في شهر فبراير الماضي، تفجرت قضية «مول الزفت»..قصة شاب وثق بالصوت والصورة تلاعبات خطيرة في المواد المستعملة لإنجاز مقطع طرقي بمنطقة «جمعة سحيم»، فكان مصيره الاعتقال إثر شكاية وضعها رئيس الجماعة بتهمة السب والقذف. تطورت القضية بشكل مثير، فانطلقت الاحتجاجات المطالبة بإطلاق سراح الشاب الذي لم يقم سوى بكشف المستور. لم يتأكد آنذاك إن كانت هذه الطريق قد تسلمتها الجماعة بشكل رسمي، لكن شريط الفيديو الذي تم تداوله على نطاق واسع فجر فضيحة استعمال مواد مغشوشة سهلة الاقتلاع. بتاريخ 8 فبراير، قررت المحكمة الابتدائية بآسفي الإفراج عن عبد الرحمان المكاوي. هذه القضية دفعت وزير النقل والتجهيز إلى التأكيد على أن الطريق المعنية غير مصنفة وليست تابعة للوزارة، بيد أن طبيعة المواد المستعملة، كما كشف عنها شريط الفيديو، تطرح أسئلة كبيرة حول آليات المراقبة والتأكد من احترام بنود دفاتر التحملات قبل تسلم الأشغال المبرمجة في إطار الطلبيات العمومية. هذا القطاع يشكل ركيزة أساسية لرقم معاملات عدد مهم من المقاولات، حيث انتقل المبلغ الإجمالي للاستثمارات العمومية من 167.3 مليار درهم سنة 2011 إلى 189 مليار درهم سنة 2015، أي بزيادة تقدر بحوالي 12.9 في المائة. وعرفت الاستثمارات العمومية المنجزة من طرف المؤسسات والمقاولات العمومية منحى تصاعديا، حيث انتقلت من 107.6 مليار درهم سنة 2011 إلى 115 مليار درهم سنة 2015، بزيادة قدرها 6.8 في المائة. ويوضح تقرير أنجزته مصالح وزارة الاقتصاد والمالية أن هذا الارتفاع ينطبق أيضا على الميزانية العامة والحسابات الخصوصية للخزينة ومرافق الدولة المسيرة بصورة مستقلة، والتي سجلت سنة 2015 ما مجموعه 61 مليار درهم من الاستثمارات، مقابل 47.7 مليار درهم سنة 2011. هذا الغلاف المالي المهم يكشف طبيعة الاستثمارات الضخمة المنجزة في مجالات مختلفة، ويوضح جسامة المسؤولية الملقاة على مدبري الشأن العام لمراقبة كيفية تمرير الصفقات في احترام تام لمبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص، وضرورة القيام بالمتابعة اللازمة عند تقدم أشغال إنجازها. لكن منطق الحكامة والشفافية، الذي يبقى القاعدة القانونية والأخلاقية التي يجب اعتمادها في هذا المجال، يتم في بعض الحالات تجاوزه سواء من طرف صاحب الصفقة أو حتى من طرف بعض المقاولات التي تعتمد أساليب مختلفة لنيل الصفقة وتحقيق أكبر ربح ممكن، على حساب الجودة والمدة الزمنية المخصصة لتقديم الأشغال. سندات الطلب، التي لا تتجاوز قيمتها 20 مليون سنتيم، تبقى أحد أبرز المجالات التي ترصد تقارير رسمية تلاعبات مختلفة في تدبيرها، بالنظر إلى طبيعتها المرنة، وإمكانية اللجوء إلى مفاوضات مباشرة بطرق ملتوية قصد منح السند إلى مقاولة بعينها، رغم أن القانون يؤكد على ضرورة مراسلة ثلاث مقاولات مختلفة. المادة الرابعة من مرسوم الصفقات العمومية الصادر سنة 2013 تؤكد أن الأعمال الواجب إنجازها بسندات طلب يجب أن تخضع لمنافسة مسبقة، ما عدا في الحالات التي يستحيل فيها اللجوء إليها أو كانت غير متلائمة مع العمل. ولهذه الغاية، على صاحب المشروع أن يستشير كتابة ثلاثة متنافسين على الأقل وأن يقدم ثلاثة بيانات مختلفة للأثمان على الأقل مقدمة من طرف المتنافسين المعنيين، ما عدا في حالة الاستحالة أو عدم الملاءمة. بيد أن إمكانيات التهرب من المنافسة تبقى قائمة، ومنها اللجوء إلى مقاول واحد الذي يتكلف بتقديم ثلاثة بيانات مختلفة للأثمان لشركات مختلفة، فيقوم بتحديد السعر بالطريقة التي شاء، استنادا إلى المفاوضات التي تتم مع الجهة صاحبة الصفقة. أكثر من ذلك فمرحلة التسلم تشهد خروقات تصل حد إصدار وثائق تسلم توريدات وهمية. في هذا الملف، ترصد «المساء» خبايا قطاع الصفقات العمومية، وأبرز الاختلالات والتلاعبات التي يتم اللجوء إليها للتحايل على القانون. نرصد آراء المختصين، ونعيد قراءة أبرز الملاحظات التي خلص إليها عدد من تقارير المجلس الأعلى للحسابات، استنادا إلى الافتحاصات التي تم إنجازها على مستوى جماعات محلية وإدارات ومؤسسات عمومية. سندات الطلب.. آلية مرنة جعلها مسؤولون ومنتخبون وسيلة للتلاعب بالمال العام إدارات وجماعات تلجأ إلى تشطير الصفقات الكبرى للتهرب من المنافسة بتاريخ الرابع من شهر مارس الجاري، صادق المجلس الحكومي المنعقد في الرباط على قرار استثنائي يهم رفع سقف قيمة سندات الطلب، المحددة حسب مرسوم الصفقات العمومية في 20 مليون سنتيم، إلى 100 مليون سنتيم في إطار الاستعداد لتنظيم مؤتمر المناخ كوب 22. المرسوم الخاص بتحديد كيفيات تنفيذ النفقات المبرمجة ضمن هذا الصندوق اعتبر أنه نظرا للطابع الاستثنائي لهذه التظاهرة الدولية، وبهدف وضع إطار سلس لتنفيذ الصفقات المتعلقة بهذا الحدث، فإنه تم استثناء الصفقات المنجزة في إطار ميزانية «مرفق الدولة المسير بطريق مستقلة» من بعض مقتضيات المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية. وتم في هذا السياق التنصيص على رفع سقف إبرام الصفقات عن طريق طلب العروض المحدود إلى عشرة ملايين درهم، وتحديد أجل إعلان طلب العروض المفتوح في عشرة أيام قبل التاريخ المحدد لجلسة فتح الأظرفة عوض واحد وعشرين يوما. هذا الاستثناء الذي جاءت به الحكومة، بسبب طبيعة الحدث الذي فرض إحداث صندوق خاص، يوازيه رفض لجنة الصفقات العمومية لطلبات بعض الوزراء والمسؤولين العموميين لرفع قيمة سندات الطلب. وهنا نورد قرارا برفض