تتناول نوفيلا «خط ساخن» للتشيلي لويس سبولفيدا (ترجمة محمود عبد الغني، دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2008)، العلاقةَ المضطربة وغير السوية بين الإنسان المتطلع إلى الحرية، وبين الشخصية الدكتاتورية التي توظف موقعها السياسي أو العسكري لتضرب المستضعَفين بيد من حديد، كما تعيد رسم العلاقة التي تربط الإنسان بالمكان، والتي تغيرت أوجهها كثيراً في ظل العولمة، وتحول المجتمعات من بساطة الحياة إلى تعقيدها. لذا، يختار سبولفيدا بطل روايته (المفتش «جورج واشنطن كوكامان») ليكون من أصل هندي قادم إلى المدينة من مجتمع قروي، وفي هذا الاختيار إشارة إلى فئة عانت تاريخياً من الاستبداد والقمع بعد غزو الرجل الأبيض بلادَها واحتلاله أرضَها.. ولعل هذا ما يفسر بروز الهندي الأحمر شخصيةً محورية في العديد من روايات أدب أمريكا اللاتينية كما في أعمال: ميخال أنخال، أستورياس الغواتيمالي، وغابريال غارسيا ماركيز... وتتجلى ثقافة هذا الهندي ومعارفه الشعبية في غير مفصل في الرواية، ومثال ذلك الوصفة التي قدمها لسائقة التاكسي لتعالج بها القراد المنتشر على جلد كلبها: «امزجي ليبرة من نبات القراص في لتر من الخل وضعيهما على النار ثم ادهني كلبك بها» (ص 22). وهو ما يعكس دراية الكاتب الحقيقية بالهنود الحمر، فقد شارك سبولفيدا هنودَ الشوار حياتهم لأشهر طويلة، وآمن من ذلك الوقت بأميركا اللاتينية بوصفها قارةً متعددة الثقافات واللغات. يتمسك المفتش كوكامان بما أوصاه به أبوه عندما أكد له أن «المابوش لا يمكن أن يستمروا على قيد الحياة إلا إذا وقفوا إلى جانب القانون» (ص 44). وهكذا أمضى كوكامان سنوات في عمله يطارد لصوص المواشي في سلسلة جبال «باتاغونيا»، متفانياً في «خدمة القانون» دون أن يفكر بالحصول على نيشان أو ميدالية للتكريم، أو بترقية في سلّم الوظيفة، ويظل على حاله من الولاء لوظيفته إلى أن تقع حادثة تغير مسار حياته! تلك هي الحادثة التي تُفتتح بها الرواية، إذ يتصدى المفتش الهندي ورفاقه لمجموعة من سارقي المواشي، يبدؤون بتسديد النار على السارقين، ثم يعبرون الأدغال مقتفين أثر اللصوص، يشاهد المفتش مؤخرة سلاح تلمع في العتمة فيحذّر رفاقه من خطر داهم، مهدداً اللص ومطلقاً النار على ردفيه، ليقفز الرجل «كما لو أنه وجّه أكثر الضربات شراسة إلى ردفيه» (ص 11). يكتشف المفتش بعد ذلك أنه أطلق النار على نجل الجنرال «سانتيراس»، ويبدأ التحقيق في القضية، ويُلقى الخطأ واللوم على المفتش كوكامان، بينما تتم تبرئة نجل الجنرال من جرم السرقة، وينتهي الأمر بنقل المفتش إلى العاصمة، ويكون هذا أولَ مسمار يُدق في نعش إيمانه المطلق بعدالة القانون: «-جورج واشنطن كوكامان، لقد فجرت مؤخرة نجل الجنرال سانتيراس!. -آسف سيدي. أعرف أن الجنرال شخصية مهمة، لكن الملف نسي أن يشير إلى أن هذا الشاب كان يترأس مجموعة من اللصوص» (ص 13). فيما يبرر مفوض الشرطة موقفَ نجل الجنرال ومن معه، قالباً الحقائق رأساً على عقب: «عثروا مصادفةً على قطيع من المواشي التائهة، وتلبية للمعنى الأصلي للواجب قرروا أن يقتادوا هذه المواشي إلى مرعاها الأصلي» (ص 13)، وهي الكذبة التي لا تنطلي على المفتش الذي كان شاهد عيان على حادثة السرقة. في العاصمة، تتحول حياة كوكامان التي كانت مليئة بالإثارة ومطاردة اللصوص، إلى حياة عادية، حيث يعمل في مخفر للشرطة. وفي عمله الجديد يؤكد الضابط له: «ليس لنا شيء ضدك، كلهم أخبرونا أنك من الشرطة الذين