يكثر الحديث منذ الترويج لفكرة التدخل الإنساني في التسعينيات والتدخل الوقائي بعد 11 سبتمبر 2001 عن مشروعية التدخلات السياسية والحقوقية. ورغم أن مجلس الأمن قد أصدر أكثر من قرار بالتدخل العسكري (تغطية حرب أفغانستان) أو السياسي الاقتصادي (العقوبات الجزئية أو الشاملة)، فإن كبار رجال القانون الدولي، من أمثال آلان بيليه، لا يزالون يعتبرون التدخل «تعديا غير مشروع على الشؤون الداخلية أو الخارجية لدولة». وترفض المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان التدخل الحكومي باعتباره انتهاكا للفقرتين الرابعة والسابعة من المادة الثانية لميثاق الأممالمتحدة. وحيث إننا نعيش، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، في ظل تسونامي من المفاهيم والقوانين، فمن يستطيع ملاحقة مقاتلي «بلاك ووتر» أمام المحاكم العراقية باعتبارهم مرتزقة؟ وهل بالإمكان وضع الذين تسببوا في خسارة بليارات الدولارات في الأزمة الاقتصادية أمام محكمة جنائية؟ وهل تجرأت منظمة غربية واحدة لحقوق الإنسان على اعتبار حق المقاومة في احتلال العراق مشروعا لأن هذا الاحتلال وقع خارج أي غطاء من الأممالمتحدة؟ وكم احتاج الأمر لتقف معنا منظمات شمالية ضد القوائم السوداء والأدلة والسجون والرحلات والتحقيقات السرية؟ كل هذه الأسئلة تعيدنا إلى المربع الأول الخاص بقضية السياسة الخارجية ومفهومها وحدود وطبيعة التدخل في الأزمنة المعاصرة. يمكن القول إن السياسة الخارجية مرآة لصحة الجسد، أي الذات السياسية أو السيادة. هي تعبير جوهري عن فكرة الدور، وترجمة النظرة إلى الذات والآخر. ونقصد بالسيادة هنا الشرط النظري لسيرورة تسلم الناس مصائر حياتهم بأنفسهم، أي السلاح الحقوقي والاستراتيجي المشبع بالقدرة على التعبئة الداخلية التي تسمح بسياسة خارجية فاعلة: الثقة بالذات التي تنبع عادة من شرعية سياسية ثقافية وشعور بالأصالة المجتمعية، فهي تمنح السياسة الخارجية دورا كاريزميا لا يتطابق بالضرورة مع الحجم الفعلي للدخل الوطني، بل حتى بعدي التاريخ والجغرافيا السياسية. أيضا هناك العلاقة بين النحن والآخر، بمعنى التصور السياسي والاقتصادي والثقافي لطبيعة العلاقات بين الدول والشعوب وثنائيات التفاعل الإنساني: العزلة-التدخل، العمل الفردي-العمل الجماعي، القيم-المصالح، الحياد-الانحياز، المثالية-البراغماتية، المشاركة-الهيمنة، التعاون-السيطرة.. وما من شك أن المساحات الرمادية بين هذه الثنائيات تحتل الهامش الأكبر في حقيقة السياسة الخارجية لدولة أو كارتل متعدد الجنسيات أو حزب أو منظمة غير حكومية. نقرأ على صفحة الويب الرسمية للخارجية الفرنسية الجملة التالية: «ترتكز السياسة الخارجية الفرنسية على تقليد دبلوماسي قائم منذ عدة قرون، وعلى بعض المبادئ الأساسية: حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية، واحترام دولة القانون والتعاون بين الأمم. وفي هذا الإطار، حرصت فرنسا على الحفاظ على استقلالها الوطني دون أن تكف عن العمل على تنمية أشكال من التضامن الإقليمي والدولي». بالطبع، لا يمكن لأي باحث في العلوم السياسية أن يأخذ على محمل الجد هذا المقطع. فالثورة الفرنسية التي حملت بضعا من هذه المبادئ لا يزيد عمرها على قرنين وعقدين تخللتهما ردات وانقلابات ونظم عسكرية واحتلال ألماني. ومن الصعب القول إن فرنسا، بكل مكوناتها السياسية التي وصلت الحكم، عملت بهذه المبادئ. فقد خسر الشعب الجزائري أكثر من مليون إنسان من أجل استقلاله، وآثرت معظم الحكومات الفرنسية العلاقة مع الحكومات التي تربطها بها علاقات استراتيجية ومصلحة قومية عليا (كالسعودية ومصر، مثلا) بغض النظر عن طبيعتها الديمقراطية. كما امتنعت الحكومة الفرنسية الاشتراكية عن إدانة ضم إسرائيل إلى أراض سورية محتلة، ودعمت عسكريا عدة حكومات موالية لها في إفريقيا لا تمثل شعوبها بحال، بل نفذت ما يسمى بسياسة فرنسا إفريقيا بكل ما صارت تعنيه الكلمة من فساد مالي ومؤامرات سياسية واستغلال اقتصادي، فما معنى أن نتحدث بهذه الحال عن ثوابت عمرها قرون؟ في الطرف الآخر من المتوسط، لا تستطيع الحكومة المصرية أن تقول إن ثوابتها اليوم تتقاطع مع ثوابت مصر الناصرية قبل نصف قرن. ففي عام 1957، نقرأ في الصحف المصرية حديثا عن سياسة عدم الانحياز، وحقوق الشعب الفلسطيني المغتصبة من العدوان الصهيوني، وضرورة بناء الوحدة العربية، ونزع الاستعمار والتضامن الأفروآسيوي، في حين نشهد اليوم عجزا مصريا عن الفعل السياسي الإقليمي وغيابا كاملا لاستراتيجية مصرية للعلاقات الخارجية، كأن دبلوماسية أكبر بلد عربي قد تحنطت الخلايا الدماغية فيها لتتحول إلى مجرد سمسار إقليمي منذ قمة شرم الشيخ لمناهضة الإرهاب حتى اليوم. لقد أعطت حالة الاستعصاء المصرية والشيخوخة السعودية أطرافا إقليمية أخرى دورها في السياسة الخارجية في المنطقة رغم وجود حواجز قومية (تركيا) أو مذهبية وقومية (إيران) أو بنيوية مرتبطة بالجغرافيا والديمغرافيا (قطر).. لكن وللأسف، عندما شعرت الحكومات التي استبعدت نفسها بالجرح النرجسي من غياب الدور، بدأت تستنهض الروابط العصبية قبل المدنية والأحقاد الطائفية والمذهبية في محاولة لتعويض عجزها الهيكلي. لقد تناست أن نظرية الفراغ الدبلوماسي غير موجودة، وأن المقعد الشاغر في العلاقات الدولية يعطي الفرصة للابن الثاني للحلول محل البكر الغائب. في كل وضع جيوسياسي لا بد من منطق مرجعي مستنبط من قراءة المصلحة القومية العليا عند رجل الدولة، أو مراعاة خلفيات الوعي الجمعي. كذلك استنباط التوجهات الأساسية في المجتمعين السياسي والمدني وترجمتها في سياسة خارجية تعبر عن الهموم الرئيسية للناس، أو مزيج من هذا العامل وذاك. لكن هناك أيضا بالتأكيد تدخلات مراكز القرار المقنعة ومراكز القوى الفعلية، مثل تجمعات الضغط والمصالح الاقتصادية والإيديولوجية. فهذه تترجم احتياجاتها المباشرة وغير المباشرة في خطاب للسياسة الخارجية يتحدث عن الحكم الرشيد والديمقراطية دون أن ينوه بحال للخلفية الحقيقية والدوافع الفعلية للموقف السياسي المعلن. لقد عززت العولمة نسبية السيادة، وحددت من نطاق سيادة الأصغر وتعبيرات أشكال ممارستها في السياسة الخارجية، خاصة في السياسات الإقليمية. كما وضعت الهيمنة الغربية قواعد تحدد أوليات الدول الغنية في القانون الدولي. فحركة البضاعة -على سبيل المثال- لا يجوز مراقبتها، أما حق البشر في التنقل فهو مقيد بكل المعاني. إعلان الحليف حالة الطوارئ هو جزء من ضرورات دولة القانون، أما قيام دولة مارقة بمثل هذا الإجراء فهو انتهاك لحقوق الإنسان. جرائم الحرب في صعدة تبقى قضية داخلية، وسلاح المنظمات السياسية الدارفورية هو حالة دفاع عن النفس، لكن سلاح حماس وحزب الله يقع في صلب الإرهاب الإقليمي والدولي. كذلك نجد منظومة الفساد الحكومي في العراق وأفغانستان كابنة الظروف الصعبة للبناء الانتقالي للديمقراطية، أما ظاهرة الأغنياء الجدد في إيران فدليل على تعفن سلطة الملالي، وهكذا دواليك. يلخّص سامي كوهن هذا السلوك بالقول: «تتصرف الدول وفق نظرتها الخاصة إلى مصالحها القومية، الدولة الديمقراطية تستعمل موضوعة حقوق الإنسان ضد دولة هي في صراع مفتوح معها، تقارير الشجب غير الحكومية تفيدها كسلاح ضغط وتعبئة من أجل دعم دولي لسياستها، لكنها تحتفظ بالصمت عن الانتهاكات التي ترتكبها حكومة موالية». تقوم السفارات الغربية منذ سقوط جدار برلين بسياسة نشطة تجاه منظمات المجتمع المدني، خاصة منها المؤسسات غير المفتوحة العضوية (ما يسمى بمنظمات الرجل الواحد One Man Organization). فلضمان عناصر محلية تغطي سياستها الرسمية بخطاب حقوقي، في ما يمكن تسميته بتجارة البؤس، تستغل الأزمة الاقتصادية العميقة عند النخب التي جعلها الاستبداد السياسي وفشل مشاريع النهوض التنموية تعيش واحدة من أقسى ظروف البلترة (التحول إلى بروليتاريا) والإفقار والبطالة منذ الاستقلال. هذا «التدخل المحمود»، باستعارة تعبير أحد قياديي حزب الدعوة العراقي، جعل بإمكان الدول الغربية التدخل بأسلحة محلية. وعلى اعتبار أنه من الصعب