السماح لإحدى الوزارات برفع سقف سندات الطلب من 200 ألف درهم إلى 400 ألف درهم، وذلك قصد اقتناء معدات معلوماتية وقطع غيار وبرامج معلوماتية، إلى جانب بعض أشغال تهيئة وصيانة وإصلاح مباني إدارية. لجنة الصفقات العمومية على مستوى الأمانة العامة للحكومة ردت على هذا الطلب بأن المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية حدد اللجوء إلى المنافسة المفتوحة، مع مراعاة مبادئ الشفافية والمساواة أمام الطلبيات العمومية، كقاعدة أساسية لإسناد الصفقات العمومية، وأجاز استثناء، في بعض الحالات المحصورة، اللجوء إلى المنافسة المحدودة. وسجل رأي اللجنة أن مرسوم الصفقات العمومية أباح، تيسيرا لسير المصالح الإدارية، اللجوء إلى سندات الطلب وحدد لها سقفا لا يمكن تجاوزه، ولائحة بالأعمال التي يمكن القيام بها وفق هذا الإجراء على أساس القيام بمنافسة بين المعنيين قدر الإمكان. واعتبرت اللجنة أن المرسوم أجاز رفع سقف سندات الطلب، بموجب مقرر يصدره رئيس الحكومة، والذي يتخذه بعد استطلاع رأي لجنة الصفقات وتأشيرة الوزير المكلف بالمالية، رعيا لخصوصيات بعض الإدارات. غير أن هذا الإجراء الاستثنائي، يوضح رأي اللجنة، لا يمكن أن يكون وسيلة للتملص من المنافسة المفتوحة وفق المساطر التي حددها المرسوم. ونظرا لكل هذه المعطيات التي بسطتها اللجنة في ردها على طلب الوزير، فقد اعتبرت أن اقتناء المعدات المعلوماتية وقطع الغيار والبرامج المعلوماتية وكذا أشغال تهيئة وصيانة وإصلاح المباني، التي طلبت الوزارة المعنية رفع سقف سندات الطلب بشأنها، تعتبر أعمالا عادية ومتوقعة، ويمكن برمجتها مسبقا حسب حاجيات المصالح التابعة للوزارة كيفما كان عددها وحجمها. وأكدت في هذا الإطار أن هذا الصنف من التوريدات والأشغال لا يبرر رفع سقف سندات الطلب، الذي تقدم به الوزير، ولا يسمح بالحيد عن إجراء المنافسة المفتوحة بشأنها، ما عدا إذا استوفى الشروط التي حددها المرسوم للجوء إلى طلب العروض المحدود أو المسطرة. وإذا كان القانون قد أجاز تيسيرا لعمل الإدارة رفع قيمة سندات الطلب، فإن طبيعة هذه الآلية في حد ذاتها تطرح إشكاليات على مستوى حكامة تدبير المال العام، بشكل يجعلها في بعض الحالات مدخلا لممارسات فاسدة بعيدة كل البعد عن مبدأ المنافسة. مقتضيات مرسوم الصفقات العمومية واضحة في هذا الشأن. المادة الرابعة من هذا النص تقول إن الأعمال الواجب إنجازها بسندات طلب يجب أن تخضع لمنافسة مسبقة، ما عدا في الحالات التي يستحيل فيها اللجوء إليها أو كانت غير متلائمة مع العمل.ولهذه الغاية، على صاحب المشروع أن يستشير كتابة ثلاثة متنافسين على الأقل وأن يقدم ثلاثة بيانات مختلفة للأثمان على الأقل مقدمة من طرف المتنافسين المعنيين، ما عدا في حالة الاستحالة أو عدم الملاءمة. بيد أن الغوص في التلاعبات التي تتم في هذا المستوى يكشف أن إمكانية إغلاق الباب في وجه المتنافسين تبقى ممكنة، إذ يمكن لصاحب المشروع، من إدارات وجماعات وغيرها، أن يلجأ إلى مسؤول مقاولة معينة، فيقوم الأخير بتقديم ثلاثة بيانات مختلفة «Devis contradictoire»، على أن يحصل صاحب هذه المقاولة على سند الطلب بالسعر المتفق عليه. أكثر من ذلك، فوجود إمكانية للتلاعب ومنح سندات الطلب ل»المقربين» يجعل بعض أصحاب الصفقات يلجؤون إلى عملية تشطير للطلبيات العمومية التي تتجاوز قيمتها 200 ألف درهم إلى مجموعة من سندات الطلب، وهو الأمر الذي يخالف المقتضيات القانونية المعمول بها في هذا الشأن. صاحب الصفقة يمكن أن يعمد أيضا إلى تلاعبات أخرى لضرب المنافسة، ومنها إمكانية الإعلان عن الصفقة لفترة قصيرة على بوابة الصفقات العمومية، وفق مقتضيات المرسوم المعمول به، قبل أن يتم حذفها بشكل يمنع العديد من الشركات من الاطلاع على الإعلانات الخاصة بهذه الصفقات. بيد أن الأمر الأخطر، والذي تم تسجيله في بعض الجماعات المحلية، هو إشكالية تسلم التوريدات. إذ يلجأ المتنافس على صفقة معينة إلى تقديم بيان للأسعار يحترم جميع المواصفات والشروط المطلوبة، لكن بسعر أقل مقارنة مع باقي المتنافسين حتى يستفيد من الصفقة المعنية. غير أن عملية التسلم تشهد تلاعبات مثيرة، إذ أنه لا يتم تسليم الكميات المنصوص عليها في الإعلان، مستغلا بذلك وجود تواطؤات معينة أو غياب المراقبة المشددة. هذه الخروقات «والجرائم المالية» يمكن تسجيلها في الممارسات اليومية لبعض الجماعات والإدارات العمومية، فطابع الاستعجال الذي يمكن تجاوزه من خلال سندات الطلب، يحول الأخيرة إلى آلية تضرب في العمق حكامة وشفافية تدبير المال العام، خاصة أن هذه السندات يتم استعمالها بشكل كبير في مجالات الفندقة والمطاعم والدراسات وأدوات المكتب وغيرها. تقارير جطو.. عين الدولة على تدبير المال العام في الجماعات والإدارات القضاة رصدوا صفقات وهمية وتحويل طلبات عروض إلى سندات تلعب تقارير المجلس الأعلى للحسابات دورا محوريا في مراقبة المالية العمومية، من خلال إنجاز سلسلة من عمليات الافتحاص على مستوى الجماعات الترابية، وأيضا في مختلف الوزارات والمؤسسات والمقاولات التابعة للدولة، رغم أن مآل هذه التقارير يطرح أسئلة كثيرة حول نجاعتها وقدرتها على ردع المخالفين حتى لا يتم تكرار «الجرائم المالية» أو الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها المسؤولون العموميون بسبب «جهلهم بالقانون»، وهنا الحديث بشكل أساسي عن النخب المحلية. الغوص في عدد من التقارير يجعلنا