نحن نتحدّث عن نظام سياسي لا مجال فيه للتمييز بين “الدولة” وصاحبها، ومأسسة الدولة، برأي عز الدين العلام، واعتبارها “شيئا عاما” هو أمر مرتبط تاريخيا بظهور “الدولة الحديثة”. وفي جميع الأحوال يبدو أنّ حق «الحاكم السلطاني» في العقاب والسجن حق مطلق لا تعتريه أية حدود ظاهرية، وهو عنصر من بين عناصر أخرى تجعل منه مستبدا مطلقا، يتحكّم في كل شيء ولا يتحكّم فيه أي شيء، يعاقب ولا يعاقَب، يسأل ولا يُسأل، الخلق مسؤول أمامه وهو مسؤول أمام الله. } ما هي دلالات ومعاني الغضب السلطاني؟ - صورة الحاكم السلطاني (ولتسمه خليفة أو سلطانا أو ملكا) هي صورة المستبد بأمره، فهو الأول والآخر في سلطنته. وهذا ما تؤكده لنا مختلف الأدبيات السياسية السلطانية التي عرفها تاريخ الفكر السياسي المغربي منذ كتاب «المرادي» في السياسة (القرن الخامس الهجري. القرن 11م) إلى غاية الأدبيات السياسية المخزنية التي انتعشت طيلة القرن التاسع عشر، وربما بعده بقليل. كل هذه «الأدبيات» تجعل من «الحاكم السلطاني» شخصا فوق العادة، فريدا في ملكه، ولا مجال للتشبه به، ومن هذا المنطلق الذي يعطي للحاكم السلطاني سلطات مطلقة لا حدود لها، سواء على «خاصته» المقربّين منه أو على «رعيته» بشكل عام، نلاحظ كيف أنّ هذه «الأدبيات» تحذر الجميع، خاصة وعامة، من وقع «غضب» حاكم يعفو وهو قادر على العقاب، ويرفق وهو قادر على التشدد، ويعطي وهو قادر على الإمساك... وبإيجاز يمكن القول إنّ اعتبار «الحاكم» في الفكر السياسي المغربي، بمثابة «السراج المنير» الذي يقي رعيته من ظلمات «الفتنة»، واعتباره بمثابة «الأب» الساهر على راحة أبنائه... تجعل من «الغضب السلطاني» غضبين، سياسي وأخلاقي في آن واحد. } ما هي الحدود التي يتحوّل فيها الخلاف الفكري والسياسي إلى عداء شخصي؟ - هذا السؤال لا معنى له، ولا محل له من الإعراب في إطار المشهد السياسي السلطاني لسببين مترابطين. أولهما استحالة الحديث عن خلاف فكري وسياسي في إطار معارضة علنية و«شرعية» لأسباب لا يتسع المجال لبسطها، وثانيهما يتمثل في كون أي عداء ل«شخص» السلطان هو في نفس الآن عداء ل«دولته». ولا تنسى هنا أننا نتحدّث عن نظام سياسي لا مجال فيه للتمييز بين «الدولة» وصاحبها، ولا تنسى أيضا أنّ مأسسة الدولة واعتبارها «شيئا عاما» هو أمر مرتبط تاريخيا بظهور «الدولة الحديثة» كما تبلورت في أوروبا القريبة منا. } كيف يعبر السلطان عن كرهه لشخص ما، وكيف تظهر العلاقة العدائية بين الطرفين؟ - علامات الكره السلطاني متعددة، وهي في حقيقتها مظهر من مظاهر «العقاب» السلطاني. غير أنّ هذه العلامات أو التعابير تكاد تكون محصورة في الدائرة المقرّبة من السلطان من وزراء وعمّال وجلساء وخاصة وأعيان ووجوه القبائل والعشائر، وكل شخص يمكن أن يندرج ضمن «الحاشية السلطانية»... أما مظاهر «العقاب» فهي متعددة، بدءا من الإبعاد أو اكتفاء بالإذلال ومصادرة الثروات، وقد تصل بطبيعة الحال إلى حدود الحبس والتعذيب بل والقتل... وفي جميع الأحوال يبدو أنّ حق «الحاكم السلطاني» في العقاب والسجن حق مطلق لا تعتريه أية حدود ظاهرية، وهو حق لا يتمتع به هكذا، بل هو عنصر من بين عناصر أخرى تجعل منه مستبدا مطلقا، يتحكّم في كل شيء ولا يتحكّم فيه أي شيء، يعاقب ولا يعاقَب، يسأل ولا يُسأل، الخلق مسؤول أمامه وهو مسؤول أمام الله... والواقع أنه يمكن التمييز داخل «السلوك السلطاني»، كما ترسمه الأدبيات السياسية المغربية المهتمة بالموضوع، بين مستويين: مستوى أول مباشر يبرز الطابع التسلطي لهذا السلوك من عقاب وقهر وبطش وسجن وقتل... ومستوى ثان غير مباشر يعكس هذا التسلط من خلال «الأخلاق الحميدة» وسلوك «العفة» المفترضة في «الراعي» المؤتمن على رعيته. وهما مستويان مفارقان، إذ لا تقابل «واقعية» المستوى الأول (أخلاق البطش) سوى «مثالية» المستوى الثاني (أخلاق الرحمة والعفة). } ما الذي يمكن أن يحول شخصا مقربا من الدائرة الضيقة للسلطان إلى عدو مطرود من رحمة سيده؟ - إذا كان بعض الفقهاء لم يكفوا عن الخوض في جواز أو عدم جواز صحبة السلاطين، فإن القريبين ممن يعمل مع السلطان يفكرون خاصة في طرق «سلامة» صاحبهم من أي غضب سلطاني محتمل، فهم يحذرون صاحبهم داخل البلاط السلطاني من كل الاحتمالات الممكنة: فهو قد ينجح في الامتحان السلطاني، وقد يسقط، وما بين النجاح والسقوط، عليه أولا وقبل كل شيء أن يفكر في الإفلات بجلده... ولربما بسبب طبيعة وضعية «صاحب السلطان» هاته، يعيش الطامح في «مرتبة سلطانية» ما «مفارقة» عجيبة، فهو في نفس الآن الذي يتحدث فيه عن «مخاطر» صحبة السلطان، نراه يلهث ويلهث لولوج بلاطه. ومن أجل تليين المفارقة بين الخوف من السلطان والرغبة في التقرب منه، بين التحذير من صحبته والدعوة إلى العمل معه، نلاحظ كيف أنّ الأدبيات السياسية السلطانية المغربية تخصص صفحات كثيرة تسعى من خلالها إلى تقنين السلوك الناجح في صحبة الملوك والسلاطين، وطرح ما يجب أن يكون عليه «الصاحب» في كلامه وصمته، ودخوله المجلس السلطاني وخروجه منه، وحركاته وانضباط جسده، وامتثاله وتغافله، وحذره من كيد زملائه داخل الحاشية السلطانية... ومن أجل حل هذه «المعادلة»، وتليين المفارقة بين الخوف من السلطان والرغبة في التودد إليه، يتحدث الفكر السياسي المغربي عن آداب يجب الالتزام بها في الحضرة السلطانية، وأخرى يجب تركها. أما الأولى فتشمل على سبيل المثال «التلطف له عند الخطاب» و«الإصغاء لكلامه» و«استشعار الصبر في خدمته» و«مصاحبته بالهيبة والوقار» و«الرضا بمشيئته»، أما ما يجب تركه في مصاحبته فيتمثل مثلا في «مناداته باسمه ورفع الصوت بحضرته، والمبادرة بالحديث في مجلسه، إذا كان يتكلم، والضحك من حديثه وإظهار التعجب منه ورفع الرأس إلى حرمه... والانقباض منه والتهالك عليه... غير أنّ «محنة» صاحب السلطان لا تأتي فقط من رأس الهرم السلطاني، بل قد تكون ناتجة أيضا عن «وشاية» أو «سعي» من طرف زملائه. لا تنسى أنّ البلاط السلطاني يجمع بين عشرات الأعوان والجلساء المجندين لخدمة السلطان. وكل واحد منهم، يعتقد في أهميته، ويتطلع إلى «القرب» من حضرته، فيحتدم الصراع بين «رجال البلاط»: هذا «كاتب» يسعى «إلى الإيقاع بوزير، وذاك «وال» «يشي» بقاض... وقد يعي السلطان هذه «الصراعات»، ويحافظ عليها، إن لم يغذها أحيانا بشكل يحافظ على قوته، ضاربا هذا بذاك... } أنت تتحدّث عن مشهد سياسي سلطاني وعن حاشية سلطانية. ألا تعتقد أن الحياة السياسية المغربية مازالت تعيش اليوم بعض المخلفات مما قلت؟ - الجميع يتحدث اليوم، حاكمين ومحكومين، عن الانتقال الديمقراطي والمشروع الحداثي ودولة الحق والقانون... الخ. وكل ما يمكن أن أقوله هو أن ما يتردد عن أن مغرب اليوم يعيش في إطار «دولة حديثة» بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني الحق والقانون والمواطنة... هو قول فيه شيء غير قليل من الادعاء. كما أنّ القول بأن مغرب اليوم يعيش في إطار «دولة سلطانية» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الاستبداد والإذلال... هو قول فيه شيء غير قليل من التجني. وفي جميع الأحوال ها نحن ننتقل من وضع إلى آخر.