على كتل المحافظين الجدد والليبراليين الجدد بناء أحزاب حليفة في دول الجنوب على نمط الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية الموالية له، فقد عملت على دعم المؤسسات والشركات المدنية التي تتبنى قراءة ليبرالية لمفهوم خاص للمجتمع المدني (كنتاج لاقتصاد السوق) ومختزل لحقوق الإنسان (كحقوق سياسية ومدنية لا كحقوق شاملة)، مع حكم مسبق على الدول والمجتمعات (مجتمعات مغلقة ومجتمعات مفتوحة). يظهر إيف ديزالاي وبريانت غارث آليات هذه العملية في أربعة بلدان أمريكية لاتينية في كتابهما «عولمة حروب القصر». وفي غياب التفاعل مع المجتمع المحلي، استفردت أجهزة أمن الاستبداد السياسي بهذه الفئة، وتعاملت معها إما بالقمع المباشر، كما يقع في كوباوإيران والسودان، أو التدجين بالترهيب والترغيب كوضع مصر. هذا التوظيف أضعف المقاومة المدنية الداخلية للاستبداد، وسمح من جهة للسفارة الغربية بإقامة شبكة علاقات محلية تعطيها قوة حضور، ومن جهة ثانية سمح للسلطة التسلطية بتشويه صورة كل تعبيرات المقاومة المدنية عبر إبراز الحالات الطفيلية التي تنمو وتعيش من المساعدة الخارجية! حتى اليوم، ما زالت الدولة «الحديثة» -التي بنيت على مفهوم الأمن أكثر منه على أساس إقامة العدل، وبكل أحجامها- ضرورية لعملية حفظ التوازن الشكلي للعلاقات الخارجية بين الدول. ويمكن القول إنه من النتائج المباشرة للحرب على الإرهاب والعدوان على العراق، تعزيز مفهوم السيادة الافتراضية (virtual) للدول الضعيفة على حساب نظرية السيادة المباشرة للدولة العظمى. لقد أدى ضرب السيادة العراقية (إلغاء الجيش وحل المؤسسات الأساسية للدولة) إلى خلق وضع كارثي غير قابل للسيطرة، عزز فكرة أمريكية بديلة تقول بضرورة التدخل في معالم الدور والنطاق والتصور للسياسة الخارجية للبلدان الحليفة، كما للبلدان الخارجة عن المنظومة، مع بقاء المفهوم التقليدي للأمن الداخلي للدولة. في غياب الشرعية السياسية الداخلية، شكلت السياسة الخارجية أحد مصادر الشرعية للسلطة التنفيذية. فالصراع العربي الإسرائيلي والتوازن الاستراتيجي العربي الفارسي والجهاد ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان كانت في أوقات مختلفة مصدر التعبئة الوطنية وبديل دولة المواطنة. الأمر الذي أدى إلى كوارث كبيرة عندما نسيت الدول الأطراف أنها لا تتمتع بقوة داخلية (شرعية سياسية داخلية) تسمح لها بدور خارجي إلا ضمن رضى القوى العظمى. ما نراه جليا في اطمئنان الرئيس العراقي الراحل صدام احتلال الكويت بعد حربه مع إيران، أو غياب أي مبرر لاستمرار الوجود العسكري السوري في لبنان بعد تحرير الجنوب، مع ما حققه ذلك من نتائج كارثية على صعيد سيادة دول المنطقة: نتائج توضح مدى خطورة غياب الشرعية السياسية الداخلية على هوامش السياسة الخارجية. لكنها أيضا تحمل كل مخاطر الجنوح المقابل: أي شعور من استقوى بالخارج من الضحايا بأنه قوي بالفعل. وهنا تتم ولادة سيادة افتراضية مضخمة تحمل كل مخاطر التحطيم الذاتي. مسؤول سياسي مثل هوغو شافيز لا يمكن أن يقترح تجمعا اقتصاديا جديدا (ALBA) في مواجهة التجمع الأمريكي المبارك من واشنطن (ALCA) لو لم يملك صندوق الانتخابات الحرة، وآبار النفط، وتيارا قاريا تحرريا مناهضا للهيمنة الأمريكية الشمالية الغارقة حتى الثمالة في المستنقع العراقي. بتعبير آخر، هناك الزمان والمكان والحاجة الوطنية الفعلية وقوة الموضوع في الوعي الجماعي، أو قدرته على الاستقطاب الشعبي وقدرة أعدائه على تحجيمه أو ضربه، كعناصر متحركة من الضروري أخذها بعين الاعتبار عند كل موقف استراتيجي هام في العلاقات الخارجية. هناك أيضا مشتركات عالمية لا بد من أن تدخل في الثقافات البشرية رغم كل محاولات توحيد النظرة إلى العالم، مثل الحقوق الأولية للشعوب، والنواة الصلبة للحقوق الإنسانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية، وأخيرا وليس آخرا الإقرار بأن أي تصنيف للآخر في موقع القاصر ينتج بالضرورة العدوانية والعنف تجاه الأقوى.