خرجت تنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار إلى الوجود، على خلفية الدعوة التي وجهها فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط إلى الهيئات السياسية والنقابية والحقوقية والجمعوية يوم 11 شتنبر من سنة 2006، لتدارس واقع الزيادات في الأسعار التي انفجرت مع نهاية فصل صيف هذه السنة، الذي تزامن مع الدخول المدرسي وحلول شهر رمضان. فعلى إثر اجتماع هذه المكونات وإصدار قرارها بتنظيم وقفة أمام البرلمان في 21 شتنبر من نفس السنة للتنديد بالزيادات في الأسعار والمطالبة بالتراجع عنها والرفع من الأجور وتشغيل العاطلين، تشكلت، على إثر ذلك، تنسيقيات في مدن أخرى، وسرعان ما أكد المكتب المركزي للجمعية المغربية لحقوق الإنسان على الطابع الحقوقي لمناهضة ارتفاع الأسعار، على أساس أن هذا الارتفاع يحدث آثارا وخيمة على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذه الدعوة سرعان ما ستصطدم بعدد من الأسئلة والإشكالات حول طبيعة هذه النشأة وما إذا كانت تشكل بديلا عن المركزيات النقابية والحركات الاجتماعية الأخرى التي كانت تضطلع بهذا الدور في السابق. جميع التصريحات التي أطلقها مؤسسو هذه الحركة الاحتجاجية تنفي أي طابع سياسي أو حزبي عنها، حسب عبد السلام أديب أحد المؤسسين الأوائل لهذه التنسيقيات، الذي حرص، في عدد من التصريحات التي نسبت إليه في هذا المجال، على التأكيد على أنهم «ليسوا حزبا سياسيا يطمع في الاستيلاء على السلطة، كما أنهم لا يمارسون العمل النقابي عبر تنظيم العمال ومحاولة إبرام الاتفاقيات الجماعية، بل هم مجرد جمعية حقوقية تستهدف النهوض والدفاع عن حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها كونيا، حيث تشكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أحد مجالات تدخلهم عندما تتعرض لانتهاكات صارخة». بالنسبة إلى إدريس بنعلي، الخبير الاقتصادي والرئيس الأسبق لجمعية بدائل، فتنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار لا يمكنها أن تشكل بديلا عن المركزيات النقابية، حيث يرى في مطلب تخفيض الأسعار شأنا يهم المجتمع بأسره ولا يعني بالضرورة هذه النقابات لوحدها. وأبرز بنعلي، في تصريح ل»المساء»، أن هذه التنسيقيات هي تعوض في حقيقة الأمر الأحزاب السياسية التي استقالت كليا من القيام بدورها التأطيري للمواطنين. كما لا يتفق الخبير الاقتصادي مع أصحاب الطروحات الذين ينظرون إلى النقابات الموجودة بنوع من الاشمئزاز وبكونها لم يعد لها أي وجود، معلقا بقوله إن الأحزاب السياسية هي التي أصبحت غير موجودة، أما النقابات فإنها تدافع عن مصالح المنخرطين فيها، وهي غير معنية بالدفاع عن العاطلين عن العمل لأنهم غير منخرطين فيها أصلا. ويرى في تنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار محاولة لإعادة تأطير المجتمع المغربي، الذي كان، إلى وقت وجيز، لا يعرف كيف يطالب بحقوقه عندما تستهدف، ففي انتفاضات 81 بالدار البيضاء و84 في مراكش وأحداث 90 بفاس لم تكن، حسب بنعلي، هناك حركات منظمة أو مهيكلة، لذلك كان تعبير الشارع عنيفا وفوضويا «كان كيخرج باش يهرس ويتهرس». وظيفة التنسيقيات اليوم أنها تتصدى لرد الفعل العنيف