت أيضا لوحة عليها عبارة تقول «نظافة المستشفى مكسب وزيادة في الراحة». العبارات المعلقة يبدو أنها ترجمت عن الصينية من طرف خبير في اللغة الإيطالية. مرق وتأوهات في جناح الرجال الخاص بالكسور وأمراض العظام تبدو الأشياء مختلفة قليلا عن جناح الأطفال، نحو الأسوأ طبعا. غرفة الطبيب، وهي الأولى على اليمين، عليها ورقة تشير إلى أوقات الزيارة في رمضان. بعد أشهر طويلة من نهاية شهر رمضان بقيت تلك الورقة في نفس المكان، وربما ظلت هناك منذ سنوات. أكيد أن رمضان آخر سيأتي وستكون تلك الورقة صالحة. داخل الغرفة ممرضة تقرأ صحيفة على الأنترنيت. تبدو مهتمة أكثر بأخبار الرياضة. داخل الجناح قرويون كثيرون جاؤوا من البوادي المحيطة بطنجة ومن قرى ومدن مغربية أخرى. اللهجات هنا متعددة والصراخ واحد. الكثير من المرضى يتأوهون والأطباء والممرضون تعودوا على هذه التأوهات حتى أصبحت تبدو لهم كأنها مقاطع من أغاني محمد عبد الوهاب. المرضى والزوار مستسلمون بشكل غريب لشيء اسمه الواقع. المراحيض في هذا الجناح تصيب بالتقزز. كلها بلا أبواب وداخلها براميل بلاستيكية للقمامة ولوحات تحث على النظافة. أبواب المراحيض والغرف يبدو أنها ركبت باطيرا وحركت إلى إسبانيا. المستشفى تم افتتاحه سنة 1993، ومراحيضه يبدو أنها بدأت العمل في القرن التاسع عشر. داخل الغرفة 2 لجناح العظام رجل يتكئ على نصف جسده ويضع قربه صحنا من الأكل. بعض قطرات المرق الأصفر تسقط على البطانية، والفتات يسقط على الأرض. غرف هذا الجناح تصيب بالدهشة. يمكن لمن يدخلها أن يتصور نفسه في أي مكان، لكنه لن يتصور نفسه أبدا داخل مستشفى. للتذكير فقط، فإن مستشفى محمد الخامس يوجد في مدينة تعرف باسم «عروس الشمال»، وهي نفسها التي كانت مرشحة لاحتضان المعرض الدولي 2012. الشارع المحيط بالمستشفى يضم «سوقا» متعددة الاختصاصات. قرب الباب الرئيسي مخدع هاتفي يقفل أبوابه ساعة الغداء. بجانبه مقهى بلا اسم يجلس فيه المتعبون وسماسرة الأدوية والمواعيد. كثير من المرضى يقولون إنهم يضطرون إلى دفع رشاوى من أجل تقريب موعد العمليات الجراحية أو الاهتمام بمرضاهم. قرب غرفة الحارس كوخ يبيع كل شيء، وقبالته مطعم يصنع الشاوارما وما شابهها. قربه مختبر محمد الخامس للتحليلات الطبية والتشخيص البيولوجي. وعلى بعد 30 مترا متجر يبيع أجهزة طبية بدءا بالأحذية الخاصة بالمستشفى وأكياس التبول وانتهاء بالكراسي المتحركة. قرب المتجر مجزرة، وقرب المجزرة صيدلية، وقرب الصيدلية كشك، وقرب الكشك متجر خضر وفواكه. التجهيزات ووسائل الراحة والخدمات المتوفرة قرب المستشفى أفضل بكثير من تلك الموجودة داخله.. المرض صناعة. مستشفى أثار جدلا أيام حملة المعرض الدولي خاضت طنجة منافسة قوية من أجل احتضان المعرض الدولي 2012. وطوال مدة الحملة فإن الكثيرين صدقوا أن المدينة يمكنها أن تحتضن بسهولة هذا المعرض، إلى درجة أنهم أصيبوا بالإحباط عندما جاءت النتيجة النهائية لصالح مدينة يوسو الكورية الجنوبية. بعد ذلك الفشل لا أحد من مسؤولي المدينة ومروجي حملتها تحدثوا عن الأسباب. أما السكان فيقولون إنهم يعرفون الأسباب جيدا، أو بعضها على الأقل، ومن بينها الحالة المزرية التي يوجد عليها مستشفى محمد الخامس. ويضيف السكان أن البعثة الدولية الرسمية التي زارت طنجة قبيل عملية التصويت طلبت، بمجرد نزولها في مطار ابن بطوطة (بوخالف) في طنجة، التوجه مباشرة إلى المستشفى الرئيسي في المدينة، وهو مستشفى محمد الخامس، لكن مسؤولي المدينة، حسب السكان، عارضوا وتوجهوا بالوفد نحو مناطق أخرى وأشبعوهم الشاي والمبردات والحلويات. أكيد أن اللجنة الدولية للمعارض التي زارت طنجة من أجل تقييم منشآتها وبنياتها التحتية في كل المجالات، لم تكن في حاجة إلى قبول المسؤولين المغاربة زيارة مستشفى محمد الخامس حتى يعرفوا ما يوجد داخله. إن مثل هذه اللجان غالبا ما تتحرك بشكل رسمي أمام كاميرات التلفزيون ويشرب أفرادها الشاي والقهوة ويتناولون الحلويات ويتبادلون كلمات المجاملة في اللقاءات الرسمية، بينما يوجد مخبرون لا يعرفهم أحد يدخلون المستشفيات العمومية والإدارات ومكاتب البريد والمدارس والقاعات الرياضية والمسارح وقاعات السينما (إن وجدت)، ويرصدون رد فعل الناس العاديين في الشارع ثم يكتبون كل شيء إلى الجهات الوصية. بعد أشهر من حكاية المعرض والمستشفى، ها هو مستشفى محمد الخامس كما كان وكما سيكون وكما سيظل دائما. إنها جولة عادية تكشف المعالم الظاهرة فقط من أكبر مستشفى في مدينة توصف بأنها الرئة المستقبلية للاقتصاد في المغرب، ومحج المستثمرين الدوليين، والتي يسكنها حاليا قرابة مليوني نسمة. مستشفى محمد الخامس، أو غيره من المستشفيات العمومية، بعض أوجه التخلف العويص في مدينة كانت تنافس «بشدة» من أجل احتضان المعرض الدولي.