نقف على آلاف الملاحظات والاختلالات التي رصدها قضاة المجلس، تبدأ من التلاعب في محتوى المواد موضوع الصفقة، وقد تصل حد إصدار وثائق أداءات دون تسلم أي شيء، ناهيك عن توجيه اللجان ومنح الصفقات لشركات بعينها. من أوجه الفساد التي سجلها المجلس في أحد تقاريره هو أنه تبين من خلال مراقبة مخزن إحدى الجماعات وفحص السجلات الممسوكة وكذا وضعيات استهلاك بعض المواد التي يفترض أن تمر عبر هذا المخزن، أن بعض هذه المواد لم يتم تسلمها ولا تتوفر الجماعة على أي وثائق تثبت أوجه استعمالها. أكثر من ذلك فهذه الجماعة تقوم بصفة دورية باقتناء عتاد صغير للتزيين بكميات كبيرة، إلا أنه لا يوجد أي أثر لهذا العتاد بمخازن الجماعة، ناهيك عن المبالغة في المصاريف المتعلقة باقتناء لوازم المكتب والحاسوب. وفي أحد المجالس الجماعية مكن افتحاص الوثائق المدلى بها من طرف مصالح الجماعة من الوقوف على تسجيل أداء مبالغ بعض الصفقات بناء على وثائق غير صحيحة، وبهذا يكون صاحب المشروع قد أدى كشوفات دون التأكد من حقيقة إنجاز الأشغال، ومدى مطابقتها للمقتضيات التعاقدية. ارتفاع الأسعار يبقى من الملاحظات التي تم الوقوف عليها في بعض الجماعات، وهنا أورد تقرير المجلس الأعلى للحسابات برسم سنة 2013 أن الأثمان المقدمة من طرف نائلي الصفقات، في إحدى الجماعات، تبقى مرتفعة بشكل ملحوظ مقارنة بالأثمان المطبقة في السوق. ومن أمثلة ذلك أن ثمن التكسية السطحية لبعض الطرقات المبرم من طرف الجماعات المجاورة يتراوح بين 20 و21 درهم بدون احتساب الضريبة على القيمة المضافة للمتر المربع، فيما بلغ الثمن المبرم من طرف الجماعة 41 درهما بدون احتساب الضريبة على القيمة المضافة. الملاحظة نفسها تم تسجيلها بالنسبة لأثمنة التسوية، حيث بلغت الأثمنة المبرمة من طرف الجماعة 55 درهما بدون احتساب الضريبة على القيمة المضافة للمتر المكعب بالنسبة لأشغال الردم، و40 درهما لأشغال الإفراغ، والحال أن الأثمان المطبقة في السوق لا تتعدى 20 درهما للمتر المكعب. ورصد قضاة المجلس أيضا وجود تعهدات بأثمنة منخفضة بالنسبة للأعمال غير المنجزة، حيث أبانت نتائج إحدى التحريات المنجزة في هذا الصدد بناء على المقارنة بين التقدير السري لكلفة الأعمال والبيان التقديري وكشف الحساب النهائي، أن نصف المنشئات غير المنجزة تم التعهد بها من طرف المقاول بأثمنة جد منخفضة، وهو ما يؤثر بشكل سلبي على مبدأ المنافسة. اللجوء إلى عملية «تشطير» أو «تفتيت» الصفقات تقنية يتم اعتمادها لتفادي المنافسة والمعايير المشددة. في أحد تقارير المجلس سنجد أن جماعة معينة لجأت إلى اقتناء أثاث مكتب لدى الممون نفسه بمبلغ إجمالي يقدر بحوالي 30 مليون سنتيم عن طريق ثلاثة سندات للطلب، علما أن القانون يحدد سقف تنفيذ النفقات من النوع نفسه عن طريق سندات الطلب في 200 ألف درهم. التقارير التي أنجزها المجلس الأعلى للحسابات تكشف أيضا عن الاختلالات التي يشهدها تدبير المال في بعض المؤسسات العمومية. هنا سنأخذ مثال مؤسسة دار الصانع التي أنجز فيها قضاة المجلس تحريات خلصت إلى وجود شبهة خروقات وأداءات غير مستحقة لبعض المقاولات. سنركز هنا على صفقة إعادة تهيئة المقر. عملية المراقبة مكنت من الوقوف على مخالفات لنظام الصفقات المعمول به في المؤسسة، تتجلى أساسا في إجراء تعديلات كبيرة على نوعية الأعمال المنجزة مقارنة مع دفتر الشروط الخاصة وكذا أداء مبالغ مالية عن أعمال غير منجزة. بالنسبة للمخالفات المرتبكة أثناء تفويت الصفقة، فقد لاحظ المجلس أن عددا من الأثمان الأحادية الواردة في العرض المالي المقدم من طرف صاحب الصفقة كانت منخفضة بكيفية غير عادية، وذلك على الخصوص فيما يتعلق بالسقف المعلق «Faux plafon»، المنجز من خشب الأرز المنقوش، حيث كان عرض صاحب الصفقة هو 450 درهم للمتر المربع دون احتساب الرسوم، في حين أن السعر المعمول به في السوق يتجاوز 2000 درهم للمتر المربع. وتفيد التحريات المنجزة في هذا الإطار أن قيمة الأشغال المتعلقة بإنجاز السقف المعلق كانت حاسمة في عملية تفويت الصفقة، غير أن الشركة صاحبة الصفقة لم تنجز الأشغال المذكور إلا جزئيا، أي حوالي 400 متر مربع عوض 2955 متر مربع، بنسبة 13 في المائة مما كان مقررا إنجازه حسب دفتر الشروط الخاص. المساحة المتبقية تم إنجازها باستعمال مادة الجبس. الاختلالات المرصودة في هذه المؤسسة شملت أداء مبالغ مالية عن خدمات غير منجزة. وفي هذا الصدد تم تسجيل أداء أزيد من مليون و590 ألف درهم عن مساحة أشغال هذا السقف المعلق، ككلفة إنجاز مساحة 2953 مترب مربع، في حين أن المساحة المنجزة فعليا هي 400 متر مربع. أكثر من ذلك فقد تم أداء مبلغ يقدر ب3 مليون درهم عن مساحة تقدر ب5677 متر مربع من الزليج البلدي، في حين أن هذه الخدمة لم تنجز أصلا. وفيما يخص أداء مبالغ مالية عن خدمات غير منجزة، فقد رصد القضاة أداء مبلغ مليون و500 ألف درهم عن 40 ثريا تقليدية من النحاس، في حين تم تركيب ثريا واحدة فقط مطابقة لمواصفات دفتر التحملات. كما تم أداء مبلغ مليون و760 ألف درهم عن أشغال أرض المتحف، في حين أنه لم يتم إنجاز أي أشغال داخل هذا المتحف. خلاصة الخبرة التقنية التي تم إنجازها على صعيد المؤسسة، تفيد أنه نتيجة للمخالفات السالفة، فإن فارقا قدره مليونا و390 ألف درهما يبقى مستحقا لفائدة دار الصانع. هذه أمثلة عن الاختلالات التي رصدها قضاة المجلس الأعلى للحسابات. ملاحظات وتقارير المؤسسة تطرح سؤالا عريضا عن مراقبة صرف المال العام وربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة عندما تثبت الوثائق ومؤسسة شبه قضائية في حجم المجلس الأعلى للحسابات وجود خروقات واضحة، لعل أبرزها هدر المال العام في صفقات وأشغال وهمية. الصفقات الكبرى..