رغم أقاويل بعض المغرضين والحاقدين، فإن برامج التلفزة المغربية (بقناتيها الأرضيتين ومجموع قنواتها الفضائية) تستحق المتابعة فعلا (نقصد متابعة المشاهدين لها وليس متابعة أخرى، وقى الله المواطنين وحفظهم منها)، وخاصة منها الوصلات الإشهارية (التي سميت كذلك تيمنا، دون شك، ب «الوصلات التقليدية» التي كنا نحمل عجين الخبز عليها إلى الفران). فبإجماع عدد من علماء السيميولوجيا (أو السيميوطيقا، في ما يقال والله أعلم) تعتبر الوصلات الإشهارية التلفزيونية عندنا تحفا حقيقية، يمكنها أن تدخل أية منافسات دولية (بل وحتى كوكبية) وتنتصر فيها دون تردد؛ وذلك بفضل ما تتضمنه وتكشف عنه من طاقات إبداعية ورؤى مستقبلية خلاقة؛ كما يمكن اعتبارها، حسب بعض مؤرخي الحوليات الجدد، المحترمين منهم وغير المحترمين، شهادات ووثائق تاريخية هامة عن القيم المعاصرة وعن التحولات الاجتماعية والبيئية التي تعيشها المنطقة ويعيشها عالمنا المعاصر بصفة عامة. لننظر، مثلا، إلى تلك «الوصلة» الرائعة التي تقدم فيها إحدى شركات الاتصالات ببلادنا منتوجها الجديد، المتمثل في توفير المكالمات المسموعة المرئية، لمشتركيها: إنها تقدم لنا رئيس ورش يعطي لمشغله، عن طريق تقنية الهاتف النقال، صورة كاذبة عن تطور الأشغال بالعمارة التي يشرف عليها؛ حيث يتصل المشغّل (وهو مقاول، في الغالب) بذلك الشخص ويسأله عن تطور الأشغال بالبناية فيوجّه رئيس الورش كاميرا هاتفه المحمول نحو البنائين الذين يظهرون منهمكين في الشغل بجدية وحيوية ونشاط، إلا أنه، وبمجرد انتهاء المكالمة، يتوقّف كل البنّائين عن أداء مهمتهم التاريخية ويشرعون في الغناء والرقص. هكذا تنقل إلينا هذه «الوصلة»، اعتمادا على بلاغة الإيجاز، مجموعة من الرسائل الهامة المليئة بعدد لا يحصى من الإحالات الثقافية والسوسيو-سياسية. أولها أن فضائيات الغناء والطرب التي أطلقت علينا من الفضاء في عصر «الإصلاح» الأمريكي قد أتت أكلها وحولت جميع المواطنين (أو الرعايا) العرب إلى كائنات راقصة ترفض العمل بشدة ولا تحب شيئا في الدنيا سوى الغناء والطرب؛ وثانيها أنه ينبغي الحذر من «اكحل الراس» وعدم الثقة فيه. و«اكحل الراس» هذا هو نوع من المخلوقات العجيبة التي لا تؤدي عملها إلا مكرهة وتحت الضبط والمراقبة المشددين، وعنه إنما ظهر المثل التحذيري الذي يقول «اغفل، طارت عينك» (وإن كان هناك، بهذا الصدد، من يحمّل المسؤولية مباشرة للمقاول والمهندس اللذين تركا الورش وذهبا – باعتبارهما جزءا لا يتجزأ من تلك المخلوقات- لكي «يضربا الطبل» في مكان آخر، وبالتالي فلا ينبغي أن نلوم «أهل البيت عند الرقص»). أما الرسالة الثالثة فهي أن «المشروع البنيوي» الجبار الذي تعرفه بلادنا في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة تحت قيادة عدد لا بأس به من المضاربين العقاريين مهدد بالتوقف في أية لحظة، دون شك لأن المقاولين الذين صاروا منشغلين بالعديد من المشاريع «العمرانية» دفعة واحدة «يضربون الطبل» فيها جميعا لن يتمكنوا من مراقبتها كما يجب، وبالتالي فإن عماراتهم الجديدة مهددة بالسقوط في أية لحظة على ساكنيها أو على بنّائيها قبل ذلك، الشيء الذي سيعطي مشروعية أكثر للمساكن القصديرية التي لا تنهار على ساكنيها أو للبناء العشوائي الذي «يقف» عليه أصحابه مباشرة دونما حاجة إلى كاميرا الهاتف النقال أو إلى من يراقب البناء (الليلي في الغالب) مكانهم. لذلك قد يكون من الضروري إعادة التفكير في نظرتنا «التقليدية» للوصلات الإشهارية باعتبارها مجرد دعاية أو «ريكلام» للمنتوجات الجديدة، كي نبحث في ما بين سطورها – ونحن نستمتع بها أيما استمتاع- عما تحمله من رسائل تخاطبنا وتخاطب المستقبل عبرنا، والله أعلم.