يحكي السجين يوسف الحلوي في هذه السلسلة التي بعث بها إلى «المساء» من داخل السجن، كيف وجد نفسه فجأة يعذب ب«الطيارة» و«الشيفون» قبل أن يودع السجن بتهمة يقول إنه لا علاقة له بها، حيث أدين يوسف (27عاما) بسنتين سجنا بتهمة «تزوير العملة»، لتنضاف إلى سجله سنتان أخريان بتهمة «محاولة الفرار من السجن». تفاصيل أخرى كثيرة يتناولها يوسف في هذه الزاوية على شكل حلقات: - ماذا تنتظرون يا أولاد الق... ألم تسمعوا؟ أحضروا الأدوات.. همست لنفسي عن أية أدوات يتحدث؟ !.. أحضروا الفلقة وأسلاكا كهربائية وبعض العصي ودلاء المياه. كانت الساعة تشير إلى حوالي الثامنة ليلا، أخرجوني إلى الساحة المقابلة للإدارة وهب الجلادون يؤدون عملهم بجد وتفان.. العصي والأسلاك تنهش من كل أنحاء جسمي وكل ذرة مني تنطق بالألم.. طلبت منهم التوقف دون جدوى، ضغط المدير بحذائه على رقبتي مرددا: سندفنك هنا كما تدفن الحشرات، كنت أعلم أنه لن يستطيع فعل ذلك، فلو كان قادرا على دفني ما تأخر لحظة واحدة، أجبروني على الوقوف على رجلي وعلى الجري بسرعة، وبعد ذلك صبوا الماء على جسدي كما العادة، ثم أسقطوني أرضا من جديد وضربوني بعنف أشد من السابق والمدير يحثهم على المزيد.. تلاشى إحساسي بذاتي من فرط الإنهاك والتعب، لست أدري كم مرة أعادوا هذا السيناريو، كل ما أذكره أنهم في الختام قاموا بجري فوق أرضية مغطاة بالحصى المستعمل عادة في تعبيد الطرق فخلعت أظافر رجلي.. ونزفت الدماء من أصابعي، ولعل ذلك شفى غليل المدير المبجل فأمرهم بالتوقف، نقلوني بعدها إلى بيت الضيافة، وهناك أفرغ لي النزلاء مكانا بجوار باب العنبر كدليل على تعاطفهم الشديد معي، وإن لم يجرؤ أحد منهم على التعبير على ذلك صراحة، جلبوا لي غطاء من النوع الجيد لم يفلح في التخفيف من إحساسي بقساوة البرد، كنت مبتلا من رأسي إلى أخمص قدمي، لم أنم تلك الليلة فمع كل حركة تتضاعف آلامي، جسدي امتلأ عن آخره بالكدمات والخدوش، وانتفخت رجلاي بشكل مريع لدرجة أنني لم أستطع الوقوف عليهما حين هممت بالذهاب إلى المرحاض.. في الصباح قررت الدخول في إضراب لا محدود عن الطعام، وجهت رسائل للمسؤولين ألتمس منهم إنصافي وإجراء تحقيق في التعذيب الذي تعرضت له.. رويدا رويدا بدأت أستعيد ثقتي بنفسي، لقد اجتزت المسافة الشائكة في طريق التحدي الذي بدأته، لن أتراجع لم يبق إلا اليسير... تحركت أسرتي في الخارج لمساندتي واتصل بي بعض النزلاء لمدي بالمساعدة اللازمة، واتصلت بدوري ببعض الجرائد والجمعيات الحقوقية فاكتشفت عن كثب زيف الكثير من التصورات التي كونتها في خيالي عن بعض الأشخاص والهيئات والمنابر الإعلامية فالسيد مصطفى الرميد الذي كنت أرسم له صورة مثالية في ذهني وأكن له احتراما كبيرا رفض مساندتي معللا رفضه بكوني لست من السجناء السياسيين لتتبنى الجمعية الحقوقية التي ينتسب إليها قضيتي. مع توالي الأيام اعتلت صحتي وفقدت الكثير من وزني، لكنني لم أفقد الأمل. كان علي أن أنتصر لأنتقم لكرامتي.. رفضت كل مساعدة من طبيب المؤسسة خاصة بعد خيانته لواجبه المهني وامتناعه عن تسليمي لشهادة تثبت تعرضي للتعذيب.. ازدادت حالتي الصحية تدهورا لكن ذلك لم يفت في عضدي. آزرتني الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بتبنيها لقضيتي واتصلت بالسيد عبد الحميد أمين وعبد