كعكة الملايير التي تسيل لعاب المقاولات العملاقة شركات تعتمد تقنية خفض الأسعار وأخرى تتلاعب في جودة المواد المستعملة 3200 مليار سنيتم هو حجم الاستثمارات الخاصة بقطاع النقل والتجهيز لوحده في سنة 2016. رقم ضخم يكشف حزمة المشاريع التي سيتم إنجازها من طرف مختلف المؤسسات والمكاتب التابعة للوزارة، ومنها المكتب الوطني للسكك الحديدية والشركة الوطنية للطرق السيارة والمكتب الوطني للمطارات والوكالة الوطنية للموانئ وغيرها من المؤسسات العمومية. وزير النقل والتجهيز عمد قبل أسابيع إلى تنظيم يوم إعلامي للإعلان عن البرنامج العام للاستثمارات العمومية في مختلف المجالات التي تدخل في اختصاصات القطاع الذي يشرف عليه، حتى تتمكن المقاولات من الاستعداد الجيد، تطبيقا لشروط الشفافية والتنافسية والحكامة الجيدة. بيد أن تنزيل هذه المشاريع، وما يسبقها من مساطر ومراحل لنيل الصفقات، تستلزم تعاملا صارما لإحقاق مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص بين المقاولات المتنافسة، وتطبيق المقتضيات القانونية بكل حزم عندما يتعلق الأمر بإخلال الشركات النائلة للصفقات بالتزاماتها، سواء من حيث الجودة أو آجال إنجاز الأشغال المبرمجة. في أحد اللقاءات التي جمعت محمد نجيب بوليف، الوزير المنتدب المكلف بالنقل، بممثلي بعض وسائل الإعلام، لم يتوانى الوزير في توجيه الانتقاد لبعض المقاولات التي تلجأ لتقنيات مختلفة قصد نيل الصفقة. إحدى هذه الوسائل التي تحدث عنها الوزير هي تقديم عروض أثمان منخفضة، قبل أن تلجأ المقاولة النائلة للصفقة، بعد أن تتقدم الأشغال، إلى مراسلة القطاع المعني لتعلن بأن تكاليف الإنجاز مرتفعة، فيضطر الأخير للبحث عن سبل معالجة الأمر. الاستماع لشهادات بعض المقاولين سيكشف عن آليات أخرى يتم اعتمادها لتوجيه الصفقات. سنأخذ هنا مثالا عما يمكن أن يقع داخل لجنة تقنية في إحدى الجماعات. هذه اللجنة يمكن أن تلجأ إلى إقصاء شركة معينة، دون الاعتماد على معايير واضحة ومضبوطة، في حين يمكن لصاحب مقاولة معينة أن يفوز بالصفقة رغم أن السعر الذي قدمه يساوي السعر المقترح في إعلان طلب العروض، ودون أن يقدم أي عرض أفضل من الناحية الاقتصادية. في مجال تشييد الطرق قد يتم التلاعب بالأسعار المقدمة بطرق ملتوية. فيتم مثلا رفع الأسعار المقترحة بالنسبة للهدم وإفراغ الطريق من الأتربة والأحجار، في حين تعمد المقاولة إلى خفض الأسعار المقترحة بالنسبة للأشغال الخاصة بالتكسية. المثير هو أن بعض المقاولات يمكن أن توقف المشروع بداعي «الإفلاس»، فتحصل على تكاليف إنجاز الأشطر المرتفعة التكلفة. حتى على مستوى المواد المخصصة لإنجاز طريق معين، فهناك من يعمد إلى استعمال مواد لا تحترم بنود دفتر التحملات، مستغلا بذلك تغاضي المسؤولين وضعف المراقبة. في النهاية يتسلم صاحب المشروع هذه الطريق التي تبرز عيوبها بعد فترة معينة، ليضطر من جديد إلى برمجة نفقات إصلاحها. بيد أن الأمر الأخطر هو أن يتم التلاعب، وبشكل مفضوح، بالمشاريع والصفقات التي تمس قطاعات حساسة، وعلى رأسها مجال التربية والتعليم. فالمعطيات الخاصة بإنجاز مشاريع البرنامج الاستعجالي تكشف هدر ملايير الدراهم في مشاريع بعضها يبقى «وهميا»، ومنها مؤسسات تعليمية غير موجودة رغم أن المقاولات التي تعاقدت معها بعض الأكاديميات تسلمت الميزانيات الخاصة بها. تقول بعض المعطيات الخاصة بجهة الرباط إن هناك مدارس وهمية تم تسلمها على الأوراق فقط. أكثر من ذلك فهناك مساكن إدارية غير موجودة، وتم التلاعب بوثائق تسلم المفاتيح الخاصة بها، ناهيك عن التلاعبات الخاصة ببعض البقع الأرضية وتحويل أماكن إنشاء مؤسسات تعليمية، بل وجمع بعضها في إطار لعبة «زوج في واحد». لحد الآن لازال البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين «ثقبا أسود» كما وصفه لحسن الداودي، وزير التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، في حوار سابق مع «المساء». بعض الافتحاصات التي تم إنجازها لم تخرج إلى العلن، فيما يعكف المجلس الأعلى للحسابات على افتحاص مختلف الصفقات التي أنجزتها أكاديميات المملكة. هذا التقرير سيكشف حقيقة ما وقع في هذا البرنامج الذي التهم أزيد من 40 مليار درهم. رشيد بلمختار، وزير التربية الوطنية، أعلن من جانبه في ندوة صحفية عقدها شهر فبراير الماضي، عن إحالة 7 تقارير على المجلس الأعلى للحسابات، منها ما يرتبط بالتجهيزات والعتاد. بعض المعطيات الخاصة بهذا النوع من الصفقات تفيد أنه تم تسلم معدات بعضها مقلد وأخرى مصدرها الخردة، على أساس أنها تجهيزات جيدة في حين أن بعض المعدات لم يعد لها أثر. صدوق: المقاولون لا يشتكون بسبب خوفهم من الانتقام والأغلبية ترى أن الصفقات تمرر للمقربين قال إن الفساد في الصفقات يتم بطرق ملتوية عبر دفتر التحملات وعدم تطبيق غرامات التأخير – ما هي أبرز الاختلالات التي ترصدها «ترانسبارسي» من خلال الشكايات المحالة عليكم بشأن الصفقات العمومية؟ قليلة هي الشكايات التي تتلقاها «ترانسبارنسي» في مجال الطلبيات العمومية، فأغلب الشكايات التي نتوصل بها ترتبط بعلاقة المواطنين البسطاء بالإدارات العمومية، من مستشفيات وغيرها. في المقابل، فعدد الشكايات الخاصة بالصفقات العمومية ضعيفة، والإشكالية التي نرصدها أساسا ترتبط بتمرير الصفقة. فالمقاول يعتبر أن تمرير الصفقة لمنافسه يكون فيه خلل، لكن ليست لدينا معطيات كافية حتى يمكن أن نعطي فكرة واضحة عن تعامل المقاولين مع هذا الموضوع. فالمقاولون بصفة العامة يمتنعون عن تقديم شكايات في هذا المجال، لأن هاجسهم القوي يرتبط بالحفاظ على علاقات متميزة وجيدة مع شركائهم، إذ أنهم يتخوفون من الانتقام. حتى المسائل المرتبطة بحقوقهم لا يتم الخوض فيها، رغم أن القوانين تؤكد عليها، بدليل أن النص التنظيمي الصادر سنة 1998 كان ينص على أنه إذا كان هناك متنافس يرى أن عرضه تم إقصاؤه فإنه يطلب من الإدارة أن تقدم الأسباب التي كانت وراء ذلك. بيد أنه رغم تنصيص القانون على هذا الحق، إلا أن مقاولات قليلة كانت تلجأ لهذه الآلية. وفي 2007 دعت المقاولات، عن طريق فيدرالية البناء والأشغال العمومية مثلا، إلى قيام الإدارة بطريقة ذاتية بتقديم هذه التوضيحات دون أن تتقدم بذلك المقاولات بنفسها، وهذه من المسائل التي عارضتها شخصيا، بل من اللازم أن يتحمل المقاول مسؤوليته ويطالب بالحقوق التي يوفرها له القانون. طبعا المقاول يتخوف من رد فعل الإدارة، وقد كنا ولازلنا نطالب بوضع آلية للطعون لديها سلطة القرار، يشارك فيها القطاعان العام والخاص، ويمكنها أن تتخذ إجراءات وقرارات في هذا الشأن. بصفة عامة، هناك إشكال يرتبط بمواجهة المواطنين عامة، والمقاولين والفاعلين الاقتصاديين بشكل خاص، للاختلالات المرصودة. – هل سبق ل«ترانسبارنسي أن أنجزت دراسة حول مجال الصفقات العمومية؟ لقد قمنا بإنجاز استقراء رأي في سنة 2003 بشأن تعامل المقاولين مع الصفقات العمومية، ويمكن القول إن خلاصاته لم تتغير كثيرا. المعطيات التي توصلنا إليها أبانت أن أغلبية كبيرة من المواطنين ترى أن تمرير الصفقات يتم إما عبر علاقات الصداقة أو باستعمال الرشاوى، رغم أن المساطر يتم احترامها. والحال أن هناك طرقا ملتوية تؤدي إلى تمرير صفقة معينة لفائدة مقاولة بعينها، فمثلا على مستوى كناش التحملات أو دفتر طلبات العروض يمكن أن تكون شروطه موجهة لفائدة مقاولة معينة، حيث يتم وضع معايير على مقاس الجهة التي يراد لها أن تستفيد من هذه الصفقة. هذه ممارسات جاري بها العمل، إذ أن الوضع مقارنة مع 2003 لم يتغير كثيرا، رغم أن النصوص القانونية تطورت، وهو الأمر الذي يحيلنا على مشكل كبير. فتطبيق النصوص يمكن أن يكون حرفيا ومسطريا، غير أن روح ومضامين هذه النصوص لا يتم اعتمادها، من خلال العمل على إحقاق التنافسية بشكل كبير وأن يكون الحاصل على الصفقة هو المنافس الذي قدم أحسن عرض اقتصادي. كل هذه الأمور لا تطبق بسبب وجود خلل في ميزان القوة بين المقاولة وصاحب الصفقة، فعندما نجد مقاولات كبيرة في الأشغال العمومية تنجز بين 70 و80 في المائة من رقم معاملاتها على مستوى مشاريع وزارة النقل والتجهيز مثلا، فيمكن أن نفهم بأن المقاول ليس في مصلحته المواجهة. – هذا يعني أن الفساد ليس بالضرورة منح الرشاوى، بل أيضا التلاعب في الصفقات… أكيد فالفساد لا يعني بالضرورة إعطاء رشاوى، بل تمرير صفقة معينة لصديق أو مقرب، إذ أننا نأخذ الفساد بمفهومه العام كما تحدده «ترانسبارني»، وهو الاستفادة من سلطة عمومية لأغراض شخصية. طبعا هذا الفساد لا يكون فقط في المرحلة الأولى لإبرام الصفقة، بل في كثير من الأحيان في مرحلة التنفيذ. هنا يتم غض الطرف عن جودة الأشغال وآجال تنفيذ الصفقة، ففي دفتر التحملات يكون الأجل هو 5 أشهر مثلا، في حين أنه على مستوى التنفيذ يمكن إضافة سنة أو سنتين دون تطبيق غرامات التأخير. كل هذه العناصر تؤكد أن نظام الصفقات العمومية في بلادنا لازال يعاني الكثير من العيوب والنواقص. – الحكومة اعتبرت مرسوم 2013 إصلاحا كبيرا لهذه النظام. كيف تقيم هذا النص؟ المرسوم الصادر في 2013 لم يكن إصلاحا كبيرا، بل هو إصلاح جعلنا نتقدم في بعض الأمور منها مثلا الإعلان عن قيمة التقديرية للصفقات، وهو الأمر الذي طالبت به «ترانسبارنسي». ففي السابق لم يكن يتم الإعلان عن القيمة التقديرية للصفقات، حيث يدخل المتنافس في طلب عروض دون أن يعرف قيمتها الحقيقية لأنها كانت سرية، في حين كان يتم الكشف عنها للأصدقاء. المسألة الإيجابية الثانية ترتبط بنشر تقارير الافتحاص، فالنص الخاص بتنظيم الصفقات العمومية يؤكد منذ سنة 1998 على افتحاص الصفقات التي تتجاوز 5 ملايين درهم، وهذه من بين المسائل التي لا تطبق. نحن أكدنا على ضرورة نشر هذه التقارير، وهو ما وافقت عليه الحكومة وتم التنصيص عليه في نص 2013. بيد أن هذه المقتضيات غير كافية، على اعتبار أن الإصلاح الحقيقي لمنظومة الصفقات العمومية يمر أولا بوضع سلطة للطعون. هذه السلطة صدر بشأنها مرسوم في شتنبر الماضي، إلا أنه لا يُجيب بتاتا عن الحاجيات والمعايير المعترف بها دوليا في هذا المجال، وبالتالي فالخلل لازال مستمرا. كما أن النصوص ليست كافية للرفع من مستوى الشفافية في هذا المجال، بل يجب وضع مجموعة من الآليات لمراقبة التطبيق الفعلي لهذه النصوص. فكلما فتحنا موضوع الصفقات العمومية مع هذه الحكومة أو سابقاتها فإنها تتحدث عن إدخال بعض المقتضيات لتحسين النص القانوني، في حين أنه يجب التركيز على تطبيق النصوص من خلال آليات المراقبة ونشر تقارير الافتحاص ووضع مرصد للصفقات العمومية. كما يمكن وضع جداول تتضمن الأسعار المرجعية لإنجاز المشاريع في كل منطقة استنادا إلى مجموعة من المعايير، ويمكن آنذاك للفاعلين في المجتمع المدني والصحافيين الذين يلعبون دور المراقبة أن يقوموا بمقارنات في هذا المجال – ما رأيك في من يدفع بكون توسيع اختصاصات المنتخبين قد يؤدي إلى اتساع رقعة الاختلالات المالية، ليس فقط بسبب نية القيام بذلك بل أيضا لجهل فئة منهم بالقانون والنصوص المنظمة للمجال؟ أكيد أن توسيع اختصاصات الجماعات والجهات يطرح مسألة التكوين. فمن بين المسائل المرافقة لهذا الورش العمل على التكوين، على اعتبار أنه قد تكون هناك اختلالات لكن ربما هناك مجموعة من الأمور تقع لأن المنتخبين ليست لهم دراية بها. فمن بين عراقيل إرساء جهوية متقدمة هناك إشكالية النخب المحلية، ومدى توفرها على تكوين كافي لتقود المشاريع. وإلى جانب التكوين، يمكن أيضا اعتماد نصوص قانونية مبسطة تقدم إلى جانبها توضيحات وشروحات، ففي فرنسا يتم إصدار دليل يشرح مختلف البنود، وهو ما يشكل آلية بيداغوجية للتعامل بمعرفة مع النص القانوني، والحال أنه في بلادنا يتم إصدار النص دون القيام بإجراءات مواكبة لتبسيط مضمونه. وعليه، فالدولة يجب أن تقوم بدورها البيداغوجي، خاصة على مستوى الجماعات المحلية والجهات. محمد مسكاوي *: لوبيات تحتكر صفقات للأشغال الكبرى والفساد طور آليات اشتغاله قال إن كلفة غياب الشفافية في إبرام الصفقات العمومية تقدر ب36 مليار درهم – كيف تقيم تعاطي الحكومة مع مجال الصفقات العمومية، خاصة من حيث معايير الانتقاء والمراقبة؟ بداية لابد من الإشارة إلى أن الصفقات العمومية تشكل آلية أساسية لتنفيذ السياسات العمومية والخدمات الاجتماعية، وتساهم بشكل مباشر في تنمية النشاط الاقتصادي وتهم عموم المواطنين بصفتهم دافعي الضرائب إضافة إلى الفاعلين والشركاء المعنيين المباشرين، سواء كانوا من المستثمرين العموميين أو الخواص وكذلك آلية لتنفيذ قوانين المالية خاصة في الجانب المتعلق بالاستثمار والتجهيز. بلغة الأرقام، فالدولة خصصت في قانون المالية لسنة 2016 في مجال الصفقات العمومية مجهودا استثماريا يصل إلى 61 مليار درهم في القطاعات الوزارية و12 مليار درهم للجماعات المحلية، ينضاف إليها المجهود الاستثماري للمؤسسات العمومية والشركات العامة. والحكومة مطالبة بتوحيد معايير دفاتر التحملات المتشابهة في بعض الصفقات، حتى لا يُترك المجال للاجتهاد الذي يفتح الباب في بعض الأحيان لتفصيل الصفقات على مقاس مقاولات بعينيها، والعمل على جعل الميزانية أداة لتنفيذ مخطط حكومي مندمج بعيدا عن سياسة المخططات القطاعية الاستعجالية. – هل مرسوم 2013 الخاص بالصفقات العمومية حقق نقلة نوعية في اتجاه فتح مجال التنافس وإحقاق المساواة بين المقاولات؟ نحن في الشبكة المغربية لحماية المال العام نستغرب من كون الحكومات الحالية والحكومات المتعاقبة مازالت تعمل على تهريب موضوع الصفقات العمومية من إطاره التشريعي الصرف، حيث لا بد أن يمر من مسطرة مشاريع القوانين حتى يتمكن البرلمان من مناقشته وتقديم التعديلات التي يراها مناسبة. فسلوك مسطرة إصدار هذا النص بمرسوم تجعل المبادرة مقتصرة ومنحصرة على الحكومة فقط، كما أن استشارتها لا تخرج عن نطاق نقابة الباطرونا في ظل غياب رأي البرلمان كما أسلفت سابقا وباقي الفرقاء الاجتماعيين. ودعوني أذكر هنا بتقديرات ترانسبارنسي الدولية التي تؤكد أن كلفة غياب الشفافية في إبرام الصفقات العمومية بالمغرب تصل إلى حوالي 3.6 مليار دولار (36 مليار درهم) من حوالي 130 مليار درهم أي بنسبة 26 في المائة من الاستثمارات العمومية، وحوالي 5 في المائة من الناتج الداخلي الخام. هذه أرقام خطيرة تبين قصور مرسوم 2013 عن تدارك الاختلالات التي تحيط بعملية إبرام الصفقات وتنفيذها. – ما الذي يجعل مقاولات بعينها تظفر بالصفقات، رغم وجود آليات قانونية تدعم التنافسية وشفافية الطلبيات العمومية؟ هذا مرده أيضا إلى غياب الإرادة الحقيقية في محاربة الفساد وهو ما يؤدي إلى احتكار لوبيات معينة لبعض الصفقات العمومية خاصة في الأشغال الكبرى. كما أن المكسب المهم الذي جاء به مرسوم الصفقات العمومية 20 مارس 2013 الذي خصص 20 في المائة من الصفقات للمقاولات الصغرى والمتوسطة لم يتم تنفيذه، وكان المثال الواضح هو لما أقدمت الحكومة على تجميد مبلغ 15 مليار درهم من الاستثمار، حيث أصبحت مقاولات كبيرة تتنافس أيضا على صفقات سندات الطلب التي لا تتعدى قيمتها 20 مليون سنتيم، وهو ما أدى بالعديد من المقاولات الصغرى إلى الإفلاس. إضافة إلى بعض النقائص بالمرسوم نفسه التي تغيب مبادئ الشفافية وأهمها غياب الرابط الأساسي والمتكامل الخاص بالرقابة لمؤسسات الحكامة التي نص عليها دستور 2011 مثل مجلس المنافسة، الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، مؤسسة الوسيط، وقد لاحظنا في العديد من الملفات التي نتوصل بها أن المتضررين من الصفقات العمومية لا يتم التعامل بشكل إيجابي مع شكاياتهم خاصة الموجهة إلى مجلس المنافسة. والحال كان يقتضي أن يتم التنصيص قانونيا على وجوب إيقاف تنفيذ الصفقات التي يتم بشأنها تقديم الشكايات إلى حين بت تلك المؤسسة في الشكاية، والتحقيق فيها ضمانا للشفافية وتكافؤ الفرص. ومن جهة أخرى فعندما نتحدث عن المجهود الاستثماري للوحدات الترابية، أي الجماعات والجهات ومجالس العمالات والأقاليم، ورغم أن القوانين التنظيمية جعلت الآمر بالصرف هو الرئيس بالنسبة للمؤسسة الجهوية والإقليمية فإن سلطات الوصاية أو كما أصبحت تسميتها سلطات المراقبة الإدارية لازالت تتحكم بشكل كبير في قرار الصفقات والتأشير عليها سواء على مستوى العمالات أو وزارة الداخلية التي تتدخل في بعض الأحيان لتغيير الشروط أو تعديلها. والطابع الغالب على الصفقات العمومية ببلادنا هو غياب آلية التحكيم في حالة وجود الاختلالات، في ظل بطء القضاء في البت في الملفات المتعلقة بذلك. – من خلال الشكايات التي تتوصل بها الشبكة، ما هي أبرز الاختلالات التي يتم رصدها؟ آليات الفساد بالمغرب أصبحت بدورها تتطور بفعل المتغيرات وضغط المجتمع المدني، وهي تغيرات للتحايل على بعض القوانين على علتها، حيث انتقلنا من الريع المباشر والتقليل منه إلى آليات جديدة وأهمها الاستفادة من الصفقات العمومية. فقد يتم في بعض الأحيان التضخيم من مبلغ الصفقة حتى يبقى هامش الربح كبيرا جدا، وفي أمثلة أخرى يتم تغيير محتويات الطلبيات والاكتفاء بالأرخص بدل المنصوص عليه، إلى الغش في التنفيذ وعدم التشدد في المراقبة. كما أننا في الشبكة المغربية لحماية المال العام ومنذ سنة 2013 أصبحنا نلاحظ اتجاها جديدا للفساد في مجال الصفقات العمومية والأكثر ربحا للبعض هو ميدان التدبير المفوض الذي أصبح دجاجة تبيض ذهبا خاصة في مجال توزيع الماء والكهرباء وتدبير النظافة في ظل تفصيل دفاتر التحملات على مقاس البعض، وغياب تنفيذ الاستثمارات والإجهاز على المكتسبات الاجتماعية للعمال لتوفير أكبر قدر من الربح دون أن ننسى نسج شبكة من العلاقات داخل بعض الإدارات لتسهيل الحصول على الصفقات. وهنا أقدم مثالا في قطاع تدبير النظافة فبرغم مراسلتنا لوزارة الداخلية والبيانات الاحتجاجية لم يتم فتح تحقيق مع إحدى الشركات، بل لاحظنا أنه تم الانتقال إلى الشروط التقنية في الصفقات كرد علينا وتفصيلها على المقاس مرة من خلال الآليات ومرة أخرى من حيث الأقدمية، وهذا مرتبط أيضا بحجم المدن التي ستشملها الصفقة. كما أذكر أيضا بالاختلالات التي رافقت البرنامج الاستعجالي للتعليم الذي أهدرت فيه ما يقارب 40 مليار درهم من خلال احتكار شركتين للطلبيات والتلاعب في نوعيتها، وهذا أمر خطير لأنه دمر المستوى التعليمي لآلاف التلاميذ الذين حرموا من المعدات الديدكتيكية والمختبرات العلمية. – كيف تقيم مآل تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي ترصد اختلالات وخروقات واسعة في تدبير الصفقات العمومية؟ كما قلت في عدة مناسبات، فالمغرب أصبح له مكتسب مهم في مجال الرقابة شبه القضائية المتمثلة في المجلس الأعلى للحسابات من خلال إصداره لتقارير سنوية تشمل تفاصيل عمليات المراقبة التي يقوم بها. ورغم مطالبنا بضرورة إصلاح القانون المتعلق بالمحاكم المالية والاستثمار الأمثل في أطر المجلس، نثمن تلك التقارير في شقها المتعلق بالاختلالات. لكن هنا ينتهي عمل المجلس ويأتي دور المؤسسة القضائية في متابعة الاختلالات الجنائية ودور الإدارة في متابعة الاختلالات الإدارية، ولعل أشهر تقارير المجلس في هذا المجال هو التقرير المتعلق بالتدبير المفوض الذي بين حجم الاختلالات، دون أن تقوم وزارة العدل أو رئاسة الحكومة بتحريك الملفات. وفي الختام فإننا ندعو إلى ضرورة مراجعة المنظومة القانونية للصفقات العمومية من خلال تدعيم قواعد الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص في الولوج إلى المنافسة، وتوحيد قواعد الولوج إلى الصفقات العمومية سواء تعلق الأمر بإدارات الدولة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الترابية مع توسيع الضمانات المخولة للمتنافسين، وإحداث هيئة مستقلة تسهر على التتبع والمراقبة والتقييم. مرسوم الصفقات يمنع تعارض المصالح ويدعم المقاولات الصغرى والمتوسطة الخصاصي: المرسوم وحد نظام الصفقات وأقر نشر المبلغ التقديري في طلبات العروض تفتخر حكومة عبد الإله بنكيران بالإصلاح الذي أقدمت عليه عندما تم إصدار المرسوم الجديد الخاص بالصفقات العمومية سنة 2013، في إطار إجراءات تحسين مناخ الأعمال، وإعادة النظر في كثير من التعقيدات التي كانت تساهم في عرقلة ولوج عدد من المقاولات المغربية إلى سوق الصفقات الذي تتجاوز قيمته ال100 مليار درهم. دراسة أنجزتها وزارة الاقتصاد والمالية، وتم نشرها في مجلة «المالية» التي تصدرها الوزارة، تفيد أن المرسوم الجديد دعم وحدة الأنظمة المؤطرة للصفقات العمومية، سواء بالنسبة للدولة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الترابية، وصفقات أعمال الهندسة المعمارية، وذلك لأجل تبسيط وتنميط مسار الاقتناء العمومي بالنسبة لجميع الفاعلين، وخصوصا بالنسبة للمقاولات المرشحة للطلبيات العمومية. من أبرز معالم الإصلاح تبسيط الملف الإداري للمتنافسين، بإدراج مقتضى ينص على أن الشهادة الجبائية وشهادة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والسجل التجاري لا تطلب إلا من المتنافس الذي قدم العرض الأكثر أفضلية والمزمع إبرام الصفقه معه. كما تم تحديد تركيبة اللجنة المكلفة بتقييم العروض، حسب طرق إبرام الصفقات والخصوصيات المرتبطة بصفقات الدولة أو المؤسسات العمومية أو الجماعات الترابية ومجموعاتها، مع تبيان طرق تحديد العرض الأكثر أفضلية حسب طبيعة الأعمال المنجزة، من أشغال وتوريدات وخدمات. وتفيد هذه الدراسة أن مرسوم 2013 جاء بإجراءات مشجعة وميسرة لولوج المقاولات الصغرى والمتوسطة إلى سوق الصفقات العمومية. وفي هذا