قد لا تهمنا كثيرا نتائج وتداعيات تقرير لجنة القاضي المتقاعد إلياهو فينوغراد, عن حرب تموز للعام 2006 بين إسرائيل وحزب الله, (حرب الوعد الصادق بلغة الحزب), قد لا تهمنا كثيرا نتائجها وتداعياتها على الداخل الإسرائيلي, بنخبه وسياسييه وعسكره ومواطنيه, إذ كلهم مدموغون بالذهنية العسكرتارية, التي تجعل من مؤسسة الجيش قائدا للدولة والمجتمع بامتياز. وقد لا تهمنا كثيرا أيضا انعكاساته السياسية, بجهة احتمال انفراط عقد هذا الائتلاف الحكومي أو تعاظم عقد ذاك بالسلطة, فالكل, سيما بالمستويين السياسي والعسكري, متشبع لحد النخاع, بإيديولوجية الحفاظ, وإلى ما لا نهاية إن أمكن, على كيان قوي, متأهب بزمن الحرب, صلب وعنيد بزمن السلم. قد لا يهمنا كل ذلك كثيرا, بقدر أهمية الوقوف عند دلالات الاستنتاجات التي خرج بها التقرير, والتوصيات العملية التي رفعها لأصحاب القرار, بغرض استخلاص العبر مما جرى بصيف العام 2006, والارتكاز عليها لتصحيح مكامن الخلل, التي اعترت المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية, وما سواها. يقول تقرير اللجنة بصيغته المنشورة, على اعتبار أن التوصيات السرية بقيت بمجال الكتمان, يقول ثلاثة أمور جوهرية: + يقول: إنه وجدنا أخطاء وإخفاقات خطيرة في عملية صنع القرار, وفي العمل التحضيري على المستويين السياسي والعسكري, وفي التفاعل بين المستويين...ووجدنا أخطاء وإخفاقات خطيرة على مستويات القيادة العليا في الجيش, لا سيما القوات البرية, ومستوى استعداد وجاهزية القوات, وفي تنفيذ الأوامر... ووجدنا أخطاء وإخفاقات خطيرة على مستويات القيادة السياسية والعسكرية, من حيث غياب التفكير والتخطيط الاستراتيجي ... بما معناه صراحة أن إسرائيل لم تستخدم قوتها العسكرية بحكمة, وعلى نحو مؤثر, رغم أن هذه كانت حربا بادرنا إليها, وقمنا بشنها على أرض محددة . + ويقول: إنه وجدنا أخطاء وإخفاقات خطيرة في كل شيء متعلق بالدفاع عن السكان المدنيين, والتحديات التي تمثلت في الضربات التي تعرضوا لها , من لدن صواريخ حزب الله. + ثم يقول: نحن على قناعة بأن رئيس الوزراء ووزير الدفاع عملا على أساس تقييم وفهم سليمين وصادقين, لما اعتبراه ضروريا لمصالح إسرائيل... ومع هذا ينبغي التشديد على حقيقة أننا إذا امتنعنا عن إلقاء مسؤولية شخصية, فإن ذلك لا يعني عدم وجود هذه المسؤولية . يبدو, على الأقل بهذه الجوانب الثلاثة, أن التقرير لم يلوك الكلام بالمرة, ولم يقفز على الحقائق بالمطلق, ولم يعمد إلى مجاملة هذا الطرف أو ذاك, لدرجة حديثه بأكثر من مرة عن الفشل الذريع بالحرب , وخوضها بتهور كبير ودون دراسة أو تخطيط أو تحديد أهداف مدققة , ولدرجة تحميله المسؤولية مباشرة لرئاسة الوزراء ووزارة الدفاع ورئاسة الأركان, حتى وإن لم يذهب لحد تسمية الأشخاص الذين ثووا خلف ما يسميه الأخطاء والإخفاقات . إن التقرير إنما يعلنها جهارة: إن قرار شن الحرب من دون خطة موضوعة بإحكام, أظهر فشلا حادا...وأن سحق حزب الله والرجوع بالجنديين, كان طموحا يستحيل تحقيقه . لا, بل ويؤكد أن الحرب لم تحقق إنجازات سياسية ملموسة, وليس واضحا مدى تأثيرها على تسريع التسوية السياسية, وتحسين شروطها , ليوصي بالمحصلة ب ضرورة إحداث تغييرات في طريقة اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية . أيا ما تكن طبيعة وأشكال التوصيات السرية الغير متضمنة بالتقرير العلني النهائي, فإنه لم يكن من شأنها دفع رئيس الوزراء للاستقالة, باعتباره المسؤول الأول عن قرار