لم يعد الواحد منا يدري كيف يُخلص نفسه من بين كل تلك الأسلاك الرفيعة العابرة للجغرافيات، حيث تتصيدنا فضائيات بكل اللغات والخلفيات والنيات، نستهلك من خلالها برامج حوارية تعاكس أو ترافق الآراء ووجهات النظر، وأخباراً عاجلة وساعات طويلة من الكرة والأفلام والمسلسلات والأغاني. وبين العنوان الفضائي والآخر، نتعثر في فقرات «دامية» أو «ضاحكة» أو «بين بين». حينها، ربما أحرجتكَ آلة التحكم عن بعد، وهي تتوقف بك عند إحدى هذه الفضائيات، لتقصفك «إحداهن»، وهي تتلوى في مشهد «استربتيزي» فاضح، تبدو من خلاله مستميتة، إلى أبعد حد، في «النضال»، دفاعاً عن حقها في الفرح، قائلة «... عايزة أفرح وأرقص ياناس ... يا كِدة يا بَلاشْ». وما بين «ضحك» الألوان و«عروض» الغناء، ربما انسلت أغنية لأم كلثوم، وهي ترفع منديلها، في صور بالأبيض والأسود، تجعلك تشعر كما لو أن فارق السنوات بين «لعبة» الألوان يتعدى المئات. ومقارنة بمعظم جميلات الشاشة الملونة، تبدو أم كلثوم، التي أفْنت عمرها الفني واقفة بالساعات تؤدي مطولات «فكروني» و«الأطلال» و«هذه ليلتي»، كما لو أنها خارج التغطية والزمن. والمثير أننا انتهينا محاصرين بجميلات العالم العربي أنّا يمّمْنا وجوهنا: كارول سماحة في لباس عصر العنب. إليسا غارقة في «الصابون» و»الرغوة»، تتجول فوق مدن العالم إشهاراً وترويجاً. نانسي عجرم تتغنى بالكوكا. هيفاء وهبي تتمختر في قفطان مغربي من عهد سلاطين القرن السابع عشر، وتروج للبيبسي، ربما، نكاية في نانسي ... فاتناتٌ، غالباً، ما يخرجن إلى المشاهدين في نصف لباس، إلى درجة أن كل واحدة منهن تعطي الانطباع بأنها «لا تكن ودّاًً عميقاً للثياب». ويبدو أنه كلما زادت حدة الدمار والعنف في شرقنا العربي زادت ساعات الفرح والغناء على الجانب الثاني من عملة الفضائيات العربية. وما بين «مطولات» أم كلثوم ومعظم الأغاني العربية المعاصرة، «القصيرة» لباساً وعمراً فنياً، صار الواحد منا يجد صعوبة بالغة في ربط كل هذه التجارب إلى بعضها. ولذلك يمكن أن يصير المشهد سريالياً، ونحن نُعَدّل في الأدوار، فنتخيل هيفاء، مثلاً، وقد سافرت عبر الزمن إلى ستينيات القرن الماضي، لتقف أمام جمهور «كلثومي»، وهي تغني «أغداً ألقاك»، في الوقت الذي تقوم فيه أم كلثوم برقص أغاني هيفاء وروبي ونانسي الحداثية! وقبل أيام، فقط، تابعتُ على قناة «العربية»، استعادة لحياة كوكب الشرق، مع التركيز على مواقفها السياسية وحفلاتها، بعد نكسة 1967، لصالح المجهود الحربي، وصولاً إلى الجنازة الشعبية والرسمية، التي «عكست مدى الحب الذي فازت به هذه السيدة التي كانت ومازالت رمزاً من رموز الغناء العربي». وإذ جاء الحديث عن أم كلثوم متزامناً مع الذكرى ال33 لرحيلها، تابعنا، على نفس الفضائية، خبراً يتعلق بنانسي وهيفاء، لكن، هذه المرة، بعيداً عن حفلات الغناء «الراقص»، يتعلق بصحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأمريكية التي كتبت أن «نانسي وهيفاء وإليسا» ينقذن «بيبسي وكوكاكولا من مقاطعة العرب». وجاء في المقال أن «عملاقي المشروبات الغازية الأمريكيين كوكاكولا وبيبسي استطاعا التغلب على جزء كبير من المقاطعة الشعبية العربية لهما نتيجة لاستخدامهما «لفاتنات الغناء العربي»، واستهدافهما لسوق الشباب والمراهقين. والمثير أن هناك ما يمكن أن يخلط كل أوراق المقارنة بين «كلثوم» ونانسي وهيفاء وإليسا، حيث جاء في موقع «العربية.نت» أن تقريراً رسمياً أصدرته «إسرائيل»، رأت فيه أن «نانسي عجرم وماريا وهيفاء وهبي وغيرهن من الفنانين، يتطاولون على الدولة الإسرائيلية، ويشكلون «خطراً مدمراً» من خلال أنشطتهم السياسية التي قد يكون لها أثر كبير في العالم العربي بسبب شعبيتهم الواسعة». وحيث إن التقرير اعتبر لبنان «دولة معادية»، فقد ألح على وجوب «مواجهة أي نجاح أو تفوق لكافة مواطنيها... حتى لا يكرس تواجدهم على الساحة الدولية»، وهو الأمر الذي لا يصب في النهاية لصالح «إسرائيل». أليسَ غريباً أننا، بعد أنْ كُنا بصدد «أطلال» أم كلثوم و«صابون» إليسا، انتهينا إلى «إسرائيل»، هذا الكيان، الذي لا يُوفر منا أحداً، سواء غطّى جسده بزي أفغاني أو «جمعه» في سروال جينز أمريكي!!