الذي يكون كامنا لدى الشرائح الواسعة من المواطنين المتضررين من الزيادات ومن ضربت قدرتهم الشرائية، وتحوله من سلوك سلبي توظفه الدولة في الإجهاز على ما تبقى من الحقوق، إلى سلوك إيجابي من خلال الاحتجاج بشكل سلمي وهادف. وبالتالي، فإن دور التنسيقيات -يواصل بنعلي ضمن توصيفه للدور الذي باتت تطلع به- يمكن اعتباره نوعا من الهيكلة المضادة التي تمارس نوعا من الضغط على الدولة لكي تتراجع عن سياستها ونهجها المعاكس لمصالح الشرائح الشعبية التي انتصبت مدافعة عنها. وأكد بنعلي أنه في الوقت الحالي باتت الحاجة ملحة إلى التفكير في وسائل تنظيمية بديلة لتعبر عن طموحات المواطنين بعد أن استقالت الأحزاب السياسية من مهامها، وأصبحت غير موجودة، وبالتالي، فإن هذه التنسيقيات تضطلع بدور الأحزاب وليس بدور النقابات التي تدافع عن مصالح منخرطيها. بدوره، أبرز محمد الغفري، رئيس الملتقى الوطني الرابع لتنسيقيات مناهضة ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات العمومية، أن هذه الحركة الاحتجاجية المحدثة لا تطرح نفسها كبديل عن المركزيات النقابية، لكن، في نفس الوقت، الطبيعة لا تقبل الفراغ، كاشفا في تصريح ل«المساء» أن وزير الداخلية، لما استقبلهم عقب أحداث صفرو سنة 2007، أخبرهم بكون مطالب الرفع من الحد الأدنى للأجور يعد مطلبا سياسيا وأن هناك قنوات معينة يجب سلكها لإيصال هذا المطلب، ليتم الرد عليه من قبل ممثلي هذه التنسيقيات، المشكلة أساسا من لفيف من الهيئات الحقوقية والجمعوية والنقابية، بأنهم يناقشون السياسة العامة التي نتجت عنها موجة الغلاء، وبالتالي يبقى من حقهم الانتصاب كطرف يدافع عن هذه الحقوق بعد أن تخلت الدولة عن الصناعة والصيد الساحلي والفلاحة. وأبرز الغفري أن التنسيقيات تسلط الضوء على نقط العتمة في السياسات التي أدت إلى الوضع الحالي، والتي أضرت بالقدرة الشرائية للمواطنين، وبالتالي، فإن عملها يكون مكملا لما تضطلع به النقابات التي لوحظ عليها في الآونة الأخيرة تخليها عن هذا المجال الحيوي الذي كانت تغطيه وتهتم به. وأوضح المتحدث باسم التنسيقيات أن العمل النقابي يتوخى بالأساس الدفاع عن النقابين مقابل توسيع دائرة الاشتغال من قبل التنسيقيات التي تطالب بالشغل للعاطلين عن العمل والمهمشين والتوزيع العادل للثروات، ومناقشة أسباب وعوامل الهشاشة، أي أنها تنظر في أساس الأزمة الحالية وتطالب برفع الضيق والحرج عن عموم المواطنين. وبخصوص إمكانية أن تتحول هذه التنسيقيات إلى تنظيم قائم الذات، أبرز الغفري أن آخر ملتقى عقدته المكونات المشكلة لهذه الحركة الاحتجاجية الحديثة كان من نتائجه حدوث نقلة نوعية على المستوى التنظيمي لهذا الإطار الجنيني المؤلف أساسا من هيئات حقوقية ونقابية وجمعيات الأحياء، حيث إنه صارت لهم القدرة على النزول إلى الشارع للمطالبة بمطالب موسعة تتناول عددا من القضايا كالتعليم والقدرة الشرائية والسكن والأمن... هذه المجالات كانت، إلى حد ما، مجالا خصبا تهتم به النقابات العمالية وتخلت عنه في السنين الأخيرة. ورغم هذا الطرح، يتشبث الغفري بكون التنسيقيات لا يمكنها أن تشكل أي بديل عن عمل النقابات، ولكنها في الوقت الحالي تغطي فراغا لم يجد من يملأه.