في بداية سجني كانت علاقتي بمعظم الحراس متشنجة، أشتمهم في السر ويشتمونني في العلن، لم يحدث أن ألقيت التحية على أحدهم على مدى سنتين كاملتين، بعد تعرضي للتعذيب وحصولي على بعض الحقوق وعلى رأسها حقي في المعاملة كآدمي، تغيرت معاملة العديد من الحراس معي.. ومع مرور الأيام جمعتني معهم حوارات بعضها هادف وبعضها لغو بلا معنى... كثيرون من بينهم يمقتون الظلم الذي نتعرض له، وكثيرون أيضا يبررون التعذيب البشع الذي يمارس في حقنا.. ويوما وجدتني وجها لوجه أمام أحد الجلادين المرموقين في نقاش هادئ... كنت أمقته كثيرا لكن الحوار الذي دار بيننا جعلني أحس أنه ضحية من نوع خاص، القناعات التي كونتها عنه وعن أمثاله من بعيد تخلخلت إلى حد كبير، وجدتني في حيرة لا نهاية لها... كنت أذرع الساحة جيئة وذهابا وقد شارف الليل على الانتصاف.. اقترب مني الحارس «س» المعروف بشراسته وسوء طباعه، ومد يده إلي مصافحا، صافحته ببرود ولم أنبس ببنت شفة، قال: منذ مدة وأنا أحاول الحديث معك، أراك طوال الوقت صامتا، والأغرب أنك كلما مررت بجانبي لا تلقي إلي بالتحية، هل حدث بيننا شيء يوجب هذا؟ قلت: لا أرى أن هناك شيئا يمكن أن يجمع بين سجين وحارس. رد مغالبا انفعاله: لا تفكر لحظة أننا أدوات للجلد وكفى، إننا نملك قلوبا تحس وتتألم ككل الآدميين. أجبت ممتعضا: هذا واضح، خاصة حين تنهال بعصا الرحمة على نزيل مكبل، لابد وأنني أسأت الظن بك كثيرا، تلك العصا التي لا تفارق يدك شبيهة بعصي الساحرات اللائي يظهرن في الأفلام الكارتونية، يلبين بها رغبات من يقصدهن، وأنت يا «هاري بوتر» مع كل لمسة حانية لا أشك أنك تقصد دغدغة السجناء للتخفيف عنهم ما رأيت في حياتي شخصا في مثل لطفك سيدي وفي مثل إصرارك على انتزاع البسمة من شفاه البؤساء. ضحك الحارس كثيرا قبل أن يرد: ها نحن الآن رأسا لرأس، تمثل دور الضحية وأمثل دور الجلاد، فلتقل ما عندك ولأقل ما عندي.. هناك الكثير من الضباب يحيط برؤية كل منا لشكل الآخر. إنكم تمتصون دماء الناس لا تهمكم معاناتهم، زد على هذا أن ولاءكم المطلق هو للدرهم لا لشيء غيره، وأمامك قصة الذئب.. فقد تعارك عريف الضيافة مع أحد السجناء، وسكب السجين الحريرة على فراش العريف، حين أخرجوهما توعد الذئب السجين أمام الملأ بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأنه أهان واحدا من أتباعه، وعندما اقترب منه السجين مستعطفا هم بصفعه لولا أن رآه يخرج من جيبه شيئا، فانتحى به جانبا وكان أن حصل منه على مائة درهم فعاد وصب جام غضبه على عريف الضيافة وهدده إن عاد ثانية للاعتداء على ذاك الشاب بفلقة لم يحلم بها في حياته.. هذه صورتكم يا صاحبي. من قال أننا من طينة غير طينتكم نحن من طبقة واحدة، بؤساء مثلكم، ولا أميل إلى الفصل القطعي بين السجين والسجان، نحن أيضا ضحايا.. قلي بربك هل أترك أطفالي فريسة للجوع وهنا أمثال «م» يبذرون الملايين التي لم يوجفوا عليها من خيل ولا ركاب؟ ليتكم تقتصرون على أمثال «م» إذا لهانت.. وماذا عن أولئك الذين لا يملكون درهما واحدا، هل يسلمون من بطشكم؟.. أما «م» فلا أعتبره سجينا، إنه يملك هنا ما لا تملكونه في الخارج، وفوق هذا هل يستطيع أحدكم منعه من شيء؟ لكم كان «موريس بارديش» صادقا حين قال بأن سلطة المال أقوى سلطة على الإطلاق. ليكن تصورك للأشياء أكثر عمقا يا صاحبي.. عندما تحاول فهم شخصية من تتصوره جلادا في ذهنك، عليك أن تعمل على تفكيك العوامل المؤثرة في تكوين هذه الشخصية وأن تدرك حجم الضغوط النفسية التي يعيشها هذا الإنسان، وأن تدرس سلوكه ومحدداته، دون أن تغفل ما يراه هنا يوميا من صور بشعة تتحول تدريجيا إلى جزء من كيانه، إن البشاعة جزء منا شئنا أم أبينا.