كل الظواهر والانحرافات الاجتماعية والحركات السياسية ذات الخلفية الدينية أو العرقية، تبني أسسها على عناصر سياسية، سواء اعتبرنا تلك الظواهر والانحرافات مجرد ردود فعل أو اعتبرناها واقعا طبيعيا، يمثل طموحات شرعية لفئات اجتماعية معينة. مما يعني أن عناصر الوعي، وكل التمظهرات الثقافية والفكرية التي تصاحبه، هي بالضرورة انعكاس للمحيط المباشر الذي تنشأ وتنمو فيه الظواهر والحركات. من هنا، تأتي ضرورة التعامل الجدي والمسؤول، من طرف السياسات والإجراءات ذات البعد الثقافي مع مختلف المنظومات الفكرية المتفاعلة داخل المجتمع، حتى وهي في أكثر حالات الكمون أحيانا. ولا يقتصر الأمر على التعليم الذي يشهد تراجعا كبيرا من حيث الجودة، أو الإعلام الذي مازال يتحسس طريق الانعتاق وفرض الذات، بل ينبغي استثمار وتفعيل الهياكل والبنيات التحتية التي يوكل إليها المشرع تقديم خدمات فكرية وثقافية لكافة المواطنين. إن من شأن تعامل جاد، كالذي تقترحه الخطة، أن يؤدي إلى نتائج وفوائد مزدوجة. فهو أولا يضمن مصداقية الخطابات السياسية، لأنه يتيح للجميع بدون تمييز، حق الوصول إلى المعلومات والمعارف الإنسانية، على ضوئه يمكن للملاحظين قياس مستوى التعددية السياسية والفكرية النشيطة والفاعلة داخل المجتمع. ومن جهة ثانية، فهو يشكل أداة فعالة لمقاومة الأمراض والانحرافات الهدامة ذات الأسس والأبعاد الإيديولوجية، وذلك إن عزمت الهمم العامة والخاصة على التحكم والتدبير الديمقراطي لمختلف الأنشطة التي تقدمها البنيات المذكورة. لا يخفى على أحد؛ أن الأفكار المتطرفة مردها للتأويلات الخاطئة التي تتعرض لها النصوص الدينية والإيديولوجية. وعليه؛ فإن الإصلاح لا يكون فقط عن طريق تجديد وتصحيح المجال الديني، أو محاربة الإيديولوجيات وتسطير الخطط الأمنية، بل لا بد من الاهتمام كذلك بقنوات نقل وتمرير الأفكار، أي بمختلف البنيات والهياكل المعنية في نطاق هذه الخطة. فقد بينت تجارب إنسانية عديدة؛ منذ الثورة الفرنسية مثلا، أن ربح معركة الصراع ضد منطق وهيمنة الكنيسة لم يتحقق عسكريا وسياسيا فقط، بل أساسا بواسطة السيطرة على مصادر القوة الفكرية والدعوية وكافة الأرصدة التراثية التي تم جمعها والتحكم فيها قبل وضعها رهن إشارة الجماعات المحلية، وبذلك نشأت المكتبات البلدية بفضل النواة التي سلبت من الكنيسة ووضعت تحت تصرف كل فئات المجتمع. أما اليوم، وفي ظل الخطاب الرسمي الديمقراطي-الحداثي، وأمام القوة القائمة أو المحتملة للمجتمع المدني؛ فإن المطلوب هو السهر على تكوين وتسيير المجموعات والأرصدة بأسلوب وطني متفق على أسسه وأركانه، بمساهمة مجالس إدارية تساهم في الإشراف والتدبير وجمع الارتسامات والمعطيات المتعلقة بمختلف البنيات والهياكل الثقافية. الجانب المنهجي يعتبر الملاحظون الاجتماعيون، أن التحدي الأساس الذي يواجهه العالم في المرحلة الراهنة، يكمن في الحفاظ على أعلى مستويات الكفاءة والاطلاع على المستجدات والقدرة على التكيف معها إلى جانب التحكم في أعقد