النقطة الأهم في تقرير لجنة التحقيق الإسرائيلية حول حرب لبنان الأخيرة، هي الاعتراف، ودون أي لف أو دوران، بأن هذه الحرب شكلت إخفاقا كبيرا وخطيرا ولم تحقق من ورائها الحكومة الإسرائيلية أي مكاسب أو إنجازات. هذا الاعتراف الصريح بالهزيمة، ومن قبل لجنة يرأسها القاضي (فينوغراد) وتضم في عضويتها خبراء عسكريين وأمنيين، ونوابا، هو الرد على الكثيرين، ومن العرب للأسف، كتابا ومسؤولين، الذين حاولوا التقليل من الانتصار الكبير الذي حققه رجال المقاومة التابعون لحزب الله عندما صمدوا لأكثر من أربعة وثلاثين يوما في وجه الجيش الأقوى في المنطقة، واستطاعوا أن يلحقوا خسائر كبيرة في صفوفه. الكراهية العمياء للمقاومة الإسلامية، حجبت الحقائق عمدا عن الكثير من الكتاب والمحللين إلى درجة الانحياز إلى إسرائيل، والسخرية من إنجاز عظيم لم تحقق مثله الأمة منذ قيام هذه الدولة على أرض فلسطين قبل ستين عاما. تقرير فينوغراد هذا تحدث عن الإخفاقات العسكرية، ولكنه لم يتحدث عن الآثار المدمرة، النفسية منها على وجه الخصوص، على المجتمع الإسرائيلي، فهذه هي المرة الأولى، ومنذ ستين عاما تنهمر الصواريخ بالآلاف (أربعة آلاف صاروخ في المجموع) على المستوطنات والمدن في شمال فلسطين، في حيفا وطبرية وصفد والحولة، وتدفع أكثر من مليون إسرائيلي إلى الهروب جنوبا للنجاة بأرواحهم. انتصاران حققهما العرب في العامين الماضيين، الأول في جنوب لبنان، والثاني في غزةجنوبفلسطين، خففا من ضخامة الرصيد الكبير من هزائم النظام الرسمي العربي، وعززا من إمكانية قلب معادلات القوة التي كانت تميل دائما لمصلحة الإسرائيليين. انتصار لبنان أنهى مرحلة كانت تدخل فيها الجيوش الإسرائيلية في أراضي العرب، وتلحق بهم هزائم قاصمة وسريعة في أيام معدودة، وانتصار غزة أثبت أن الإرادة الشعبية أقوى من الحصار والصمت العربي الرسمي، وأثبت أن هذه الإرادة لا تقهر، وأن من استطاع التفوق على جوعه وقهره بتحطيم الحواجز في رفح، يستطيع في يوم ما، ولعله قريب، أن يقتحم حاجز إيريز والمستوطنات، والجدار العنصري، وكل رموز الاحتلال غير الشرعية على الأراضي الفلسطينية. المشكلة التي نواجهها هذه الأيام تتلخص في أن مؤشرات الضعف وبداية الهزائم الإسرائيلية لا يقابلها صعود في مؤشرات القوة العربية، فمازالت الأنظمة العربية مستكينة مستسلمة، ترضخ للإملاءات الأمريكية، وتحرص على عدم إغضاب الدولة الإسرائيلية. الدول المحترمة ذات السيادة تستفيد من انتصاراتها، وتعرف كيف توظف هزائم الأعداء لتحقيق مكاسب سياسية، وتغيير معادلات، بل واتفاقات إقليمية، إلا دولنا العربية، فقد عجزت عجزا تاما عن الاستفادة من انتصار المقاومة في جنوب لبنان، والأخطر من ذلك كانت الذراع الإعلامية للتقليل من حجم هذا الانتصار وتشويهه في إطار استراتيجية مدروسة بعناية تهدف إلى تهميش المقاومة بكل أشكالها، سواء كانت شيعية في لبنان، أو سنية في فلسطين. النظام الرسمي العربي أعاد استنساخ مبادرة السلام العربية في صيغتها القديمة، ومستجديا المسؤولين الإسرائيليين قبولها، وأرسل الموفدين عن الجامعة العربية إلى القدسالمحتلة كرسل سلام تحت ذريعة شرحها، بينما الحقيقة كانت خطوة تطبيعية جاءت استجابة لشروط إيهود أولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلي، وتأكدت هذه الخطوة في الذهاب إلى مؤتمر أنابوليس الذي دعا إلى عقده الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد إسقاط كل الشروط العربية الواحد تلو الآخر. حكومة أولمرت ربما تكون قد نجت من الاستقالة، ولكن الزلزال الذي أحدثته الهزيمة في لبنان في المجتمع الإسرائيلي ستبقى آثاره مستمرة لعقود طويلة، هذا إذا استمرت إسرائيل على صورتها الحالية، فالاحتفال بالذكرى الستين لقيام إسرائيل، الذي ستنطلق فعالياته بعد أشهر من الآن، سيكون ممزوجا بالمرارة والخوف والقلق، فالجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، لم يعد كذلك، والجندي الإسرائيلي الذي كان فخر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية هرب من غزة مكسورا، وتعرض للإذلال في لبنان مرتين، في الأولى عندما انسحب في عام ألفين معترفا بعدم جدوى بقائه في الحزام الأمني، وفي الثانية عندما عجز عن التقدم كيلومترات معدودة في جنوب لبنان وإنهاء المقاومة بالتالي. حروب إسرائيل لم تعد ضد جيوش عربية تمثل أنظمة دكتاتورية قمعية فاسدة، تنفق مئات المليارات في صفقات أسلحة من أجل العمولات ولإنقاذ الصناعة العسكرية والاقتصاديات الغربية من الانهيار، وهذه هي نقطة التحول الرئيسية التي طرأت على المنطقة، وكان من أبرز ثمارها تحطيم أسطورة دبابات الميركافا الإسرائيلية. أمن إسرائيل بات مهددا للمرة الأولى منذ قيامها قبل ستين عاما، والجيش الأسطوري لم يعد ضمانة لتحقيقه، ولا كل الممارسات الأخرى من احتلال واستيطان وعقوبات جماعية، أمن إسرائيل لا يمكن أن يتحقق إلا بالسلام الحقيقي، وللأسف لا نرى أي إرهاصات تنبئ به في وقتنا الحاضر. هذا الاعتراف الكبير بالهزيمة يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا، ونحن نرى تعاظم المؤامرات على المقاومة في لبنان، والمحاولات الدؤوبة لجرها إلى مصيدة حروب أهلية استنزافية، فما حدث أخيرا من إطلاق نار على المتظاهرين في الضاحية الجنوبية هو أحد فصول هذه المؤامرات. نخشى أن يستخدم لبنان كمصيدة لتوريط المقاومة في حرب جديدة، تكون الذريعة للهجوم الأمريكي-الإسرائيلي على إيران وسوريا، بالطريقة نفسها التي استخدمت فيها الكويت، وربما بحسن نية، من أجل اصطياد العراق، وإفراغ معاني صموده في الحرب مع إيران، وتدمير قدراته العسكرية. إسرائيل اليوم، وبعد هزيمتي لبنان وغزة، مع الفارق طبعا، هي غير إسرائيل قبلهما، وقد تحتفل في ماي القادم بالذكرى الستين لتأسيسها على حساب الكرامة العربية والإسلامية في فلسطين، ولكننا نشك في أنها ستحتفل بمائة عام على قيامها إذا استمرت على النهج نفسه، نهج الغطرسة والاستكبار والعقوبات الجماعية واحتلال أرض الغير.