ودع الأحياء عن سن التاسعة والثمانين، كان ذلك في الحادي عشر من الشهر الجاري. عاش طويلا، لكن حياته لم تكن أبدا فراغا. منذ الخمسينيات، انغمس في حب وممارسة السينما بأسلوبه الخاص، وشاركه في هذا الانغماس فتية آخرون تعلقوا جميعا بالفن السابع حد الهيام. إريك رومر، هو الاسم الذي عُرف به هذا السينمائي الكبير بينما اسمه الحقيقي هو موريس هنري جوزيف شيرير. أعطى لأفلامه بعدا دراميا جديدا فاجأ النقاد والمشاهدين في البداية لأنهم لم يعتادوا أسلوبا سينمائيا بذلك الزخم الموضوعي والشكلي الجديد. وبعد تعثر أول، كان يتوقعه رومر، استطاع أن يرسخ أسلوبه ويجد له في الفضاء السينمائي الإبداعي الفرنسي مكانا ما فتئ أن اتسع. مع الفتية إياهم، خطا رومر بالسينما الفرنسية إلى ما دون المعهود. وشيئا فشيئا وجدوا أنفسهم يؤسسون لعهد جديد، وموجة أخرى، سميت ب«الموجة الجديدة». وقد برز فيها إلى جانبه كل من جون لوك كودار وجاك ريفيت وفرانسوا تروفو... كان رومر متأدبا قبل كل شيء. فلا غرابة إذن في أن تتميز أعماله بالعمق، خاصة على مستوى جودة السيناريو وطبيعة التيمات التي عالجها من خلال سلسلات أعمال خصص كل واحدة منها لمواضيع شغلت باله وساءلت ضميره في حياته الخاصة. شكلت أعمال الموجة الجديدة في فرنسا منعطفا نوعيا، شارك فيه ثلة من الممثلين البارزين من قبيل بيلموندو ودولان وبريجيت باردو وآخرين، واصطدم روادها بعراقيل الإنتاج على خلفية عدم استئناس عموم النقاد والمشاهدين بالأسلوب الجديد في وقت كانت فيه السينما رهن أدواتها التقنية قبل أن تكون رهن قيمتها الفنية. في المغرب، كانت رياح موجة سينمائية جديدة بدأت تهب من خارج الحدود ومن داخله مع مجموعة من المخرجين الشباب، الذين أخرجوا أعمالا برزت فيها بصمتهم الفنية المتميزة. إلا أن الرياح لم تكن بالقوة الكافية التي تجعل من هؤلاء رواد موجة سينمائية محلية جديدة بعد أن تفرقت بهم السبل لدواع مختلفة يبقى الرهان المادي والتجاري محورها الأساس. منهم من ظل يشتغل في صمت دون إثارة الضوضاء من حوله، ومنهم من انساق وراء بعض ممتهني اللغو الإعلامي حتى أساء إلى مصداقية الرصيد القليل الذي كان يشفع له في تصنيفه ضمن الذين يمكن التعويل عليهم في إعادة رفع علم سينما الركاب ومن دار في فلكه، ومنهم من أبى إلا أن يبصم بصمة سينمائية بأي مداد كان ليستوفي شروط المنح التي يضعها مركز نور الدين الصايل أمام السينمائيين. قد يقول البعض إن في مواضيع بعض السينمائيين الجدد ما يشكل فعلا موجة جديدة تستحق التأريخ. ربما. ف «كازا نيكرا» رفضته فئات كثيرة من المشاهدين المغاربة، إلا أنه حصل على تزكية الصايل ليمثل المغرب في الأوسكار ! و«حجاب الحب» أثار الجدل في المغرب، لكنه لم يكن بكل السوء الذي تصور الكثيرون، وأعمال أخرى سرعان ما وجدت لها موقعا في سوق المشاهدة بعدما أثارت حولها ما أثارت. ثم ألم تكن أفلام رواد الموجة الجديدة فشلا وراء فشل في البداية؟ ربما كان الاستفزاز السينمائي المغربي الجديد مؤشرا على وجود فورة سينمائية نوعية لا زالت لم تغمرنا بفورانها. لكن، هل هي بثقل الموجة الجديدة الفرنسية الفكري؟ هل هي بكل الحمل الثقافي الذي دشنته موجة رومر وغودار وتروفو؟ لا أعتقد. في برنامج تلفزيوني بثته قناة «أرتي» في إطار تكريم رومر بعد رحيله، تحدث الأخير كما يتحدث من لا يخشى نطق الكلمات. تحدث برصانة المتمرس، وبفكر الأديب الذي هو في الأصل، وبشفافية المخرج الذي ظل وفيا لقيمه الشخصية قبل الموضوعية. أعاد مع منشط البرنامج مشاهد من أفلام زمن ولى، وأعاد على مسامع المشاهدين مثل ما ظل يعيده ويكرره من خلال أعماله، بعيدا عن طفوليات سقط فيها البعض عندنا، وتطفل أمعن فيه البعض الآخر وخواء يشع من عيون بعض ثالث.