الإطار تم التنصيص على أن صاحب المشروع ملزم بتخصيص 20 في المائة من المبلغ التوقعي للصفقات التي يزمع طرحها برسم كل سنة مالية لفائدة هذه الفئة من المقاولات. كما يمكنه أن يقرر تحصيص الصفقة عندما يكون من شأن هذا التحصيص أن يسمح للمقاولة الصغرى والمتوسطة بولوج الطلبية العمومية. على مستوى آليات الشفافية والنزاهة وتخليق تدبير الصفقات العمومية، تم التأكيد على منع تعارض المصالح في مجال الصفقات العمومية، سواء على مستوى أعضاء لجان طلب العروض أو على مستوى المتعهدين الذين يجب عليهم أن يوضحوا ضمن التصريح بالشرف أنهم لا يوجدون في وضعية تعارض المصالح. علاوة على ذلك يتوجب نشر المبلغ التقديري للصفقة المعد من طرف صاحب المشروع في إعلان طلب المنافسة، مع انفتاح الأنظمة المؤطرة للصفقات العمومية على إمكانية استعمال مسطرة اختيار العروض بواسطة المناقصات الإلكترونية، بالنسبة لصفقات التوريدات العادية. مجال التدبير الإلكتروني للطبيات العمومية شمل أيضا وضع قاعدة معطيات الموردين في أفق نزع الصفة المادية عن الملفات الإدارية للمتنافسين بهدف تمكينهم من التفرغ لتحضير عروضهم، إضافة إلى التعهد الإلكتروني في إطار مسار إلكتروني لإيداع وتقييم العروض يمكن من تدعيم الشفافية وتبسيط شروط تنافس المقاولات. اليوم مكن المرسوم الجديد من اعتماد أجل للانتظار في ميدان المصادقة على الصفقات، يقدر ب15 يوما، إذ لا يمكن للسلطة المختصة المصادقة على الصفقات، وذلك بهدف إتاحة الإمكانية للمتنافسين من أجل تقديم طعونهم الإدارية تطبيقا للمعايير الدولية الجاري بها العمل في هذا المجال. كما تمت إتاحة الإمكانية للمتنافسين لتقديم طعونهم وشكاياتهم أمام لجنة الصفقات بشكل مباشر ودون اللجوء إلى صاحب المشروع أو إلى الوزير المعني، وإنشاء أجل أقصاه ثلاثين يوما للرد على شكايات المتنافسين من طرف الوزير المعني أو وزير الداخلية أو رئيس الجهاز التداولي للمؤسسة العمومية بحسب الحالة، مع إلزام السلطات الإدارية التي وضعت لديها الشكايات بمسك سجل لتتبعها. ويرى عادل الخصاصي، الأستاذ الخبير في التشريع المالي بجامعة محمد الخامس في الرباط، أن تحديث مسطرة الشراء العمومي شهدت منحى تصاعديا وإيجابيا منذ إقرار أول مرسوم يهدف إلى تنظيم طرق إبرام ومراقبة الصفقات العمومية 19 ماي 1965. وسجل الخصاصي أنه «كان من الضروري لمواكبة المستجدات التي تشهدها الساحة الوطنية والدولية إجراء التعديلات الضرورية على الترسانة القانونية المنظمة للطلبيات العمومية في عدة محطات وصولا إلى سنة 2013، لأن إصلاح الإطار القانوني للصفقات العمومية هو الكفيل بتحسين مستوى تدبير الشراءات العمومية، وهو ما كان له وقع إيجابي ليس فقط على الإدارات والمقاولات العمومية والجماعات الترابية التي تنجز هذه الاقتناءات العمومية، بل أيضا على النسيج الاقتصادي الوطني وكذا المواطن المغربي». واعتبر الأستاذ الباحث أن «السياقات الناظمة لمرسوم الصفقات العمومية الحالي تدفع إلى التأكيد على أن عنصر اليقظة التشريعية كان حاضرا عند المشرع المغربي حين بادر إلى إصلاح المرسوم المنظم للصفقات العمومية بتاريخ 20 مارس 2013، ليواكب تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة وعلى رأسها ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد قواعد الحكامة الجيدة والشفافية وتخليق الحياة العامة.» ويوضح الخصاصي أن مقتضيات الأمن القانوني التي ترمي حماية كل الأطراف المتدخلة في الشراءات العمومية كانت مرعية كذلك، من خلال المنهجية التشاركية التي تم إقرارها في هذا الشأن عن طريق إشراك كل الفاعلين في تقديم ملاحظاتهم بخصوص المرسوم، الذي نشر على البوابة الإلكترونية للأمانة العامة للحكومة بهدف الإغناء و التطوير. وبخصوص المستجدات التي جاء بها هذا المرسوم، سجل المتحدث ذاته أن هذا النص دعم وحدة النظام القانوني المؤطر للصفقات العمومية، بحيث يشمل صفقات إدارات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على حد سواء، إلى جانب إدماج صفقات أعمال الهندسة المعمارية والانفتاح على التكنولوجيات الحديثة من خلال اعتماد بوابة صفقات الدولة بوابة وطنية وموحدة لجميع الطلبيات العمومية، مع إمكانية استعمال مسطرة اختيار العروض بواسطة المناقصات الإلكترونية ونزع الصفة المادية عن ملفات المتنافسين وإمكانية استعمال التعهد الإلكتروني. ويضيف أن هذه الإجراءات شملت دعم الشفافية والمساواة في الولوج إلى الطلبيات العمومية من خلال إقرار نشر المبلغ التقديري للصفقة في إعلان طلب العروض، والتأكيد على أن إلغاء طلب العروض يجب أن يتم بقرار من السلطة المختصة مع نشر هذا القرار في بوابة الصفقات العمومية، علاوة على تحديد محتوى تقرير افتحاص الصفقات ومبالغ الصفقات المعنية و كذا نشر ملخص لهذا التقرير في بوابة الصفقات العمومية. علاوة على ذلك تم اعتماد مجموعة من التدابير التي تمكن المقاولة الوطنية من معاملة بالأفضلية على مستوى الولوج للصفقات العمومية، سيما بالنسبة لصفقات الأشغال، إضافة إلى مقتضيات تجعل من المعطى البيئي عنصرا حاضرا على مستوى هذه الترسانة القانونية الجديدة. كل هذه الإجراءات التي جاء بها مرسوم الصفقات العمومية، والتي تهدف إلى إرساء معايير الشفافية والحكامة في تدبير مجال الصفقات العمومية، تستلزم أيضا ثورة تخليق للقطع مع بعض الممارسات الفاسدة التي لازالت تعاني منها الإدارة المغربية والجماعات المحلية.