اختار الشاعر المغربي صلاح بوسريف أن يبعث رسالة مفتوحة إلى عبد الحميد عقار، رئيس اتحاد كتاب المغرب، واعتبر أن هذه الرسالة تأتي في سياق تحريك المياه الراكدة، وتفعيل النقاش حول الاتحاد في أفق المؤتمر القادم. كما تحدث بوسريف في رسالته عن «الملعب الفارغ» وفقدان اتحاد كتاب المغرب لاستقلاليته، والاستعمال السياسي الذي تعرض له. وتحفل الرسالة المفتوحة بالكثير من العتب على رئيس الاتحاد وتدعوه إلى أخذ المبادرة قبل أن تفسد الأمور، هنا نص الرسالة، ننشرها تعميقا للنقاش والحوار حول المشهد الثقافي المغربي، بهدوء وبعيدا عن الحسابات الشخصية أيا كانت. الأستاذ عبد الحميد عقار تحية التقدير والاحترام. منذ زمن وأنا، باعتباري أحد المَعْنِيين بالشَّأن الثقافي في المغرب، أتابع ما يحدُث في المشهد الثقافي ببلادنا. لا أُخفيك أنَّني مُنْزَعِجٌ، وأنّ الغضبَ الذي يُساورني هو نفس الغضب الذي يعتمِل في نفوس الكثيرين ممن يعنيهم الشأن الثقافي في المغرب. فإذا كان المشهد السياسي هو الحاضر، بفعل ما حَدثَ من انقلابات في أكثر من مجال، وهو ما تعمل وسائل الإعلام على وضعه في واجهة ما يجري، وتُسَوِّق له بكل الإمكانات المُتاحَة، وإذا كانت مهرجانات «الملعب»، بما تُمَثِّلُه من رياضات مُحَدَّدة، وأشكال موسيقية، ذات صلة بالاستهلاك الآني، فإنَّ الملعبَ الثقافي باتَ فارغاً من لاعبيه، ومِمَّن يُقْبِلُ عليه من مُهتمِّينَ ومُتَتَبِّعِين. أعرفُ أنَّ الدولةَ، حتى في حالة وُجود وزير للثقافة، كان يُفْتَرَضُ فيها أن تعمل على وضع سياسة ثقافية ذات تصوُّرات ومعالم واضحة، لم تقْدِم على إبداء حُسن النِّيَة تجاه هذا القطاع، ولم تَأْتِ أيَّة إشارة من أعلى سُلطة في البلاد، لوضع الثقافي ضمن أولويات انشغالاتنا، بل إنَّ الصَّمتَ المُطْبِقَ كان هو الجواب الحَاسِم، ليس من الدولة فقط، بل ممن كان مُفتَرضاً فيهم أن يعملوا على تحريك هذا الملف، وتقديم مُقترحات وبرامج عمل لوضع قاطرة الثقافة ضمن حركية ما يجري، وما تعمل الدولة على تمويله من برامج ومشاريع، الثقافي يبقى هو الدَّرجَة الصفر فيها. فلا الجامعةُ استطاعت أن تخرُجَ من نَفَقِها، بكُلّ ما فيها من طاقات، وتنفتِح على مُحيطها من خلال ما تعقدُه من شَراكات واتِّفاقات، مع مُؤسَّسات وجمعيات يَحْذوها نفس الانشغال، ولا المدرسة استطاعت أن تنهض من سُباتِها الذي تُؤكِّد اليوم التقارير الوافدةُ علينا من أكثر من مكان، أنَّها تُعاني موتاً سريرياً، وأنَّ مَنْ لا يقبَلُ بحقيقة ما يجري، هو مَن يُكابِر لِيُبَرِّرَ هذا الموت بِحَيَاةٍ هو مَنْ يَتَوَهَّمُها. وهذا ما جعل، الجامعة والمدرسَةَ معاً، لا تُفْضِيانِ إلاَّ إلى البطالة، والانكسارات المُتتالية، وإلى أشكال مُختلفة من اليأس والتطرُّف، لأنَّ لا أحدَ أشار إلى عراء الإمبراطور. ******** السيد الرئيس، لا أُخاطبُكَ بهذه العمومية لِأُحَمِّلَكَ تبعات ما يجري، فما في يَدِ الدَّولَةِ يبقى غيرَ ما في يَدِنا، وأنتَ تعرف أنَّنا ومنذ أكثر من عقدين من الزَّمَن، حين كُنَّا مُستَقلِّين في قراراتنا، ولا نفعَ يأتينا من أيٍّ كان، عملنا بما في نفوسنا من شَغَفٍ ثقافي على وضع الثقافي ضمن سياق ما يجري، وكُنَّا