وأهم الأساليب التكنولوجية الحديثة ولاسيما في مجال المعلومات، مما يضمن للمجتمع المتوفر على هذه الفعاليات الوصول بأقصى سرعة إلى مبتغياته العلمية والتقنية. لذلك فإن الدول تتنافس في جعل التكوين المستمر أحد أولويات الأنظمة التربوية والإعلامية، لمواكبة التسابق في ميادين إنتاج ورفع القيمة المضافة للقدرة التنافسية لمجتمعاتها في هذه المجالات. ورش العمل الحكومي تعمل الخطة على إقناع المتدخلين والأطراف المعنية، بأهمية إعداد سياسة حكومية ثقافية تلزم أكثر من قطاع عمومي، توكل للوزارة الأولى مسؤولية الإشراف على وضعها وتتبع تنفيذ مراحلها، وذلك عن طريق إنشاء لجنة حكومية مشتركة بين عدة قطاعات وفتح المجال فيها لمساهمة أطراف من المجتمع المدني، وبعض المختصين في الميدان، والجمعيات المهنية كجمعية أصدقاء المكتبة الوطنية والجمعية الوطنية للإعلاميين التي تضم العاملين بالمكتبات ومراكز التوثيق وجمعيات الناشرين. وتعمل هذه اللجنة على اختيار القطاعات التي ستكون معنية بتطبيق التصور المشترك، وخلق وحدات توثيقية، ومكتبات ذات طابع عمومي ومتخصص، حسب نوعية الوثائق التي تتضمنها. وسيكون على وزارة الثقافة، باعتبارها الوصي القانوني على القطاع، أن تقوم بدور هام يتجسد في الرئاسة نيابة عن الوزير الأول، ووضع التقارير التقنية وحفظها وتحرير المحاضر والمراسلات وصياغة تقرير مهني لتقييم كيفية تطبيق المساطير والمعايير بصفة دورية. على أن تدرس اللجنة نوعية المستفيدين من الخدمات، حسب القطاعات المشاركة، حيث إن بعضها يمكن بواسطة الأعمال الاجتماعية للقطاع أن تقدم خدماتها لعائلات الموظفين وأبنائهم، ومنها من يمكن أن تشارك في تزويد مدارس وجمعيات ووظائف أخرى غير ممثلة في الشبكة ببعض الوثائق إذا توفرت ظروف الثقة والأمانة للتعامل معها. تدبير وتسيير الوحدات إذا أردنا أن نحفز المواطن على القراءة، فإننا نؤسس العملية أولا على وجود بنيات وهياكل وممارسات، تبدأ من البيت والمدرسة والمحيط الذي يعيش فيه، سواء أثناء التكوين الدراسي أو العمل أو الحياة بصفة عامة. ولكي يتم تحسيسه بنوعية السلوك الطبيعي؛ يجب أن نشعره أولا بأن حصوله على مبتغاه المعرفي هو أحد الحقوق الأساسية، وأن من واجباته السعي في المطالبة بها. وهذا أمر يتعذر تحقيقه في ظل الظروف والممارسات الراهنة للقطاع. إذ ينبغي التنصيص دستوريا على هذا الحق، وتصحيح التدابير الرسمية المتبعة في الميدان، وتوفير المعطيات التي تجعل كل مواطن عالما بما حوله وقادرا على تصنيف وترتيب محاولاته الخاصة في إطار التنافس الاجتماعي الشرعي، فلا يكون بوسعه التملص من تحمل مسؤولياته إذا كان غيره قد حصل بفضل المثابرة والاجتهاد على نتائج أفضل مما عنده هو. إلى جانب ذلك، على السياسة الرسمية للميدان أن تتوفر على استراتيجية واضحة المعالم، لا تخفى فيها أحوال القطاع على أحد. فالموظف يعرف تماما ما هو مطلوب منه، ويعرف المعايير المهنية والتقنيات الضرورية، وكذلك المسؤولون والمفتشون والمتتبعون. ونلاحظ في الأحوال الراهنة عدم وجود شيء من ذلك. ويكفي مثلا أن نبحث الأسس اللازمة التي تستدعي وجود وحدة توثيقية في إدارة ما، أو مكتبة في جماعة أو جهة معينة، ونتساءل على أية أسس توجد هنا بينما تحرم جماعة أخرى تتوفر على نفس المعطيات الديمغرافية والاقتصادية أو أكثر. وطالما أن هذه الأسس غائبة فسيبقى القطاع مطبوعا بالمزاجية والفوضى والعلاقات الشخصية لمختلف المسؤولين مع هذه الجهة أو تلك، وهذه كلها لا تصلح للقيام بالتقييمات أو التفتيش، ولا تسمح للملاحظين، من جمعيات أو دارسين بالقيام بأدوار إيجابية. لإنجاز مثل هذه المعايير، يحتاج المختصون للعديد من المعطيات، تماما كما يحدث عند الرغبة في وضع دفتر التحملات لأية مؤسسة أخرى. ولهذا لا بد أولا من توفر دراسات ميدانية لتحديد عدد الوحدات المطلوب وجودها عند بلوغ أي تجمع سكني عددا معينا من السكان، وتؤخذ نسبة الأمية والتعليم وفئات الأعمار في سن النشاط الاقتصادي وموقع الجماعة من حيث انتشار المؤسسات التجارية والصناعية وبعدها أو اقترابها من المدينة... بعين الاعتبار. كما تدرس ميولات الساكنة ومطالبهم العلمية وحاجياتهم. لا بد من وضع مخططات جهوية على المدى المتوسط على الأقل، حتى لا تفاجأ الوحدة بتراكم غير منتظر، وحتى تتمكن من تقديم خدماتها لفائدة تجمعات بعيدة، لا تتوفر على بنيات خاصة بها. يستحيل القيام بعمليات التقييم في غياب تقارير شاملة تصدر بصفة دورية منتظمة. تفيد مختلف التجارب أن مردودية القراءة العمومية ترتفع وتتحسن في البنيات التي تتوفر فيها حدود دنيا للتدبير بطريقة ديمقراطية، ولهذا على كل الوحدات أن تكون مساندة بمجالس إدارية يتاح من خلالها للسكان، والجمعيات المهنية أن تشارك في السلسلة الوثائقية، ابتداء من قوائم الاقتناءات إلى متابعة الأنشطة اليومية مما يعطي للتقارير مصداقية مثلى، ويقلص من نسب السرقات والتخريب الذي تتعرض لهما المجموعات أثناء الاستعمال. نظرا لعلاقة الموضوع بالبحث والتنمية المستدامة ومحاربة الأمية وتقوية برامج التكوين المستمر، يطلب من اللجنة المختصة في البرلمان بهذه المجالات الاجتماعية أن تولي اهتمامها للميدان، وأن تتعرض له في مناقشاتها الداخلية وتقاريرها، وأن تتدخل في إطار القوانين عند اللزوم للتذكير والتصحيح والمتابعة. تعتبر الميزانيات المخصصة للمكتبات في الوضع الراهن أضعف حلقات التسيير، وعليه من الضروري أن تحتوي التعليمات التشريعية على بنود تلزم الأطراف المسؤولة عن كل الوحدات على تخصيص الميزانيات لما رصدت له، ومتابعة انعكاسها من حيث ارتفاع عدد الاقتناءات والأنشطة المصاحبة والدراسات المنجزة. ضرورة الاتفاق المسبق؛ بنص ملزم، على أهمية تخصيص نسبة من الميزانيات السنوية لاقتناء مصنفات وطنية، سواء منها الإبداعية أو المتخصصة في مجالات يطلب من الوحدة المعنية خدمتها، كما هو الأمر بالنسبة إلى الوحدات التي تتبع لمؤسسات أو إدارات تتطلب أعمالها أن تتوفر على وثائق ذات مهنية عالية. جودة الخدمات لا يمكن للسياسة الحكومية في