يطلقون النار بسرعة، ونحن نعمل هنا بطرق مغايرة» (ص 29)، فيما يتفهم كوكامان ذلك، فيرد ساخراً: «سأحاول أن أتكيّف. سأبقي مسدسي ال 38 في درج المكتب. وسأكون دائماً إلى جانب إحدى المساعدات الاجتماعيات» (ص 29). وفي عمله الجديد يصبح كوكامان خبيراً ب«الخطوط الساخنة»، فتشتكي له امرأة كانت تعمل مع معاونها من خلال فتحهما «خطاً ساخناً» لزبائن معينين، توضح ما تقدمه لهم من خدمات بقولها: «نمنح الخيال ونثير الاستيهامات الإيروتيكية عند الزبون» (ص 39)، تشتكي هذه المرأة من شخص غريب يهدد عبر المكالمات حياتها وحياة معاونها، خصوصاً أنهما عاشا في المنفى وكانت أسماؤهما على «اللائحة السوداء» قبل حلول «الديمقراطية» في البلاد. يقرر المفتش زيارة البيت الافتراضي المغلق (مقر عمل المرأة)، ويأخذ معه قبل أن يغادر مكتبه شريطاً كان معاون المرأة قد تركه على الطاولة، ثم يتصل بصديقته سائقة التاكسي أنيتا، ويضع الشريط في مسجل سيارتها، ويبدأ الاثنان سماع التسجيل. كان الصوت ذكورياً أبح مليئاً بالثقة، وكان يتوجه إلى «الشواذ» و«الكهنة الحمر»، مؤكداً أنهم «قريباً سيدفعون ثمن خلاعتهم وخيانتهم لوطنهم». ثم تعالت أصوات بكاء وصراخ يائس وصلوات وصياح وأنفاس لاهثة لأولئك الذين «تم إخراجهم من الإغماء لإرسالهم بين أظافر الألم» (ص 45). تنفعل أنيتا لصرخات المضطهدين، الذين مروا بتجربة عاشتها هي أيضاً، ويحاول المفتش أن يهدئ من روعها، لكنه لا يفلح في ذلك، بل ويشعر بالخجل من نفسه وهو يفكر أن يقول لها مواسياً: «الآن نحن نعيش في عهد الديمقراطية، ويجب علينا أن نغفر للذين سببوا لنا الألم» (ص 46). لقد كان كوكامان يدرك في أعماقه صعوبة تقديم صك الغفران لهؤلاء الذين أشبعوا الناس ظلماً وقسوة، ودفعهم ببساطة إلى النسيان لأنه يمثل مصلحة عليا، فالنسيان يعني في جزء منه التخلي عن ذاكرة تاريخ ماضٍ هي ما تؤسس لذاكرة الحاضر والمستقبل.. ومن دونها لا يمكن للجيل الجديد أن يواصل الطريق.. وفي مشهد فانتازي معبّر، وبعد أن يتوقف المطر الممزوج بدموع أنتيا، يقطع طائر كاسر السماء، ويطير مرتفعاً إلى الأعالي وكأنما يحمل رسالة ما يفهمها كوكامان على أنها: «ساعة الخروج من شرنقة البراءة المريحة، من (أنا لم ألوث يدي)» (ص 46) . تنتهي الرواية بمواجهة حادة بين كوكامان والجنرال كانتيراس صاحب الصوت المهدد ورمز السلطة المستبدة، إذ ينصب له المفتش كميناً يعترف فيه الجنرال بجرائمه على الملأ، وعندها توقفه الشرطة، في رسالة تتطلع إلى غد أفضل: «طلع الصباح على سانتياغو. في تلك الساعة، كما جرت العادة، يتم جمع القاذورات لأجل النظافة» (ص 57). لقد برع الروائي في تنظيم توليد الأحداث، وتنظيم الحبكة التي ظلت مقنعة رغم ما يتخلل بعض مفاصلها من فانتازيا وظفت أحياناً في سياقات فيها شيء من السخرية الممتعة والموجهة، بما يؤشر على عمل إبداعي يقارب حياة الناس -البسطاء منهم على وجه التحديد- معبّراً عن حقيقة أن سكان أمريكا اللاتينية تحولوا من العالم الريفي الكسول، إلى العيش في مدن كبيرة ضاجّة بالحركة والحياة، وإن كان ذلك غيرَ ما يشتهون، إذ يظل المفتش يحنّ إلى رفاقة وحياته في القرية، وظل يردد أنه لا يريد أن يعيش ويموت في مدينة سانتياغو. وقد تميزت كلٌّ من شخصيات الرواية بكاريزما خاصة، معبّرة عن تفكيرها وتحليلها للأمور بطريقتها هي، دونما تدخّل يُذكر من الكاتب، ما منح السرد عموماً، والحوارات، على وجه الخصوص، تشويقاً وإمتاعاً كبيرَين. * كاتبة أردنية