نُفاوِض، ونعمل، وفق ما كان يصدُر من مُقرَّرات وتوصياتٍ مُؤتَمَرات المُنظَّمة الثقافية التي تُشْرِفُ أنت اليومَ على تسييرها، وكان ما نقوم به من تفعيل للمشهد الثقافي، نوعاً من العمل النِّضالي، الذي تنتفي فيه الذَات، أو تتراجع عن أوهامها الصغيرة، سعياً نحو أوهام رُبَّما أكبر مما كُنَّا نتصوَّر. لمْ نَنْدَحِر بتلك السُّهولة التي كانت السُّلطة تتصوَّرُها. ******** اليوم السيد الرئيس، وقد يعود الخلل إلى ما قبل تَسَلُّمِكَ مهامَ التسيير بسنوات، أي منذ كُنتَ كاتباً عاماً للاتِّحاد، أو بالأحرى منذ أن أخفق رئيس الاتحاد آنذاك في أن يكون أميناً لاتحاد كتاب العرب، أصبح الاتحاد منظَّمَة غير ذات وُجود، أو فقدت كُلّ مُبرِّرات وشرعية وُجودِها، لتصير مُجرَّد جمعية كباقي الجمعيات التي تعمل هنا وهناك، ضمن مساحات، ربما أصغر من الحجم الذي يُفْتَرَضُ أنَّ الاتحاد شغَلهُ، في المغرب كما في الخارج لسنوات. لعلَّ هذا يعُود إلى كون الاتحاد ما زال يسيرُ بنفس آليات عمله التقليدية التي لم تتغيَّر، منذ تأسيس الاتحاد إلى اليوم. فإذا كان الاتحاد السوفياتي قد انهار منذ زمن بعيد، وتغّيَّرت كثير من القناعات والمُسَلَّمات الفكرية والإيديولوجية التي حَكَمَت ذلك الزمن، فالاتحاد ما زال يُقيمُ في سُباتِ صِيَغٍ، لم يَجْرُؤ بعد على تَرْكِها، أو وَضْعِها في سياق مُغايِرٍ. فمنذ تَسَلَّمَتْ ما سُمِّيَ بحُكومَة التناوب مقاليد تسيير الشأن العام، وقَبِلَ السَّاسَة أن يَخُوضوا رهان الحُكم، شَرَعَت مُنظَّمَتُكم في التَّنازُل عن خياراتها، أعني، أنها فقدت استقلاليتها، وحُرِّيَة عملها كمنظمة غير تابعة لأيٍّ كانَ. لقد عملت وزارة الثقافة خلال عقد من الزمن، ليس على استيعاب الاتحاد، وامتصاص حرية عمله، بل على توظيف مُسَيِّريه ضمن قطاعاتها، وهذا كان أحد أولى التنازلات التي قَدَّمها الاتحاد كشرط يَخُصُّ ذواتا وأشخاصا مُحَدَّدِين، ما انعكس سلباً على الاتحاد. ******** لا يُمكنُ، السيد الرئيس، لِمُنَظَّمَةٍ، يُفتَرَضُ فيها أن تُمَثِّل كُلّ شرائح الكُتَّاب، وما يُمَثِّلُونَهُ من حساسيات وانتماءات مختلِفة، أن تشرط وُجُودَها أولا، بشخص الرئيس، الذي هو صورة للزَّعيم ورئيس القبيلة، في نماذجهما السَّيِّئَة والقديمة. وهذا ما بدا لي في طبيعة المسؤوليات التي أصبحتُم تتحمَّلُونَها دُفْعَةً واحدةً باسم اتحاد كُتّاب المغرب؛ عُضويتُكم في المجلس الأعلى للتعليم، وفي لجنة البّتِّ في المقرارات التعليمية[انظر الوضع الذي آل إليه التعليم اليوم!]، وفي المجلس الأعلى لحقوق الإنسان، إضافة إلى مسؤوليتكم عن إدارة مجلة «الثقافة المغربية» أعني مجلة وزارة الثقافة، وإدارة مجلة «آفاق»، التابعة للاتحاد... وقد تكون هناك أشياء أخرى أنا لا أعرفُها. كيف يُمكن يا سيدي لِمَنْ شغَلَ نفسَه بكُلِّ هذه المهام أن يعمل على انتشال الاتحاد من موته. ألا يوُجَدُ داخل المكتب المُسَيِّر، أو خارِجَه، من باقي أعضاء الاتحاد مَنْ يَجْدُرُ بهم أن يُنْتَدَبُوا لتمثيل الاتحاد في هذه المؤسسات، أم أنَّ لا عُقولَ في هذا الوطن، إلاَّ عقول الرؤساء وزعماء الأحزاب والمُنظَّمات العاملة في مُختلَف دواليب الوطن.. وأنَّ تَعدُّد المهام والوظائف