المجال، ولا للوزارة المعنية أن تتولى أمر التدبير والتنسيق والتقييم وتسهر على مساهمة كل الأطراف، والوفاء بالتزاماتها إزاء خدمات القراءة العمومية، كما أنه ليس بوسع الوحدات القيام بما هو منوط بها من مهام ونفس الشيء بالنسبة إلى المجتمع المدني، إذا لم يكن هنالك إطار أخلاقي عام، يوضح للجميع حدود ما هو مطلوب منهم. ويكون الأداة الأساسية لكل اجتهاد محتمل أو محاسبة، إطار تحدد فيه الأهداف العامة الضرورية التي تدور حولها سياسة الدولة في الميدان، باعتبار القراءة العمومية والوحدات التي تضمن تقديم خدماتها أمرا حساسا تتحقق بواسطته ومن خلاله عدة أهداف، منها السياسي ومنها ما يكمل ويساند الجهود الوطنية في مجالات التعليم ومحاربة الأمية وإتاحة الفرصة لمن شاء كي يواصل التكوين في المجال الذي يهمه. كما يحدد التزامات الوحدات وحدود اجتهاداتها، وآفاق السياسات الرسمية وما ينتظره المجتمع من كل الأطراف الحالية والمحتملة. وباختصار، إطار يتفق على اعتباره بمثابة دستور للقراءة العمومية في شكل ميثاق وطني يحرص على لعب دور الرافعة والحكم المباشر في حالات الالتباس. ونقترح تسميته ب»الميثاق الوطني لإنعاش القراءة والمكتبات» حتى تبقى الغاية من وضعه هي تيسير التفاهم والتقارب والتعاون بين مختلف الأطراف. ومن الضروري، رغم هذه الروح، أن يشار في نفس الميثاق إلى وجود نصوص قانونية تضمن للجميع حماية حقوقهم ومصالحهم، وتضمن تحقيق الهدف الأسمى وهو رفع معدلات القراءة العمومية ومن ورائها تحسين مستويات الإقبال على رواج الكتاب والأنشطة الثقافية الجادة. ومن الواضح أن على الإعلام، بمختلف مكوناته أن يتحمل مسؤوليته في إطار هذا الميثاق، وذلك باعتباره طرفا لا غنى عنه لمصاحبة السياسات الرسمية وتوعية الرأي العام بتفاصيل الخطة والمستجدات المحتملة. مصادر تمويل الخطة يتطلب إنشاء المزيد من الوحدات التوثيقية، وإغناء المجموعات بصفة مستمرة ومواكبة المستجدات، وتغطية كافة التراب الوطني، أن تتوفر للخطة مصادر استثنائية للتمويل. ومن شأن الاعتماد على مصادر الدولة وحدها أن يؤثر على فعالية الإنجاز ويؤخر الوصول إلى الأهداف المرجوة. لذلك، فإن علينا جماعيا أن نجتهد للبحث عن مصادر إضافية. من المفيد أن يتم خلق صندوق خاص لهذه الغاية، يتم إغناؤه بفضل المساهمات التي تقدم لفائدة المشروع. ومن المقترحات التي يمكن مناقشتها في هذا الصدد مثلا : - حملة تضامن وطنية لفائدة القراءة والمكتبات. - خصم نسبة من مداخيل السياحة الخاصة بالفنادق الفخمة. - خصم نسبة محددة من مداخيل اليانصيب الوطني. - تخصيص نسبة من صندوق الحسن الثاني للتنمية. - تكليف البنوك الكبرى بأداء تكلفة الاقتناءات سنويا. - إعفاء قطاع النشر من أداء بعض الرسوم والضرائب مقابل مساهمة تدرس طبيعتها، مثل تخفيض أسعار بعض المؤلفات مثلا. - إتاحة الفرصة في وجه بعض الوحدات للاقتراض من أجل إنجاز مشاريع محددة، وتقليص الفوائد أو بدون فوائد أصلا إذا تدخلت السلطات المالية كضمان لاسترجاع هذه القروض.