الإله بنعبد السلام فأنعشا لدي الرغبة في مواصلة النضال، كما ساندتني منظمة التجديد الطلابي بصفتي طالبا وإن لم أكن عضوا فيها.. تحركت إدارة السجن لاحتواء المشكل وحاول الجلادون التفاوض معي فرفضت، لم يكن لدي استعداد للحديث مع أناس عذبوني دون سبب، وقد حاول والدي مقاضاتهم فرضت النيابة العامة الترخيص للمحامي بزيارتي، بعدها زارني نائب المدير مستبشرا وأخبرني بأنني لن أصل إلى أبعد مما يريدون.. أنهى حديثه معي بابتسامة انطوت على آلاف المعاني وهو يردد «إن الكلب لا ينسى أخاه»... فهمت أنني أصارع طواحين عملاقة وأن الاستمرار يعني الموت لا محالة.. خضت إضرابا عن الماء لمدة يومين فأحسست بألم فظيع في كليتي اليسرى.. وفي تمام اليوم الثاني عشر للإضراب عن الطعام تقيأت بشدة.. وكدت أفقد الوعي.. كانت البرودة تسري في كل أعضاء جسمي.. ثم ارتفعت درجة حرارتي فجأة، صرت أهذي بكلام لا يستسيغه عقلي بل أن يستسيغه عقل من يسمعني، أمسك باب الضيافة الحديدي بكلتا يدي أرجه في عنف دون أن أكف عن الصراخ بأن الحق سيعلو وأن مصير الباطل إلى الزوال، وأن الجلادين سينالون جزاءهم يوما.. حين يضنيني الصراخ أستسلم وأعود لمضجعي، أحسست بغبن شديد، فلا سبيل أمامي أسلكه لأحصل على حقي في المعاملة كآدمي، وهو أمر تكفله شرائع السماء والأرض.. بدا لي أنني أعيش في جزيرة معلقة بين السماء والثرى فلا تميل إلى شريعة من هذه الشرائع.. في اليوم الخامس عشر للإضرار، حضر أحد مفتشي إدارة السجون لزيارتي، تحاملت على نفسي وتوجهت إلى مكتب المدير لمقابلته، طلب مني بلطف أن أجلس وسألني عن حالتي الصحية بأدب شديد، ثم راح بدون ما أملي عليه بخصوص ما حدث لي، في الختام قال بأنه يضمن لي بشكل شخصي أن أحصل على كافة حقوقي القانونية داخل السجن مقابل تراجعي عن الإضراب، أما متابعة الجلادين فدونها خرط القتاد، ساد بيننا صمت قصير ثم عاد ليخبرني بما سيتردد صداه في أذني إلى اليوم.. لا تصدق كل ما يقال عن حقوق الإنسان ببلادنا هناك لعبة يجب أن تفهم قواعدها، اضغط بالقدر الذي لا تودي فيه بنفسك إلى الهلاك لتحصل على ما يريدون إعطاءك إياه من الحقوق.. وأخرج قصاصة من إحدى الجرائد التي تناقلت نبأ تعرض أحد الوجوه الحقوقية البارزة للضرب في اعتصام قاده أمام مبنى البرلمان.. وكذلك كان، أوقفت إضرابي عن الطعام، وبدأت حياة جديدة داخل السجن بالحي الفرنسي لا أثر فيها للشتائم والتعنيف والقمل.. توثقت عرى الصداقة بيني ويبن بعض النزلاء واتفقنا على بذل كل ما في وسعنا لتغيير أوضاع السجن للأحسن كان السلاح الوحيد الذي نملكه هو تسريب ما يحدث في الداخل للصحف المستقلة وبعض الجمعيات الحقوقية.. وبعد جهد جهيد استمر شهورا طويلة وبتأييد من بعض موظفي السجن تقرر إلحاق المدير بالإدارة العامة.. رحل الطاغية وعيناه مغرورقتان بالدموع.. فقد منجم الذهب للأبد، لكم تاجر من المؤن المخصصة للنزلاء ولكم استولى على الهبات التي يتبرع بها المحسنون لفائدة النزلاء، لكم ابتز أصحاب الأموال وتغاضى عن ترويج الحشيش والحبوب المهلوسة والخمر.. لا أحد صدق رحيله.. حين حل المدير الجديد بعين قادوس قلنا جاء الفرج وانتهى عهد الظلم للأبد.. كان شابا يؤمن بالحوار وينبذ العنف لكنه لم يستطع تغيير النظام السائد في قلعة الشر، ورويدا رويدا غرق في الوحل حتى الركب.