تَرِكَةً ورثناها عن السُّلطة، حين صار الاتحاد أداةً في يَدِها. مُجرَّد سُؤال! أعتقد أنَّه آن الأوان لإعادة النظر في ما يجري، وأن نعمَلَ على وضع الثقافي ضمن أولويات عملنا. تأمَّل السيد الرئيس، كم عدد الكُتَّاب، بما لهم من أوضاع اعتبارية، وحضور في مُختلَف أصْعِدَة المعرفة ومجالاتِها، تراجعوا إلى الوراء، ولم يعودوا معنيين بالاتِّحاد رغم عُضويتهم فيه. إنَّ آليات العمل داخل الاتِّحاد، والقوانين المُنظِّمة له، بما فيها ميثاق الشِّرف! كلُّها لم تعُد ذات جدوى، وأنَّ الاتحاد الذي كان حاضراً في مُختلَف أصعدة ومجالات العمل الثقافي، انكفأ على نفسه، وصار جمعية نائمة، كُلُّ أمورها في يَدِ الرئيس، بما في ذلك فُروع الاتحاد التي انطفأت، وأصبحت، حتى في حالة اشتغالها، تُعيدُ تكرار المشهد ذاته، لأنَّها تعملُ بدون إمكانيات، ولا مقرَّات عَمَلٍ مُحَدَّدَة. كُلُّ ما هو مُتاح من إمكانيات مادية، ولوجستية، هو ملك للمكتب المركزي. ******** إنني، السيد رئيس اتحاد كتاب المغرب المحترَم، من موقعي كأحد المشاركين في الشأن الثقافي، أدعو سيادتكم إلى إخراج الاتحاد من بَيَاتِهِ القاتِل، وَوََضْعِهِ، في سياق المُواجَهة الثقافية التي تقتضي، الحرص على مصالح الكُتَّاب والفنانين المُنتمين إليه، والعمل على توفير ما من شأنِه أن يجعلَ الكاتبَ حُرّاً، كريماً، لا رهينةً لأساليب الدَّعم، أو تقديم طلبات الترشيح، لهذه الجائزة أو تلك، أو رهينة في يَدِ أيَّة مؤسسة كيفما كان وضعُها ولونُها. هذه أمُور تَخُصُّ الاتحاد لا غيرَه من الجمعيات التي اسْتُحْدِثت بدورها لامتصاص دور الاتحاد، والقيام بنفس وظائفه، وأنتم عضو فيها! يقتضي الأمر في ما أفترض أن تمتلِكُوا ما يكفي من الجُرأة لِإحداث ما ينبغي من انقلابات في مفهوم الاتحاد، في دوره، وصيغ عمله، وفي وظيفته، وعلاقته بمُختَلَف المُؤسسات المعنية بالشأن الثقافي، أو بغيره، وهذا أمر لا يعنيك كرئيس، بل يعني جميع أعضاء الاتحاد. لا أدعو إلى مؤتمَرٍ، فهذه صيغة لم تعُد تنطلي على أحَدٍ، بل إلى عقد أيام دراسية على مستوى الفُروع، لإعداد مُقتَرحات وصيغ عمل جديدة، تعمل لجان تتشكَّل من أسماء ذات مصداقية، وتجربة في العمل الجمعوي، وحضور ثقافي نوعي، دون مُزايدات، أو حسابات ضيقة، من أجل النظر في هذه المقترحات، ووضع تقرير يُقَدَّم للمؤتمَر، يكون أرضية العمل الجديدة، بما فيها من قوانين منظِّمة، وعلى رأسها وظيفة الرئيس، والسُّلط المُخَوَّلة له، وكذلك مُدَّة انتخابه. فاستمرار الاتحاد في طريقة عمله، ورَهْنه بانتخابات مخدومَة سلفاً، هو نوع من التعطيل المقصود لأيِّ حِراك ثقافي يُفْتَرَضُ في مَن يعملون في حقل الإنتاج المعرفي، أن يحرصوا على فاعليته، وعلى صيرورتِه، لا هُدْنَةَ، ولا تنازُلَ، لأنَّ الثقافيَّ ليس هو ما يأتينا من جهات تَفْتَرِضُ فينا أن نكون أدعياء وخُطباء، أو تابعين لبرامجها، فهو نوع من العمل النبيل الذي يقتضي مِنَّا أن نحرص على مشاريعنا، وننأى بها عن كل ما هو طارئ، وآنِيٌّ زائلٌ. لن يرحمنا التاريخ، لأنَّ الأمُور تجري في سياقٍ رُبَّما نحتاج اليوم إلى وَعْيِ مزالقه، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى. ولكُم واسع النظر.