الحرب وما استتبعه من أخطاء وإخفاقات, بل كانت مكمن رضاه , والتزامه بأخذ التوصيات مأخذ الجد, وأن حكومته ستبدأ في الأيام القادمة عملية تنفيذ التوصيات الواردة في التقرير النهائي للجنة . إن قول أحد مقربي رئيس وزراء إسرائيل ب أن تحمل المسؤولية يعني البقاء والتحسين والاستمرار في القيادة على الطريق إلى الأمام , إنما يشي قطعا بأن نذر حرب قادمة باتت حتمية لا محالة. وحتميتها هنا لا تذكيها الغصة النفسية التي خلفتها هزيمة إسرائيل أمام حزب الله فحسب, بل وأيضا تهاوي قوة الردع من بين ظهراني جيش, لطالما تفاخر الإسرائيليون بكونه الأقوى بالمنطقة, الغير قابل للهزيمة, والقادر على إلحاق الهزائم بالجيوش العربية ببضعة أيام خاطفة, فما بالك بتنظيم شبه عسكري, غير محتكم على ناصية التكنولوجيا المتطورة, والمحصور الفعل في مجال جغرافي ضيق. وحتميتها لا تشي فقط بأن الاستعدادات ستتكثف لشن حرب (على حزب الله أو على غزة أو على سوريا أو على إيران أو على غيرها), تعيد ل جيش الدفاع الإسرائيلي بعضا من كرامة استبيحت بالشكل والمضمون, بل وتشي أيضا بأهمية ذات الحرب (وستكون استباقية بكل المقاييس) لترجمة ما توافقت أمريكا وإسرائيل على تسميته ب الشرق الأوسط الجديد , لا بل وبشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية ورحى حرب تموز دائرة, لدرجة الاستنكاف عن مجاراة مجلس الأمن في مطالبته وفق إطلاق النار, طالما لم تبرز البوادر الأولى لذات الشرق الأوسط, وأقوى نذره على الإطلاق, تدمير حزب الله, بنى تحتية وزعامات قيادية. إن تقرير لجنة فينوغراد (وهو تقرير مهني بامتياز) لا ينقض فكرة الحرب من أساسها, ولا يعارضها أخلاقيا, ولا يرفض الحلول العسكرية الفاسحة في المجال لإدراك مبتغيات سياسية على الأرض, بل يمهد للفكرة إياها, ويسوغ لذات الحلول شريطة التهيؤ لها بدقة, والاستعداد الجيد لها على المستوى السياسي والعسكري, وضمان تماسك الجبهة الداخلية, وتعاطي الإعلام معها دونما تضليل أو تشويش على الرأي العام, أو الاصطفاف حول الحكومة, كما بحرب تموز. بالمقابل, فلو كان ثمة من دلالة كبرى لما صاغته اللجنة, فبجهة تأكيدها على ثلاث حقائق جوهرية, لطالما كانت مكمن مزايدة داخل إسرائيل, كما داخل لبنان, كما لدى العديدين ممن تابعوا أطوار الحرب: °- الأولى, وتكمن في اعتراف التقرير, بالجهر تارة وبالمضمر تارات عديدة أخرى, بأن أسطورة الجيش الذي لا يقهر قد تبددت, وأن من شأن أية مقاومة منظمة, ذات عقيدة متجذرة, وإن بسلاح متواضع (بجنوب لبنان, كما بفلسطين, كما بغيرهما) إلحاق الهزيمة ب جيش الدفاع , ودفعه للانسحاب كما بغزة من سنتين, أو استنزافه بحرب عصابات طويلة المدى, كما بجنوب لبنان مع حزب الله والمقاومة الوطنية. °- الثانية, وتتمثل في أن إسرائيل لم تعد للولايات المتحدة ذاك الحليف الموثوق به, ذي المضمون الوظيفي الصرف, بل باتت تشكل يوما عن يوم, عبئا استراتيجيا عليها. ولعل خذلانها لوزيرة الخارجية الأمريكية (هي التي راهنت عليها لترجمة مشروع الشرق الأوسط الجديد ) خير دليل على ذلك بالجملة والتفصيل. °- أما الحقيقة الثالثة, فمفادها أن الترتيبات السياسية ليست دائما محكومة بمدى التفوق العسكري المتاح لهذا الطرف أو ذاك على الأرض, بل وأيضا بمدى قابلية وقدرة الطرف الأضعف على المقاومة والمواجهة والصمود. كيف لإسرائيل أن تدرك النصر وتضمن الترتيبات, إذا كانت القابلية تلك والقدرة هاته, صادرة عن جهة رفعت منذ اليوم الأول للحرب, لواء الوعد الصادق ؟